شيراك والأيام السوداء

تحدث عن علاقته بصدام و«أقسم» أنه قطعها لاحقا

«كل خطوة في الحياة» المؤلف: جاك شيراك
TT

لقد شعرت بالحزن على جاك شيراك الذي كنت منهمكا في قراءة مذكراته على مدار الأيام القليلة الماضية. ففي قلب باريس تجد إعلانا شهيرا مرفقا بصورته الفارعة يقول: «كيف يحضّر شيراك نفسه للمحاكمة! اقرأوا القصة الخيالية على صفحات جريدة الـ(لوموند) في 17 حلقة». لشدما تغيرت الأيام والظروف! هذا الرجل الذي كان في أوجه إلى ما قبل فترة قصيرة والذي هيمن على الساحة السياسية الفرنسية طيلة أربعين سنة، أصبح الآن وهو في شتاء العمر مهددا بالمحاكمات والمساءلات والقضاة. لم يبق إلا أن يسجنوه! وكل ذلك أمام بصر شعب فرنسا والعالم بأسره. يا للمهانة والعار! رحت أتمتم بصوت خفيض: هذه هي حال الدنيا يا رجل، يوم لك ويوم عليك. وحذار من الأيام السوداء. من كان يتوقع أن شيراك المعتز بنفسه وعنفوانه إلى حد الخيلاء سوف يصل إلى هذا الدرك الأسفل؟ فكيف يمكن أن يمضي العطلة الصيفية قرير العين، في سان تروبيز، جوهرة الشاطئ اللازوردي، وهو يعرف أن محاكمته أصبحت على الأبواب؟ وكيف سيبلع هذه الضربة التي تعتبر سابقة في تاريخ فرنسا، وهي أنه: أول رئيس جمهورية يمثل أمام المحكمة كتلميذ صغير بعد مغادرته قصر الإليزيه. لا بومبيدو ولا جيسكار ولا ميتران ولا بالطبع شارل ديغول تعرضوا لمثل هذه الإهانة الشخصية التي لا تكاد تصدق. رحت أتساءل: هل يدفع شيراك الذي لم يعرف في حياته إلا أيام المجد والعز ثمن السعادات الأولى دفعة واحدة؟ كم غنجته والدته وكم دللته! وهل الحياة تأخذ بيد ما تمنحك إياه باليد الأخرى؟ وهذه الوقفة أمام المحكمة، تحت أنظار فرنسا كلها، ألن تلغي كل سعاداته السابقة؟ يقال إنه متشائم ومرهق نفسيا هذه الأيام لأن المحاكمة ستتم في 7 مارس (آذار) المقبل. وهو يحضر نفسه لها بدلا من أن يستمتع بالراحة والرفاهية والتقاعد الذهبي كرئيس سابق للجمهورية. لكن كيف يمكن أن ينام قرير العين وساركوزي يحرك الخيوط من وراء الستار ويريد تصفية حساباته معه دفعة واحدة؟ حقا إن الأحقاد السياسية لا تطفئها مياه دجلة والفرات..

من يقرأ مذكراته يشعر بأنه شخص قريب إلى القلب على عكس جيسكار العنجهي الارستقراطي مثلا، أو ذلك الثعلب ميتران. بالطبع للرجل نواقصه ونقاطه المظلمة مثله في ذلك مثل بقية القادة السياسيين. ولكن يبقى محببا أكثر من سواه. بعد قراءة مذكراته شعرت بأنه أكثر عمقا مما كنت أتوقع. فهو يقول هذه العبارات مثلا موضحا فلسفته السياسية: «كل سياسة تنطوي بالضرورة على تصور معين عن الإنسان. وكل تصور عن الإنسان يرتكز على قاعدة دينية مضمرة أو صريحة. وبالنسبة لي، فإن تصوري يرتكز على ألفي سنة من تاريخ المسيحية، ويتغذى من المبادئ الروحية والإنسانية التي علموني إياها أثناء طفولتي، خاصة أمي. ولكن إيماني المسيحي هذا لا يبعدني أبدا عن المؤمنين بالعقائد الأخرى أيا تكن أديانهم أو مذاهبهم. بل ولا يبعدني حتى عن غير المؤمنين ما دمنا نبحث جميعا عن عالم أكثر عدالة وسلاما». ثم يضيف قائلا: «لا معنى لأي سياسة اقتصادية أو سواها، إلا إذا كانت ذات نزعة إنسانية. والنزعة الإنسانية تعني أنه لا يمكن أن ننجز أي شيء عظيم خارج الإنسان أو خارج الاحترام المطلق للحريات الفردية للإنسان. النزعة الإنسانية تعني الاحترام الكامل لكرامة أي كائن بشري بغض النظر عن أصله وفصله أو عرقه ودينه ومذهبه».

من يستطيع أن يقول أفضل من ذلك؟ هذا يعني أنه في إمكانك أن تكون مؤمنا بدينك ومحبا له، وفي الوقت ذاته متسامحا مع الآخرين وقابلا، كل القبول، لاختلافهم عنك في العقيدة. وهنا تكمن المعضلة الكبرى المطروحة علينا حاليا. ومعلوم أنه كان ينوي تأسيس مركز لحوار الحضارات ولكن مشكلاته القضائية شغلته عن ذلك. والواقع أن ساركوزي يقف له بالمرصاد ويريد تحجيمه وتحطيمه بأي شكل وهو الذي حطم عشرات الشخصيات أثناء صعوده المدوي في السبعينات والثمانينات. الدنيا دوارة فعلا والدهر قلاب: «من سَرّه زمنٌ ساءته أزمان». لا تدوم لأحد يا إخوان!

في الكتاب يعترف شيراك بأنه كانت له علاقة صداقة مع صدام حسين لفترة من الزمن. ويسرد تاريخ هذه العلاقة وتقلباتها. ولكنه يحلف بأغلظ الأيمان على أنه قطعها عندما عرف بتصفياته الدموية لشعبه. في الوقت ذاته يعلن استنكاره للطريقة التي أعدم بها ويقول إنها لم تكن لازمة ولا حضارية. في الكتاب أيضا صفحات أخرى عن علاقاته مع الزعماء العرب وكيف أنهم أحبوه لأنه الأقرب إليهم نفسيا وشخصيا من بين كل زعماء فرنسا. وبالفعل، فإنه يحظى بشعبية في الأوساط العربية على عكس كل رؤساء فرنسا الآخرين باستثناء ديغول بالطبع. ومعلوم أن السياسة العربية لفرنسا كانت قد أسست في عهد شارل ديغول. من هنا جاءت الشعبية الهائلة التي يتمتع بها قائد فرنسا الحرة في العالم العربي. وهي شعبية ناتجة أيضا عن تصديه للعنجهية الإسرائيلية وانتصاره للحق والعدل. في الكتاب يعلن شيراك عن «ديغوليته» ويتحدث عن أول لقاء له مع أكبر زعيم فرنسي في القرن العشرين وربما منذ نابليون. فالفرنسيون أصبحوا يتحدثون الآن عن ثلاث شخصيات شكلت مجدهم السياسي وهويتهم الوطنية: لويس الرابع عشر باني قصر «فرساي»، ونابليون، وشارل ديغول. ويعترف شيراك بنوع من الأسى بأن رجال السياسة لا يحظون بالأبدية والخلود مثل الشعراء والفلاسفة وكبار الفنانين. فبعد أن يمر عهدهم ينساهم الناس حتى ولو كانوا رؤساء جمهوريات. فمن يتذكر مثلا اسم رئيس جمهورية فرنسا في عهد فيكتور هيغو؟ إنه جول غريفي. هل يعني لكم هذا الاسم شيئا؟ ويقول إن ديغول هو الاستثناء الوحيد على القاعدة لأنه دخل التاريخ حيا فما بالك به ميتا!

في الكتاب نوادر كثيرة تستحق الذكر. سوف أتوقف عند إحداها لأنها ذات دلالة كبيرة لمن يعرف السياق الفرنسي وحيثياته. في أحد الأيام ذهب شيراك إلى الملياردير الشهير صانع الطائرات مارسيل داسو الذي كان يعتبره بمثابة والده. فوجده في حالة من الغضب لا توصف؛ بل ورآه يطرد إحدى الشخصيات اليهودية الكبرى من مكتبه طردا. فاستغرب شيراك ودهش فعلا. وعندئذ قال له داسو وهو لا يزال تحت تأثير الغضب العارم: «هل تعرف لماذا جاءني هذا الشخص؟ هل تعرف ماذا قال لي؟ جاء لكي يقنعني بأننا يهود وإسرائيليون قبل أن نكون فرنسيين! وأنا أرفض ذلك رفضا قاطعا. أنا ولائي الأول هو لفرنسا». فسُرّ شيراك بذلك وتوطدت علاقتهما أكثر فأكثر بعد أن أصبح رئيسا للوزراء ثم رئيسا للجمهورية.

العزاء الوحيد لشيراك هو أن مذكراته بيعت بمئات الآلاف من النسخ وأمنت له مبلغا ضخما يصل تقريبا إلى نصف المليون يورو. وقد أهداه للجمعيات الخيرية والإنسانية لأنه ليس في حاجة إلى «الفلوس» على ما يبدو. يضاف إلى ذلك أن شعبيته أصبحت مرتفعة في أوساط الشعب الفرنسي بعد أن ترك السياسة. هذا أيضا يشكل عزاء كبيرا له في هذه الظروف الحرجة ويزعج الرئيس الحالي الذي كان من تلامذته قبل أن ينقلب عليه. فالسياسة لا دين لها، السياسة لا ترحم. بقي أن نقول إن عنوان الكتاب «كل خطوة في الحياة» ينبغي أن يكون هدفا في حد ذاته، وهو مأخوذ من الكاتب الألماني الشهير غوته.