متحف لجوائز نوبل خلال مائة عام 1901 ـ 2001

أفلام وثائقية تبرز جوانب من نشأة وحياة وأعمال الفائزين بمختلف فروع الجائزة

TT

في بداية الشهر الاخير من كل عام تشهد العاصمة السويدية ستوكهولم حركة غير اعتيادية، حيث يتوافد عدد من رجالات العلم والادب والفن وعائلاتهم، من اماكن مختلفة من العالم ليحلوا ضيوفا على بلدية ستوكهولم ومؤسسة جوائز نوبل، ويأخذ الفائزون بجوائز نوبل في الأدب الطب والفيزياء والكيمياء والاقتصاد اماكنهم في المنتديات العلمية والثقافية لالقاء المحاضرات امام حشد من المدعوين وعدسات وميكروفونات وسائل الاعلام المحلية والدولية، حتى يحل العاشر من ديسمبر (كانون الاول) يوم توزيع الجوائز. ثم يجتمع الفائزون، صباحا، في واحدة من ارقى صالات دار الحفلات الموسيقية للتمرن على طقوس تسلم الجوائز التي تجري بعد ظهر اليوم ذاته في نفس الصالة وتبدأ بكلمة مقتضبة لملك السويد، ليتقدم بعدها الفائزون حسب الترتيب وهم يرتدون بدلات الاحتفال الخاصة بهذه المناسبة على انغام موسيقى ظلت تتردد كل عام في مثل هذا الوقت منذ قرن مضى. وبعد ان يتم تسليم الجوائز يتوجه الفائزون والمدعوون الآخرون شخصيات سياسية وثقافية وفنية ودبلوماسية من بلدان مختلفة، الى القاعة الزرقاء في مبنى دار بلدية ستوكهولم لاستكمال مراسم الاحتفال الذي تحييه فرق شعبية واخرى معاصرة. بعد ذلك، يتناول الجميع عشاء نوبل الفاخر الذي يجري وفق مراسمه الخاصة ايضا، حيث يكون العاملون في مطعم نوبل قد حصلوا على تدريبات خاصة على كيفية نقل الاطعمة وطريقة تقديمها للضيوف الذين يرتدون، بالطبع، بدلات خاصة بالمناسبة، ومن لا يملك بدلة كهذه فهناك محل خاص لتأجيرها.وهكذا هو الامر منذ قرن كامل نال خلاله الجائزة سبعمائة شخص من القارات الخمس، ومن هؤلاء علماء استطاعوا باكتشافاتهم ان يغيروا الكثير في مجرى التاريخ الانساني، امثال البرت اينشتاين، وليم رينتغن وغيرهما الكثير، وشخصيات أدبية امثال ارنست همنغواي، وصموئيل بيكت، وتوماس مان، وبوريس باسترناك، وغارسيا ماركيز، ونجيب محفوظ وغيرهم . ولتسليط الضوءعلى التراث العلمي والثقافي الانساني الذي خلفه هؤلاء،وعرضه معاً ليكون بمتناول اطلاع الجميع، كانت الفكرة التي راودت مؤسسة دوائز نوبل منذ ثلاث سنوات بانشاء متحف دائم ومتنقل في ذات الوقت يعرف بنتاجات الفائزين الابداعية على مدى المئة عام. وقبل أيام،وفي احتفال ملكي وشعبي كبير، افتتح هذا المتحف في قلب العاصمة ستوكهولم في منطقة غاملا ستان، اي المدينة القديمة، التي ماتزال جدران ازقتها وساحاتها تتنفس زمن الفايكنغ، وفي المبنى ذاته الذي يعلن فيه السكرتير الدائم للاكاديمية السويدية، في الأيام العشرة الاولى من اكتوبر (تشرين الأول) من كل عام، اسم الفائز بجائزة نوبل للآداب، باستثناء السنة السابقة حين أعلن الفائز في نهاية شهر سبتمبر (أيلول).

متحف جوائز نوبل ليس متحفا عاديا، بمعنى أنه لا يعرض لوحات تجسد حياة اشخاص او اعمالا منتوجة فحسب، بل هو ملتقى يبحث في موضوعة الإبداع الإنساني، ويثير أسئلة حول كيفية تقييمه ودعمه. لكي تتم العملية الابداعية، كما يقول أحد المسؤولين عن المتحف، فلا بد من توافر عاملين اساسيين هما الانسان (الفرد) والبيئة (الوسط والامكانات والعلاقات ...الخ). وهذان العاملان هما ما ارتكز عليه متحف اليوبيل الذهبي لجوائز نوبل.

يتحدث المتحف عن حياة قسم كبير من الفائزين بجوائز نوبل، وعن الاعمال التي قاموا بها وعن البيئات التي عاشوا فيها، وذلك من خلال افلام وثائقية تبرز جوانب من نشأة وحياة كل واحد منهم، بطريقة ربما تدفع الزائر المتابع الى التساؤل عن الرابطة اللامرئية التي تجمع بين الكيمياء، او الفيزياء، أو الطب بالادب؟، ما الذي يجمع بين اينشتاين وهمنغواي، على سبيل المثال؟ ولماذا ضمّن الفرد نوبل في وصيته جائزة للابداع الادبي الى جانب الاكتشافات والابداعات في مجالات العلوم الطبيعية؟ ربما يكمن الجواب في شخصية الفرد نوبل ذاتها. كان الفرد نوبل اصغر ابناء امانويل الثلاثة الذين تركهم الاب مع امهم التي كانت تدير متجرا لبيع الخضر والفواكه. لم يتوان الابناء عن مساعدة امهم التي لا تقل طموحا بحياة افضل من زوجها فظلت تكافح وهي تنتظر عودته وبحزامه مفاتيح مملكة الغنى، اذ كانت تعرف مدى امكانات زوجها وقدرته على البحث والاختراع. فلطالما جاء بأفكار ومشاريع تدر على العائلة ارباحا لا بأس بها. لكن روح المغامرة التي كانت تتملكه غالبا ما اصابته بالخسارة ايضاً، فيشد الرحال الى مكان آخر يعوض فيه ما فقده. فوجد هذا المكان في روسيا، هذه المرة، في ارضها ومياهها عثر على ضالته، بمجهود كبير وافكار فذة استطاع أمانويل نوبل التوصل الى طريقة ناجعة لاستخراج المعادن من البحر، سرعان ما طورها لينشئ في العام 1843 مصنعا خاصا به في مدينة سانت بطرسبورغ. ويجلب عائلته لتستقر في هذه المدينة العملاقة. في تلك السنة كان الفرد نوبل قد بلغ الثامنة عشرة من عمره وقد تحسن وضع العائلة الاقتصادي الى حد كبير وكادت الامور ان تتطور بهذا المنحى لولا اندلاع ثورة القرم الشهيرة عام 1856 التي اضرت كثيرا بنشاط العائلة الاقتصادي. فقد استولى جيش القيصر على معدات مصنع امانويل نوبل بما فيها ادوات التفجير التي كان يستخدمها في استخراج المعادن لغرض استخدامها في الحرب المشتعلة انذاك. وهنا تعود العائلة لتواجه امتحانا جديدا، غير انها سرعان ما تخطته بامتياز، ولكن هذه المرة عن طريق الابناء، حيث تمكن امانويل الاب من تهيئتهم للمهام الصعبة. فهو لم يكن يفكر بالمال فقط، عندما كان يسعى لتوسيع اعماله في مصنع استخراج المعادن من البحر في سانت بطرسبورغ، بل وبالمعرفة والتسلح بالعلم ايضاً. فقد وفر لاولاده، بعدما استقر عمله، فرصة التعليم العالي، ومكنهم من اتقان خمس لغات. كان اول عمل قام به ابناء امانويل نوبل هو شراء آبار نفط باكو، ولم تمض سوى اعوام قلائل حتى استطاعت العائلة استخراج وبيع نصف نفط روسيا في ذلك الحين. ولكي يوصلوا النفط الى اقصى بقاع العالم، تمكن الابن الاكبر لودفيغ نوبل من اختراع باخرة، هي الاولى من نوعها لنقل النفط الخام.لكن تلك الثروة التي اكتسبوها من تجارة استخراج وبيع النفط لم تدم لهم طويلا فقد اندلعت ثورة اكتوبر عام 1917 التي اممت بموجبها جميع المصانع الاهلية، ومن بينها مصانع نوبل. في تلك الفترة كان الفرد نوبل قد ترك روسيا بشكل مبكر، حيث انيط به إدارة اعمال العائلة في اوروبا والولايات المتحدة الاميركية مما وفر له الفرصة لمواصلة اهتماماته العلمية وبحوثه وتجاربه،التي بدأها عندما كان في روسيا، على مادة النتروغليسرين التي تعتبر قمة ما توصل اليه في استخدام هذه المادة المفجرة، التي اهتدى اليها بعد عدة محاولات استخدم فيها مواد تفجير اقل قابلية. وفي عام 1867 سجل الفرد نوبل براءة اختراعه فيها حيث كانت تجربته الاولى في مختبر والده القريب من ستوكهولم، تلك التجربة التي لم تمر دون مخاطر اذ راح ضحيتها، إضافة إلى الأموال الطائلة، خمسة اشخاص، كان اخوه الاوسط لودفيغ نوبل واحدا منهم. لكن الفرد نوبل كان يمتلك قدرة عجيبة على التحدي والمواصلة والثقة بالنجاح مهما كلف الامر، فجاءت تجربته التالية التي حقق فيها نجاحا كبيرا بشق اول مترو للانفاق في ستوكهولم. تجربته هذه في استخدام الديناميت شكلت انطلاقة نحو استخدامه على نطاق عالمي واسع وفتحت الطريق نحو امبراطورية الفرد نوبل التي يظل صداها يتردد حتى بعد وفاته بأكثر من قرن مضى. فقد استخدم ديناميت نوبل بشق قناة بنما ومناطق مختلفة من العالم، ولغايات واغراض مختلفة، حتى اصبح مالكا لـ 93 مصنعا في بقاع مختلفة من العالم. كان الفرد يتنقل بين مصانعه هذه في العواصم والمدن العالمية المختلفة لكنه اختار العاصمة الفرنسية باريس مستقرا له. فلهذه المدينة، التي بات يتحدث عنها بشوق كلما ابتعد عنها، طعم خاص بالنسبة له، اذ أعادت له شغفه بالثقافة والادب، هذا الشغف الذي كاد يجف في دواخله بعدما أغرق نفسه في عالم الكيمياء والتجارب والمختبرات وغازات المصانع. وفي باريس تعرف على كبار الادباء والمثقفين ومنهم فيكتور هيجو. وفي هذه الفترة أيضاً أصدر مسرحيته «نمسيس» او المنتقم، التي يحتج فيها على الاوضاع المتردية السائدة في مجتمعات ذلك العصر، وأصبح يميل نحو الافكار الاشتراكية الليبرالية، بفضل علاقته بداعية السلام النمساوية «برثا فون سوتنير» التي التقاها في باريس وأثرت به كثيرا. وقد كتب ذات مرة «انني، بالاساس، اشتراكي ديمقراطي غير انني عصري في نفس الوقت، ولقد اكتشفت ان الغنى ما هو الا بؤس وعذاب للانسان».

وفي سنواته الاخيرة أخذ الفرد نوبل يعاني من مرض الم به، ومن سخرية القدر ان يجمع الاطباء على ان العلاج الناجع له هو مادة النتروغليسرين التي استخدمها في اختراعه لمادة الديناميت، التي تجرعها على مضض وهو يهزأ من سخرية القدر. وفي العاشر من ديسمبر (كانون اول) عام 1896 لفظ الفرد نوبل انفاسه الاخيرة ليدفن بالقرب من مدينة سان ريمو الايطالية القريبة من حدودها مع فرنسا، تاركاً وصيته الذائعة الصيت التي فجرت صراعات كثيرة داخل عائلته.

لماذا كتب الفرد نوبل وصيته؟ ان احد الاسباب التي جعلت نوبل يكتب وصيته، هو انه لم يكن لديه اطفال. وكان السؤال القائم هو من سيرث هذه الثروة الطائلة من المصانع والانشطة المختلفة؟ وقبل عام من وفاته وفي السابع والعشرين من عام 1895 تحديدا وضع الفرد نوبل توقيعه على هذه الوثيقة التي اصبحت اكثر الوصيات شهرة في العالم، وهذه كانت الصيغة الاخيرة، بعد عدة صيغ سابقة تمكن من اجراء تعديلات عليها، ليضفي عليها من خبرته وعلاقاته الطويلة وعمله الدؤوب والمتواصل وحتى تلك الافكار التي كان يصارعها محاولا ايجاد البديل لها. كل هذه شكلت خلفية لصيغة هذه الوصية المعروفة. لقد منح الفريد نوبل جزءاً من ثروته للاقارب وبعض الاشخاص الذين لا يمتون له بصلة قربى، لكنه أوصى أن يوظف الجزء الأكبر في مشاريع استثمارية تخصص فوائدها لجوائزه الخمس، في الكيمياء والفيزياء والطب (العلوم الفسلجية) والأدب والسلام. وفي عام 1969 قرر البنك المركزي السويدي تخصيص جائزة باسم نوبل للاقتصاد ايضاً.

=