محنة الرواد الأوائل

سبينوزا وحرية البشر في كتاب فرنسي جديد

غلاف الكتاب
TT

مؤلف هذا الكتاب هو الباحث الفرنسي جان بريبوزييت، أحد كبار الاختصاصيين في فلسفة سبينوزا. وكان قد نشر سابقا عدة كتب عن الموضوع، نذكر من بينها: «سبينوزا وحرية البشر» (منشورات غاليمار، 1967). وقد كان أستاذا في جامعة بيزانسون، حيث اشتهر بتدريس فكر هذا الفيلسوف الكبير الذي يعتبر واحدا من العشرة المعدودين في تاريخ الفلسفة كلها بالإضافة إلى أفلاطون وأرسطو وديكارت وكانط وهيغل.. إلخ.

وفي هذا الكتاب الجديد يقدم لنا المؤلف سيرة حياة سبينوزا وأعماله بطريقة سلسة، واضحة، شيقة. ومنذ البداية يقول ما معناه «الشيء المدهش لدى سبينوزا هو تلك الإرادة القوية التي كان يتحلى بها، فقد استطاع أن يتحدى المتعصبين من طائفته اليهودية. وعلى الرغم من أنهم كفروه، بل وحاولوا اغتياله، فإنه لم يتراجع عن أفكاره العقلانية الفلسفية. والواقع أنه كان بإمكانه أن يعيش حياة رغيدة سعيدة لو أراد. فهو قد ولد في عائلة غنية ومرموقة داخل الطائفة اليهودية المستقرة في مدينة أمستردام الهولندية. وكان ذلك في الثلث الأول من القرن السابع عشر، وبالتحديد عام 1632، وكان المستقبل مفتوحا أمامه لكي يتزوج وينجح في الحياة ويحتل المكانة الاجتماعية التي يريدها.

لكنه فضل أن يخرج من الحدود الطائفية المرسومة له سلفا لكي يوسع آفاقه المعرفية. فالمثقف الذي لا ينشق على ذاته ويعلن العصيان على طائفته وانغلاقاته الضيقة لا يستحق اسم مثقف أصلا. هذا هو الدرس الكبير الذي خلفه لنا سبينوزا. ولذلك فإن متعصبي اليهود لا يزالون يكفرونه ويلعنونه حتى هذه اللحظة. والدليل على انفتاحه الكبير هو أنه راح يتعلم اللغة اللاتينية التي كانت لغة المثقفين المسيحيين في كل أنحاء أوروبا آنذاك. وبالتالي فلم يكتف بالعبرية: لغة اللاهوت والدين.. وراح يتعلم الفلسفة الديكارتية ويغوص فيها. وكان ذلك بمثابة إعلان حرب على الأصوليين اليهود النافذين في طائفته والذين يكرهون المسيحيين ولغتهم باعتبارهم الأعداء التاريخيين لليهود.

ولذلك أطلقوا فتوى بتكفيره عام 1756، أي عندما كان في الرابعة والعشرين من عمره. وقد صدرت الفتوى اللاهوتية عن مجلس الحاخامات في هولندا، واتهموه فيها بالزندقة والخروج على الدين اليهودي. ثم حاول أحد المتعصبين قتله بضربة خنجر كتنفيذ للفتوى، لكن لحسن الحظ فإن المعطف الذي كان يلبسه كان سميكا جدا ولم تستطع الضربة أن تؤذيه وإنما خدشته بشكل بسيط وسطحي فقط. وتقول الأسطورة إنه احتفظ بعدئذ بذلك المعطف حتى النهاية لأنه حماه من الموت.. لقد أصبح عزيزا على قلبه إلى درجة أنه لم يستطع التخلص منه. هكذا نلاحظ أن الفتوى هي قتل معنوي يسبق مباشرة القتل الجسدي، وهي التي تخلع المشروعية الإلهية على التصفية الجسدية لكبار المفكرين والمثقفين. ولولاها لما تجرأ القاتل على تنفيذ فعلته بكل هذه الحماسة والاندفاع. فقد كان يعتقد أنه يتقرب إلى الله ويحمي الدين والعقيدة باغتيال هذا المنشق العاصي: سبينوزا. من هنا تأتي خطورة الفتاوى اللاهوتية في كل الأديان والمذاهب. وبعد حادثة الاغتيال الخطيرة انسحب سبينوزا من الحياة العامة وعاش متوحدا بشكل زاهد ومتقشف. وكان يكسب رزقه من صقل النظارات، وهي المهنة التي تعلمها. والواقع أنهم حرموه من الإرث العائلي الكبير بعد تكفيره ونبذه من قبل الطائفة. ولولا ذلك لاستطاع أن يعيش حياة الأثرياء المرفهين. لكن هل كان يبحث عن ذلك فعلا؟ هل كان يهمه أن يعيش غنيا؟ الأرجح، لا.

وقد غادر مدينته الأصلية لكي ينجو من الأذى ومحاولات اغتيال جديدة وذهب للعيش في ضواحي لاهاي. والتحق عندئذ بالأوساط الليبرالية المسيحية المستنيرة التي حمته واحتضنته بعد أن توسمت فيه علائم العبقرية. لكنه لم يعتنق المسيحية بعد خروجه من اليهودية كما كان متوقعا. في الواقع إنه خرج على كل الأديان وراح يتخذ الفلسفة دينا. وأين هو الدين الذي يستطيع أن يحصر بين جدرانه مفكرا عبقريا حرا مثل سبينوزا؟ ينبغي العلم بأنه كان أول من قدم تفسيرا عقلانيا للتوراة والإنجيل: أي للكتاب المقدس بالنسبة لليهود والمسيحيين. وكان ذلك يعتبر بمثابة العمل الجديد كليا بالنسبة لتلك الفترة، بل وكان يعتبر جرأة جنونية لا تكاد تصدق. لذلك كفروه ولاحقوه ولعنوه من كل الجهات. وهنا تكمن محنته ومحنة كل الرواد الأوائل الذين يجيئون قبل الأوان. لكنه تقبل المحنة بصدر رحب، واعتبرها ضريبة ضرورية لا بد من دفعها بالنسبة لكل أولئك المصابين بمرض نادر: هو حب الحقيقة وكأنها عشيقة. وهذا التفسير العقلاني الجديد هو الذي دفع به لاحقا إلى التمييز بين الاعتقاد الديني والمعرفة الفلسفية. فالاعتقاد شيء، والمعرفة العقلانية الحرة شيء آخر. لا ريب في أن الاعتقاد الإيماني مشروع وحق لكل إنسان، لكن يفضل أن يستضيء بنور الفلسفة لكي لا يتحول إلى تعصب أعمى وحقد على الآخرين».

يقدم الكتاب لمحة تاريخية عن الطائفة اليهودية التي كانت قد التجأت إلى أمستردام هربا من الاضطهاد الإسباني والبرتغالي. وبالتالي فأسلاف سبينوزا هم من يهود إسبانيا والبرتغال، وكانت لهم علاقات مع العرب والمسلمين، بل وعاشوا في ظلهم معززين مكرمين من دون أن يتعرضوا للاضطهاد على عكس ما حصل لهم مع المسيحيين. ومع ذلك فإن تهمة التعصب تلحق بالإسلام فقط!

وقد درس سبينوزا في البداية مبادئ الدين اليهودي ككل أبناء جيله وطائفته. كما درس اللغة العبرية التي تعتبر مقدسة بالنسبة لليهود لأنها لغة التوراة. أما اللاتينية فكانت تعتبر بمثابة لغة الأعداء المسيحيين وبخاصة أنها لغة الإنجيل الذي لا يعترف به اليهود. لذلك فما كان زعماء الطائفة اليهودية يرضون عن أطفالهم إذا ما تعلموها، بل كانوا ينهونهم عن ذلك نهيا قاطعا خشية أن يغيروا دينهم ويصبحوا مسيحيين. ومعلوم أن دين الأغلبية له دائما جاذبية خاصة. ويتوقف الكتاب مطولا عند القطيعة التي حصلت بين سبينوزا والطائفة وكيف أنهم حاولوا في البداية إقناعه بالتراجع عن أفكاره الفلسفية لكي لا يتخذوا أي إجراءات صارمة بحتة.