الغجر.. سيرة عذاب وحاضر مأساوي

يقدر عددهم بـ 30 إلى 40 مليون نسمة ولا يعرف أحد موطنهم الأصلي

الغجر - ذاكرة الأسفار وسيرة العذاب المؤلف: جمال حيدر الناشر: المركز الثقافي العربي - بيروت
TT

يقدر عدد الغجر في العالم اليوم بثلاثين إلى أربعين مليون نسمة، مشتتين في عشرات الدول الموزعة في قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا وأميركا. وهم على الرغم من هذا العدد الكبير نسبيا محرومون من أي كيان سياسي أو ثقافي أو تنظيمي من أي نوع كان. كما أن منشأهم وموطنهم الأصلي وتاريخهم ظل أمدا طويلا محاطا بالغموض وبالخلاف بين الباحثين في كل ما يتعلق بهم. ولم يتصد أحد منهم إلى سد هذا النقص على مدى القرون التي أعقبت تشتتهم في كل بقاع العالم تقريبا. وإذا ما عرفنا أن لغتهم تخلو من فعلي يقرأ ويكتب، كما يذكر جمال حيدر في كتابه المعنون: «الغجر - ذاكرة الأسفار وسيرة العذاب» يمكن أن نعرف سبب ذلك.

يذكر المؤلف أن «التطورات المتسارعة في العقود الأخيرة أفضت إلى تغيرات في نظرة الآخرين إلى الغجر، بحيث أغرى التطلع نحو الحرية والتمرد العديد من الكتّاب والشعراء والفنانين في البحث عن المجهول والمخفي في عالم الغجر».

وعدد المؤلف بعض هؤلاء الكتاب مثل الإسباني سرفانتيس الذي مجدهم في روايته «دون كيخوته»، والفرنسيين جورج دي بيزيه في أوبرا «كارمن»، وفيكتور هوغو في روايته «أحدب روتردام»، والشاعر الروسي بوشكين في ملحمته «الغجر» ورائعة مكسيم غوركي «الغجر يصعدون إلى السماء» والشاعر الإسباني لوركا في مجموعته «أغاني الغجر». ومن الجدير بالذكر أن عددا من هذه الأعمال أخذ طريقه إلى الانتشار الواسع عن طريق أفلام سينمائية رائعة شاهدها مئات الملايين من البشر، وأكسبت الغجر تعاطف الأوساط المثقفة والمناصرة لحقوق الإنسان، خلافا للنظرة القاسية التي لا تزال تسود الأوساط الواسعة التي تنظر إليهم نظرة دونية تسببت في تهميشهم اجتماعيا وتعرضهم إلى شتى أنواع الاضطهاد والتمييز التي عانوا منها كثيرا على مدى القرون الماضية.

قسم المؤلف كتابه إلى ثمانية فصول، خصص الفصل الأول للحديث عن «الهوية» مرجحا أن موطنهم الأصلي، قبل تشتتهم هو الهند وليس مصر، كما يذهب بعض الباحثين خطأ، وأنهم في ملامحهم يميلون إلى السمرة الشديدة بصفة عامة، ويتطابق لون شعرهم مع لون بشرتهم، ولهم أسنان براقة وعيون لامعة وقامة قصيرة ومنكبان عريضان. هذا بالنسبة للرجال أما النساء فذوات لون شديد السمرة وشعرهن أسود طويل. وليس للغجر ملابس قومية لأنهم يرتدون ملابس الشعوب التي يعيشون معها مع بعض ما يميز ملابس نسائهم من حيث البهرجة واستخدام بعض الحلي المصنعة يدويا كتعاويذ ضد السحر. والغجر، بحسب المؤلف ينقسمون إلى ثلاث مجموعات رئيسية، وإلى جانبها ثمة جماعات غجرية أخرى تتطابق مواصفاتها مع إحدى المجموعات.

وأفرد المؤلف الفصل الثاني لقيم الغجر وأعرافهم. وذكر أن جهل الغجر بالكتابة وعدم وجود لغة مدونة خاصة بهم أديا إلى ضياع المعاني الأصلية للقوانين والأعراف التي توارثوها جيلا بعد آخر، إذ انتقلت شفاها مما أدى إلى تغيير مضامينها ومعانيها. وهم يعتبرون الأسرة هي الآصرة الاجتماعية الواضحة في قيمهم، ويتسع مفهوم الأسرة ليشمل الأقارب بما يجعل العشيرة الوحدة الاجتماعية الأساسية بعد الأسرة. وتحدث المؤلف في هذا الفصل عن معتقدات الغجر الدينية وعن الحب والزواج والطلاق والخصوبة والولادة والموت والدفن.

أما الفصل الثالث فخصصه المؤلف للسلوك عندهم، مبتدئا إياه بمطلع أغنية غجرية تقول: «أفضل أن أكون مطرقةً بدلا من مسمار/ أجل أفضل/ لو كنت أستطيع لفضّلت». فقد قاوموا محاولات الانصهار والتفتت والعنف المتصاعد ضدهم ولجأوا إلى الكذب بقصد الهروب من واقعهم المؤلم.

ويستعرض المؤلف في الفصل الرابع من الكتاب الغجر في المنطقة العربية وأسماءهم في كل بلد منها. فهم في العراق «كاولية» وفي الشام ومصر «نَوَر» وفي صعيد مصر والسودان «حلب» وفي الجزيرة العربية «زط» إلى جانب تسميات أخرى. وأسهب المؤلف في استعراض تاريخهم في البلدان العربية وما عانوه فيها. وعن المهن التي امتهنوها وخصوصا الرقص والغناء وما حصدته بعض فرقهم من شهرة في هذا المجال وخصوصا في العراق في أيام حكم البعث.

وفي أكبر فصول الكتاب وهو الفصل الخامس المعنون «حول الأرض» تقصى المؤلف أوضاع الغجر وما عانوه من ملاحقات واضطهاد على مدى تاريخهم في شتى بقاع الأرض من إيران إلى تركيا إلى أوروبا بدولها كافة تقريبا وفي أميركا أيضا. في المقابل خصص الفصل السادس، الذي عنونه بـ«الهولوكوست» لما عاناه الغجر على أيدي النازيين، ليس في ألمانيا فحسب، بل وفي الدول التي احتلوها خلال الحرب العالمية الثانية، فقد ابتدأوا حكمهم بجرد الغجر كما فعلوا مع اليساريين واليهود والمعاقين، تمهيدا لملاحقتهم ومصادرة أموالهم وإبادتهم لاحقا وإفراغ ألمانيا منهم، واحتوى الفصل على وقائع مذهلة لما عاناه الغجر من مظالم على أيدي النازيين التي وصلت حد الإبادة الجماعية، الأمر الذي برر تسمية الفصل بـ«الهولوكوست».

ولعل أجمل فصول الكتاب هما الفصلان الأخيران، وهما عن «فنون الغجر» و«أساطيرهم». فقد أورد المؤلف شعرا غجريا في بداية فصل الفنون يقول الشاعر فيه: «لم أعرف أبي أبدا/ وليس لي أصدقاء/ ماتت أمي منذ زمن/ وتركتني حبيبتي غاضبة/ أنت وحدك يا كماني/ ترافقني في هذا العالم»؛ إذ لا يمكن تصور الغجري دون آلة موسيقية. فالموسيقى بالنسبة للغجر هي بمثابة الصرخة المدوية على امتداد الدهور التي لامسوا خلالها أقسى أنواع العذابات والمعبرة عن شهوة الحياة التي طالما حلموا بها، كما يقول المؤلف. أما في الفصل الأخير فيسرد الكاتب كثيرا من أساطير الغجر التي ترافقت مع حياتهم على شكل قصص قصيرة متخمة بالتفاصيل اليومية وبالرموز المرتبطة مع أسلوب حياتهم والعبر المستقاة منها.