كاميرا في جمجمة فنان عراقي تسمح للعالم بمتابعة تحركاته سنة 2011

أول ابتكارات العام الجديد مشروع احتجاجي يكلف صاحبه كشف حياته الشخصية

وفاء بلال يقف أمام صورة له والكومبيوتر متدلّ من كتفه
TT

واحد من أكثر المشاريع الفنية جنونا التي سيكتشفها الناس مع مطلع السنة الجديدة هو ذاك الذي أطلقه العراقي وفاء بلال، ويستمر طوال العام، حيث سيتمكن سكان الكوكب من متابعة تحركات هذا الفنان دقيقة بعد أخرى بفضل كاميرا غرسها في رأسه وموقع إلكتروني ينقل تحركاته بشكل مباشر. آخر تقليعات الفن للعام الجديد في هذا التحقيق.

قرر العراقي وفاء بلال الدخول في مشروع فني مجنون، لم يسبقه إليه أحد، فقد أخضع نفسه لعملية جراحية في الولايات المتحدة الأميركية دامت ساعتين، تم خلالها زرع كاميرا له في مؤخرة رأسه. هذه الكاميرا التي احتاج زرعها نزع جلدة الرأس لتثبيتها بشكل جيد بين الجلد والجمجمة، ربطها بلال بعد ذلك بجهاز كومبيوتر يحمله باستمرار في حقيبة معلقة في كتفه.

الكاميرا المثبتة في رأس الفنان مبرمجة كي تلتقط أوتوماتيكيا صورة كل دقيقة، تنتقل إلى الكومبيوتر الذي يبث الصور على موقع إلكتروني، بحيث يمكن لأي منا أن يشاهدها ويتابع حركة بلال لحظة بلحظة، طوال السنة المقبلة.

يصرّ وفاء بلال على أنه ليس مجنونا ولم يفقد عقله، كما أنه لم يعرض حياته لمزيد من التعقيد منذ زرع كاميرا في مؤخرة رأسه بعملية جراحية، يرفض التحدث عن تكاليفها، لكنه يعتبر نفسه محظوظا لأنه عثر على طبيب اقتنع بإجراء العملية مقابل مبلغ يقول إنه «كبير»، لكنه يرفض التحدث عن قيمته. لكن من جانب آخر، يشرح الفنان أن العملية أجريت له وهو واع تماما ولم يخضع إلا لبنج موضعي، وفقا لرغبته، لأنه أراد أن يكون حاضرا ومتأهبا منذ الدقيقة الأولى لهذه التجربة المثيرة.

هذا المشروع الجهنمي الذي يعتبره بلال فنيا، هو أحد المشاريع الـ23 المعروضة حاليا في معرض تشكيلي يحمل اسم، «محكي، مخفي، معاد» في مدينة الدوحة، والممولة من قبل «متحف الفن العربي المعاصر». وبمقدور الزائر أن يرى في غرفة مظلمة مجموعة كبيرة من الشاشات التلفزيونية التي تبث بصورة مباشرة الصور التي بدأت كاميرا وفاء بلال بالتقاطها منذ يوم 16 ديسمبر الماضي، دقيقة تلو الأخرى.

التقت «الشرق الأوسط» وفاء بلال في الدوحة، ثم تابعت تحركاته عبر الموقع الذي يبث صوره لنرى يوما بعد يوم كيف انتقل من قطر إلى الولايات المتحدة الأميركية، ثم سافر من مدينة إلى أخرى، واستطعنا أن نرى عبر هذه المتابعة مرة مشاهد من بيته ومرة أخرى وهو يسير في الشارع وغيرها حين يكون في سوبر ماركت يتبضع على الأرجح. وبمقدور المتابع للموقع أن يعرف تحركات الفنان وكأنه يعيش معه، وهو تماما ما يسعى إليه وفاء بلال من خلال مشروعه الغريب الذي يثير الكثير من الأسئلة.

يجيب وفاء بلال الذي قليلا ما يضحك أو يمزح وهو يتحدث عن مشروعه، حين تطرح تساؤلاتك عليه، بأنه قرر بواسطة هذه الكاميرا التي يسميها «العين الثالثة»، أن يصبح شفافا وأن يحول حياته إلى شيء مفتوح ومتاح للجميع.

ويتابع: «وضعت الكاميرا في مؤخرة رأسي لأنني لا أريد أن أصور ما أراه، وإنما ما هو خلفي، وبالتالي أنا لا أظهر أبدا، وإنما ثمة بث مباشر لكل المشاهد التي أعبرها وتصبح ورائي على هذا الموقع الذي يسجل تحركاتي، بشكل مستمر، ويحدد النقطة الجغرافية التي أتواجد فيها ويظهرها على خريطة من (غوغل)، مع الساعة والدقيقة والثانية التي التقطت فيها كل صورة».

وحين نسأل عن جدوى أرشفة كل هذا الكم من الصور، وما الذي يهم الناس منها، وما الذي سيفعله بها بعد مرور سنة كاملة، يجيب: «بعد سنة ستكون على الموقع حياتي مؤرشفة بالصور لمدة سنة كاملة، وما على الزائر سوى أن يختار الزمن الذي يريد ويحدده ليعرف في هذه اللحظة أين تواجدت وبشكل دقيق للغاية، بفضل جهاز (جي بي إس)، يحدد كل التفاصيل».

تفهم أكثر أن وفاء بلال ليس عبثيا بالقدر الذي تتصور حين يروي لك أنه ولد في النجف (مواليد 1966) وأنه عانى كثيرا مع عائلته أثناء حكم صدام حسين، واضطر لأن يترك العراق دون حتى أن يتمكن من حمل ملابس أو صورة أو أي تذكار من حياته تلك.

هل يحاول وفاء بلال إذن، أن يعوض كل تلك الذكريات التي لم يبق له منها أثر ملموس؟ وهل هذه هي الغاية الحقيقية من مشروعه؟ «ليس هذا فحسب»، يجيب بلال، «أنا أعيش في الولايات المتحدة وأعرف أن كل شخص مراقب من قبل ثلاثة أشخاص، لذلك سأكون متوهما لو ظننت أنني أكشف نفسي بواسطة هذه الكاميرا. كل ما أفعله هو أنني أضيف كاميرا إلى كل تلك الكاميرات التي تراقبني».

وحين نستفسر عن الطريقة التي يعامل بها في المطارات، وما هي ردود الفعل حين يكتشفون كاميرا مثبتة في رأسه، خاصة أنه يتنقل كثيرا، ألا يعرضه هذا لشكوك كبيرة يترتب عليها تحقيق وتوقيف واستجواب؟ يبقى وفاء بلال جديا ومتجهما وهو يقول: «ما الجديد في هذا؟ أنا كعراقي وعربي، سواء وضعت هذه الكاميرا في رأسي أم كنت من دونها يتم توقيفي والتحقيق معي. وليس سهلا على شخص مثلي أن يعبر أي مطار من دون متاعب. ما هو جديد الآن هو أنهم عندما يكتشفون الكاميرا، يأخذون الأجهزة بما في ذلك العدسة التي أضطر لفكها من رأسي وجهاز الكومبيوتر، ويتم تصوير كل ما عليه. وعندما يتأكدون أن الأمر ليس بالخطورة التي كانوا يتصورونها، يتركونني أعبر شرط أن أغطي العدسة بعد أن أعيد تركيبها في رأسي، وعندها يعلم متابع موقعي، أن ثمة من أرغمني على إغلاق العدسة، لأن الصور ستبقى تنتقل إلى الموقع كل دقيقة دون توقف، لكنها هذه المرة ستكون سوداء قاتمة، ومع ذلك تبقى تحمل رقما تسلسليا كما كل الصور، مع كل المعلومات التي تحدد موقعي الجغرافي. هذا أمر لن يتمكن أحد من منعه».

وجدير بالذكر أن الكاميرا مكونة من جزأين، القاعدة المثبتة في رأس وفاء بلال التي لا يمكن انتزاعها إلا بعملية جراحية جديدة، والعدسة التي تركب على القاعدة، وهذه بالإمكان فكها أو إغلاقها كما أي عدسة عادية لكاميرا.

وحين نسأله هل ثمة من يرغمه على وقف نقل الصور غير أمن المطارات، يجيبنا أن الجامعة التي يعمل فيها أستاذا، تجبره على تغطية الكاميرا وهو يلقي محاضراته، لكنه لا يفهم هذا الشرط ولا ينظر إليه برضا كبير، لكنه مع هذا يخضع لطلبات الجامعة، لعلمه المسبق بأن كل منع للتصوير سيكون موثقا هو الآخر، بصور سوداء، يعرف من خلالها المتابع أن الفنان يتعرض لضغط ما في هذا اللحظة»، أو ربما أنه نائم مما يضطره لفك العدسة التي لا يمكن النوم معها وهي ناتئة من مؤخرة الرأس.

يعرف وفاء بلال أن هذه التجربة كان يمكن لها أن تتم دون أن يعرض نفسه لعمليتين جراحيتين ليستا بالسهلتين، مرة لتثبيت الكاميرا ومرة أخرى لانتزاعها، لكنه يعتبر أن الكاميرا الثابتة التي لا يمكن التراجع عنها هي نوع من التحدي لا بد منه لإنجاح التجربة. ولو وضع الكاميرا دون تثبيتها، لتغير الوضع كليا، ولتمكن ربما من التراجع بسبب ضغوطات من هنا أو هناك. ويضيف: «أن تصبح حياتي مكشوفة إلى هذا الحد، هو قرار بكسر حاجز الخوف الذي يسكنني كعربي. فأنا في النهاية أعكس حالة اجتماعية، وأريد أن أقول إن اكتشاف الجميع لما هو شخصي في حياتي لم يعد يخيفني أو يؤرقني». ويؤكد بلال أنه يعيش حياته بشكل طبيعي، كما أن صديقته التي مانعت مشاركته التجربة في بادئ الأمر، خوفا من أن تظهر في الصورة بدأت تتأقلم مع الفكرة».

وحين نمازحه بالقول إنها قد تكون أسعد امرأة في العالم لأنها تستطيع أن ترصد تحركاته، يضحك وهو يشرح بأنها ليست غيورة على الإطلاق، ولا تفكر في هذا الموضوع.

هذا ليس المشروع الأول المثير للغرابة الذي يطلقه وفاء بلال فهذا الفنان الذي تتخذ أعماله منحى سياسيا باستمرار بات معروفا بمشاريعه القائمة على استخدام الديجيتال وتجهيزات الفيديو، وأثارت الكثير من الجدل في الولايات المتحدة الأميركية وغيرها، فقد سبق له أن ابتكر الكثير من المشاريع الفنية وألعاب الفيديو التي تستوحي جميعها حرب العراق، ومشاهد القتل والدمار، وآلام الضحايا.

وبعد مقتل أخيه في العراق عام 2004 بقذيفة أميركية، أقام وفاء بلال معرضا تفاعليا في أميركا حمل عنوان «أقتل عراقي». وخلال شهر كامل تمكن الناس من مختلف أنحاء العالم، وعبر موقع خاص مرتبط بهذا المعرض أن يطلقوا النار على الفنان، لتكون الحصيلة في نهاية المعرض أن 60 ألف إنسان من 130 دولة أطلقوا النار على العراقي الذي يرمز إليه في هذه اللعبة ذات المغزى المؤلم. وتستطيع أن تقرأ المزيد عن غرائب المشاريع البلالية على الموقع الخاص بالفنان وهو http://wafaabilal.com/.

أما من يريد متابعة تحركات وفاء بلال خلال السنة المقبلة واكتشاف الصور التي يبثها مباشرة فيمكنه ذلك على الموقع المخصص لهذه الغاية وهو التالي: http://www.3rdi.me/.