فصول مخضبة بالغيرة من ذاكرة العشق والترحال

المخدوع عبد الله بن الدمينة ينهي «ثورة الشك» بما يليق بعقلية شاعر غيور

TT

أقسى ما في الكون إهدار براءة الطفولة في لحظة جنون، وأتعس من على الأرض شاعر غيور، وغيرته لم تأت من فراغ، ففي الجو رائحة خيانة زوجية يشمها، ويسمع عنها ولا يراها، وحين ينهض الوحش من أعماق الانسان يغسل الشك بالشك، ولا تصدق من يزعم ان الغيور يصل الى اليقين.

ولا يذكر ابن الدمينة من أين جاءته الطعنة، فهي لم تكن واحدة انما عدة طعنات انهالت عليه دفعة واحدة ومن اماكن مختلفة، فاصاب بعضها الجسد واثخن بعضها المشاعر واشرسها تغلغل في الروح، وما تبقى صار وقوداً لذاكرة العشق والدم.

لقد كان ابن الدمينة عاشقاً بامتياز وشاعراً برحابة تضعه فوق الوسط، ودون الفطاحل لكن بعض قصائده أشعر من قصائد كل فطحل، فأين تجد من يصف تسلل خيال الحبيبة بهذه اللغة المصنوعة من نار ونور:

* قلبي مع الركب اليمانين مصعد / جنيب وجثماني بمكة موثق

* عجبت لمسراها وانى توصلت / الي وباب السجن دوني مغلق

* ألمت فحيت ثم قامت فودعت / فلما تولت كادت النفس تزهق

*وزهقت النفس ولكن نفس الزوجة الخائنة وليس نفس الشاعر الغيور، ومع الزوجة ذهبت ابنتها، لكن لماذا نستعجل الأحداث قبل ان نمر على مناطق الألم والحنين واليأس والعشق فقد كان ابن الدمينة مثخن الجسد والروح وكان يحاول ان ينجو باحدهما، أو كليهما لكن لات حين مناص، فحساب الحقول لا يطابق دوماً كرم البيادر وجرثومة الغيرة التي تمكنت منه ما كانت تترك له فرصة للنجاة ولا فرصة للحياة، فكل ما تبقى له بعد ان اجتمعت الخيوط حول عنقه لحظة انتقام رهيب، وهل هناك غير هذه النهاية، لشاعر من المملكة الذكورية أفاق ليجد سمعته مضغة في الأفواه وقطناً منطفاً في الآذان.

* ذكريات رملية

* ذات مساء، وبهدوء لم يعرفه من قبل افترش ابن الدمينة كومة رمل في سفح كثيب أصفر، ودائماً يصفر الرمل مع نهاية العشق، بعد ان كان شاسع الحمرة في بداياته، وهناك عاد بذاكرته الى الوراء حين كان مجرد شاعر قبل ان يضاف اليه لقبه الجديد الزوج المخدوع. ومع سريان برودة الرمل الى روحه وذاكرته الهاجعة بهدوء الوعول في الليل تذكر انه كان يحبها ويكتب لها شعراً جميلاً صنع شهرته وجعل نساء بني تميم يحسدنها وهن ينشدن العينية التي كتبها لها ذات لحظة غرام تفصلها حقب عن لحظة الانتقام:

* أقضي نهاري بالحديث وبالمنى / ويجمعني والهم بالليل جامع

* نهاري نهار الناس حتى اذا بدا / لي الليل شاقتني اليك المضاجع

* لقد ثبتت في القلب منك محبة / كما ثبتت في الراحتين الأصابع

*وكانت فرحة ابن الدمينة الوحيدة لإنقاذ نفسه ان يهرب ويسلم خلفيته لاعدائه وحساده، وقد صعبت تلك على شاعر اعتاد المواجهة ونسي الوصية الذهبية في لامية العرب:

* وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى / وفيها لمن خاف القلى متعزل

* ولماذا النصائح والوصايا..؟ وهل يوجد في الدنيا ما يهدئ بال زوج مخدوع...؟

وذات لحظة صفاء نادرة قرر ابن الدمينة ان يصمد الى ان يتيقن فاتجه بخطوات كسيحة الى خبائه الممزق ليضمد آخر الجراح بجوار زوجته الجميلة وابنته التي تتعلم الكلام، وحين استقر به المقام هنيهات قصيرات اكتشف ابن الدمينة ان البيت لم يعد بيته والزوجة لم تعد زوجته فهناك رائحة غريب مجهول يتوسد ذاك الحضن في غيابه، وعندها التفت الشاعر الى القمر واستحلفه ان يصدقه ويبوح له ان كان في الموضوع خيانة، ولأن القمر لا يخفي اسراراً ظن الشاعر انه يومئ له بالإيجاب فحشا جراحه ملحاً وقرر ان يطبق قانون الصحراء المكتوب منذ الأزل ضد النساء.

* امرأة ملتبسة

* والآن ماذا عنها تلك الزوجة التي قرر الشاعر ذبحها انتقاماً لشرفه..؟

وكالعادة فإن المعلومات عنها قليلة وقد كانت حين حسم الشاعر أمره تتقلب في فراشها باحثة عن مخرج من تلك الورطة التي داهمتها لضجرها وقلة تدقيقها بالعواقب، وذاك ما تفعله كل امرأة لا تجيد فهم تلك العلاقة الملتبسة بين روحها وجسدها.

كان اسمها حماء، وقيل حمادة وكانت جميلة ككل عشيقات الشعراء وملهماتهم، وكانت تحب شاعرها في اول الأمر لكن الحب كالجمال ـ احيانا ـ لا يدوم.

لقد كان الزواج منه والعيش في كنفه حلما يداعب خيال العديدات من نساء تميم، وكان عقد قرانها عليه فرحة لا تعادلها كنوز الأرض، وقد تعجبت حماء وحسدت نفسها لأن حلمها تحقق بصورة لا يصدقها العقل ولا يقبلها المنطق ولعل تلك السهولة ساعدتها على التفريط بذلك الحلم من دون ان تدري.

ببساطة متناهية تم ما كانت تظنه مستحيلاً فقد جاء عبد الله بن الدمينة مع رهط من قومه وقال لابيها: انكحني ابنتك على مئة من الإبل، وكان الأب فقيراً، فقال على الفور: انحكتك. وقبل ان تدور القهوة شدوها كما تشد البضائع على ظهر هودج وساروا ببضاعتهم بعيداً عن مرابع الصبا ومغاني الطفولة.

في الليلة الأولى اكتشفت حماء المخدوعة قبل ان تتحول الى خادعة ان الشاعر رجل مثل جميع الناس وان الهالة التي يحيطه بها القوم تسقط بمجرد ان انسدل الخباء عليهما ساعة المغيب، ففي ذاك الزمن خفت عادات تقصير النهار بالخلوة ظهراً مع «بهكنه تحت الطراف المعمد» على طريقة طرفة بن العبد، ولم تكن حماء تحمل «مأكمة يضيق الباب عنها» كحال صاحبة عمرو بن كلثوم وهكذا قضى الشكل على التوقع، والعادة على الإثارة، ولم تعد ملهمة مع شاعرها داخل الخباء المسدل انما مجرد امرأة مع رجل حاولت ان تعرفه عن قرب لتحبه اكثر، فاكتشفت ان ما فيه من الوحوش اكثر مما فيه من البشر.

وتلك بالمناسبة عادة ما تزال متأصلة في ذكور العرب الى اليوم فهم نادراً ما يلاطفون المرأة وقلما يداعبون غرور التميز داخل الانثى، وإلا هل جاءت من فراغ وصية رسول الله صلى الله وعليه وسلم لهم بألا يقعوا على نسائهم كما تقع البهائم.

* رومانسية آفلة

* وفي اليوم الثالث والخامس، وصولاً الى السابع زالت هيبة الشعر، واختفت شخصية ابن الدمينة الاجتماعية اللامعة لتحل محلها شخصية الزوج، وهؤلاء الازواج ـ اجار الله النساء منهم ـ ليس فيهم من وعود الرومانسية شيء، ولن يستطيعوا ان يظلوا عشاقاً حتى وان ارادوا، فالبشر، والشعراء منهم ـ ان نسينا ـ لهم في النهاية عاداتهم القبيحة التي يخفون بعضها عن الحبيبة التي يرونها سويعات متفرقة ويصعب عليهم اخفاؤها عن الزوجة التي تراهم قياماً وقعوداً وعلى ظهورهم واجنابهم، وهكذا وجدت حماء في عبد الله بعد ان وقعت الواقعة وصارت حلاله رجلاً ككل الناس يأكل ويبصق ويتمخط، ويسعل، ويشخر ليلاً، وينهر زوجته اذا قصرت في تقديم الحمل المشوي ظهراً والهريس ليلا، ووسط تلك المهام جميعها نسي الشاعر أو كاد انه كان يحبها، فهي ملك يمينه ورهن اشاراته وكلها مؤشرات ليست صالحة للحب ولا محرضة للشوق ولا مفيدة للمرأة.

وحتى لا نرى الجانب الأسود وحده من قصة حماء وعبد الله يستحسن ان نتذكر انه قدم لها متعة كانت تنقصها في خباء ابيها وأيقظ غرائزها التي نامت طويلاً خوفاً من سطوة الأب، وعنف الأخ وجبروت شباب القبيلة.

وهكذا يا سادة يا كرام استيقظ البركان ـ وكل امرأة بركان ـ وكان يمكن لحماء ان تكتفي بتلك المتعة العائلية التي يقدمها رجل عجول لامرأة متفجرة، داخل الخباء المسدل لكن حتى هذه لم تدم فشاعرها وزوجها فيه عادة نسينا ان نذكرها وهي حبه الشديد للسفر ولأجل تلك العادة التي جعلته دائب التنقل والترحال اطلقوا عليه لقب: «ابو السرى».

وما كل من يكثر من السفر، والغياب يجب ان تنصرف عنه زوجته وحبيبته، فللغيرة قواعدها، واساسياتها وكل دور السفر ان يكون من العوامل المساعدة على نمو الشك، ففي ليالي الغياب الطويلة تنبت للغيرة اجنحة وللشك مخالب ويبدأ الرجل الغيور ينهش نفسه قبل ان ينهش بأفكاره السوداوية والصفراوية من يحب، وكم كانت أم كلثوم دقيقة ومعبرة وهي تشدو «ثورة الشك» التي تبدأ بذلك المطلع الذي خطه يراع الشاعر عبد الله الفيصل في شبابه:

* أكاد أشك في نفسي لأني / أكاد اشك فيك وانت مني

* نعم ايتها الفنانة وايها الشاعر ففي الحب يصبح من نحب جزءاً منا، وخيانته تصبح نوعاً من خيانة الذات فالحب يصهر الروحين والجسدين في بوتقة واحدة، الى درجة لا تعود تدري اين هي حدود جسدك في العناق، ولا أين تطير غيوم روحك في ليالي الشوق الطويل.

وقبل ان نحاسب حماء على خيانة عبد الله لماذا لا نفترض انها لم تخنه ـ ان فعلت ـ الا بعد ان تبخر الحب، وصار طيفاً من طيوف الماضي السحيق، فالمعايشة اليومية اما ان تقتل الحب أو تزيده اشتعالاً على اشتعال وفي حالة حماء كانت المشاعر تراوح بين الحب والضجر، والوحدة التي تحرق الجسد والروح، وهذا ما سنحاول التعرف عليه بعد ان نبسط لدور المخنث مزاحم السلولي الذي كان وغداً حقيقياً في هذه الحكاية الانسانية الدامية.