ماريو بيرغاس يوسا الملعون من اليسار

«الشوفينية» العربية يمكن سماعها اليوم في أوروبا أيضا

ماريو بيرغاس يوسا
TT

قبل أكثر من عشرين عاما، في خريف 1988 على ما أتذكر، قال لي الشاعر الإسباني الكبير رافائيل البيرتي: «فلنر، إذا كان بيرغاس يوسا سيكتب روايات بمستوى رواياته السابقة». كان البيرتي «الشيوعي» قد عاد للتو من منفاه الطويل (استمر 34 عاما) عندما أجريت معه حوارا، في شقته الواقعة في باسيو كاستيانة في مدريد. ليس ذلك وحسب، بل أرجع تراجع يوسا عن مواقعه اليسارية رغبة منه لنيل النوبل. لم يكن صاحب «بحار على اليابسة» وحيدا في رأيه ذلك، بل شاركه فيه جميع المثقفين المحسوبين على قائمة اليسار، في أميركا اللاتينية وإسبانيا على الأقل. في تلك الأيام وقبل لقائنا بفترة قصيرة كان الكاتب البيروفي صاحب «المدينة والكلاب» قد فاجأ كل من عرفوه بترؤسه قائمة جمعت الأحزاب اليمينية للانتخابات الرئاسية والبرلمانية في بيرو. النتيجة معروفة. خسر بيرغاس يوسا المعركة الانتخابية وفاز فيها منافسه فوجيموري أو «الياباني» كما يلقبه سكان البيرو بسبب أصله الياباني. الكتلة اليمينية أيضا أدلت بدلوها في حينه، وأرجعت خسارتها لشخصية مرشحها، «مثقف أكثر من اللزوم»، علق بارونات اليمين الذين كانوا مرشحين على قائمته.

بعد تلك الواقعة أو الحادثة السياسية في حياة يوسا، أعلن صاحب «البيت الأخضر» طلاقه من السياسة الحزبية كما شرح ذلك في كتابه الشهير «سمكة من دون ماء»، الذي تحدث فيه عن كل ظروف وملابسات الترشيح، معبرا عن خيبته أيضا من البيروفيين ومن السياسة عموما. الكتاب ذلك كان بداية لعودة السمكة (يوسا) إلى مائها (الأدب). بالفعل بعد ثلاث سنوات من نشر هذا الكتاب عاد يوسا روائيا أكثر قوة، ليفاجأ العالم بروايته الفذة «راوي القصص» أو «القصخون»، رواية واقعية جدا، مثلها مثل بقية روايات يوسا، صوتها القوي يجعلها تقترب من الأسطورية، إذا لم نقل من السحرية، رواية تحكي عن استغلال شركات المطاط لمنطقة الأمازون، وكيف أن السكان الأصليين في طريقهم إلى الانقراض مثلهم مثل تلك المناطق التي يعيشون فيها، السبب ليس إلا جشع شركات الاحتكار لثروة تلك المناطق: أشجار المطاط والخشب.

عندما ظهرت رواية «راوي القصص»، كنت أقيم في إيطاليا، في فلورنسا بالتحديد، وشكرا للصديقة الإنجليزية آنذاك، ستيفاني تريبير، التي كانت تدرس في حينه في «البريتيش كونسيل» في فلورنسا، التي قالت لي، خذها واحكم بعد الانتهاء من قراءتها. ستيفاني كانت تعرف أنني مثلي مثل بقية اليسار، كنت أسقطت يوسا من قائمتي، مثل من امتلك صديقا قديما شعر به يخونه، حتى ذلك الحين، لم أفهم كيف يتحول مثقف يساري إلى معسكر اليمين ويرشح إلى جانب جنرالات لم يكن حتى الأمس ضدهم، بل إن «المدينة والكلاب» أول رواية كتبها هي نشيد يدافع عن الحياة ضد العسكرتاريا؟

ما أغراني في قراءة رواية يوسا أيضا أنها تبدأ في فلورنسا أيضا، في متحف الأوفيتزي، بالضبط في المدينة التي عشت فيها في تلك الأيام. هل هي مصادفة أن أكتشف من جديد أن ما يجمعني بهذا الكاتب لم ينته كما ظننت، أو كما أرادت أيديولوجيا اليسار إقناعي به، وأين في مدينة لجأنا لها نحن الاثنين في وقت الأزمات؟ «راوي القصص» هي ردّ يوسا الأسطة، على حجج اليسار، رد على كل النقاشات التي دارت حول شخصيته ومواقفه السياسية، في نعته بالخيانة بسبب هجومه على فيدل كاسترو والحركات اليسارية في أميركا اللاتينية التي وجد فيها وجه العملة الآخر لديكتاتوريات اليمين.

لا أدري إذا قرأ رافائيل البيرتي رواية يوسا هذه، ليس لأن الشعراء عادة لا يقرأون الروايات، بل على الأقل أنه سيعمل استثناء هذه المرة يفحص إذا صدق حدسه أم لا؟ لكن لماذا يفعل البيرتي ذلك وهو الذي بدأ حياته شيوعيا (ومات شيوعيا)، أو كما وصف نفسه في ذلك الحوار بـ«أنه ما يزال شيوعيا، وليس هاربا من العلم، مثل يوسا وآخرين». لا أظن أن البيرتي قرأ الرواية، لأن وتلك هي معضلة اليسار، أنه لا يحب الاكتشاف، المغامرة. الدوغما التي يمتلكها اليسار لا علاقة لها بالفرضيات، إنها ثوابت، أو خطوط حمراء، كما يُقال عندنا (من أجل خوزقتنا طبعا)، ومن يتحدث عن الثوابت لا بد أن يتحول إلى ديكتاتور. في الحياة وفي الواقع ليس هناك ما هو ثابت. اليسار مثله مثل اليمين المحافظ يخشى فحص نظرياته أو تصوراته، لأنه يخاف اكتشافه لخطئها. مثقفو اليسار المخدرون بالثورة الدائمة ونشوة حتمية الانتصار هم أنفسهم في كل زمان ومكان. من ينسى الزعيق الذي ملأ الصفحات الثقافية عندنا عن نجيب محفوظ. الكل (هنا عشنا حلفا مقدسا بين مثقفين من أقصى اليمين حتى أقصى اليسار، جبهة واسعة جمعت مثقفين قومجيين وبعثيين وإسلاميين) أجمع على نهاية محفوظ، السبب: هو وقوفه إلى جانب الرئيس المصري الراحل أنور السادات في زيارته لإسرائيل، بجرة قلم واحدة، الروائي نجيب محفوظ أُعدم أدبيا لأنه ارتكب جريمة كبرى عن طريق مباركته لاتفاقية كامب ديفيد. في عام 1977 كف مؤسس الرواية العربية الحديثة عن كونه روائيا. لا أحد من النقاد استطاع توضيح أو شرح الأسس التي استند عليها في أحكامه، كيف أن تأييدا للسلام (أو الاستسلام في عرف هؤلاء) يضر بالعمل الأدبي؟ الخائن لا يكتب روايات جيدة، تلك هي دوغما اليسار، في حالة محفوظ هو خائن لأنه لم يكتف بوقوفه إلى جانب السلام، بل راح يدافع عن إسرائيل واليهود، بل وفتح بيته هو الذي لم يستقبل أحدا في بيته، أمام أصدقائه من المثقفين اليهود الإسرائيليين، وعندما حصل محفوظ على جائزة النوبل عبرت الشيزوفرينيا العربية عن نفسها بوضوح، «محفوظ يستحق الجائزة، رغم أنني لا أتفق معه في تأييده لكامب ديفيد»، أو «الحقيقة أن محفوظ كاتب كبير لكنه وقع ضحية مؤامرة إسرائيلية»، تلك هي الأصوات التي علت في حينه، بعضها من المقربين منه، راحوا يؤكدون، «أن محفوظ في صميم روحه هو ضد كامب ديفيد وإلى جانب الفلسطينيين في كفاحهم»، ووصل الأمر بهؤلاء إلى أن يصموا كل دفاع عنه وعن مواقفه المؤيدة للسلام، بأنها محاولة تشويه له، حتى الصور المأخوذة لمحفوظ في بيته مع أصدقائه الإسرائيليين، هي مونتاج مفبرك في عرف هؤلاء.

الشيزوفرينيا العربية هذه يمكن سماعها اليوم في أوروبا أيضا بعد حصول يوسا على النوبل، فمن يزور إسبانيا في هذه الأيام سيسمع المثقفين اليساريين، يقولون له، «تعجبني روايات يوسا ورغم أنني لا أشاركه مواقفه، إلا أنني أتفق على حقه في الحصول على النوبل»، كأن هناك فصلا بين يوسا الروائي ويوسا كاتب المقالات والمعلق والصحافي، في المحصلة جملة مثل هذه ترتد على أصحابها، تعني: بأنني لا أتفق دائما مع أفكاري الخاصة بي، إنني بلا أفكار كما تساءل الروائي الإسباني خابيير تيراس في مقالة له في صحيفة «البايس» في هذا الاتجاه أيضا، وإلا فأين هي أفكاري إذا كان الأمر يستدعي مشاركة كل الأفكار الأخرى للشخص الآخر؟، لكن ما ينساه الجميع هو أن يوسا يستحق الجائزة منذ ثلاثين عاما، وأنها في الحقيقة تأخرت عليه، المحزن هو أن اليسار لا ينسى ذلك وحسب، بل ينسى أيضا أن يوسا وهو يتدخل في الحياة كمثقف أو ككاتب روائي يقدم نفسه ليس بصفته مثقفا محافظا، ممثلا لليمين، رجعيا ذا ميول أوتوقراطية، بل يقدم نفسه بصفته مثقفا فرديا، يُذكرنا بنموذج المثقف الفردي، المتمرد الفرنسي البير كامو. الاثنان خدما القضايا التي دافعا عنها ولم يعيشا عليها، دائما وضعا أفكارهما موضع التساؤل أمام الواقع، لمعرفة إذا كان الواقع يجد ضرورة لها أو يؤيدها. ليس من الصدفة أن الاثنين بدآ شيوعيين في شبابهما وأصبحا ليبراليين عند نضوجهما. من يقرأ «الإنسان المتمرد» لكامو و«ضد الريح والأمواج» ليوسا، يجد أن هناك خيطا واحدا رافق تطورهما الفكري ذلك: الدفاع عن الإنسان من دون لون أيديولوجي، من دون دوغمائية تدعي معرفة مسبقة للعالم، أو من دون معرفة تتوسم إنتاج ثوابت إلهية، لا غير.

من يقرأ أعمال بيرغاس يوسا من دون مواقف مسبقة فلن يجد يوسا رجل اليمين المحافظ أو الرجعي (كما يدعي اليسار)، بل سيجد «أن هناك قلة مثل يوسا دافعوا عن الأفكار التي كان على اليسار أصلا أن يدافع عنها»، كما كتب الروائي الكولومبي خوان غابرييل باسكيز في صحيفة «البايس». لم يفعل يوسا ذلك في رواياته وحسب، بل فعل ذلك في كل مقالاته المضادة للعسكرتارية، في دفاعه عن الجنسية المثلية، في رفضه للقومية والعنصرية، في دعوته لرفع الحظر عن المخدرات، بل حتى دعواته الراديكالية لخصخصة الاقتصاد، هي اليوم تتصدر برامج كل حكومات اليسار (الصين نموذج لذلك)!

المحصلة ما يدعو إليه يوسا الكاتب والروائي يوسا هو ليس غير الدفاع عن الحرية والعدالة: ليس هناك عدالة من دون حرية، وليس هناك حرية من دون عدالة. قطبان متعارضان في الحقيقة، لكن أليس من هذين القطبين المتصارعين يتغذى الأدب، الأدب الروائي بالذات؟ أليس عند هذين القطبين المتصارعين تلتقي أيضا الأيديولوجيتان، أيديولوجية اليمين وأيديولوجية اليسار؟ بل أليس عند هذين القطبين يفترق طريق الأيديولوجيتين هذين أيضا؟ ذلك ما فهمه بيرغاس يوسا جيدا، وذلك ما فهمه قبله أستاذه ألبير كامو.

في لقائي الأول مع بيرغاس يوسا على هامش مهرجان الأدب العالمي في برلين، قال لي يوسا، عندما عرف أنني كاتب عراقي وأنني أحد المعجبين بروايته، لدرجة أنني قرأتها جميعا، وأنني أتحدث معه الإسبانية بطلاقة، بأن لقائي به يذكره بحادثة قديمة تعود إلى أيام شبابه، عندما التقى بألبير كامو للمرة الأولى والأخيرة، لأن كامو مات بعدها بسنة. القصة هي كما رواها حدثت بالشكل التالي:

قبل خمسين عاما اقترب شاب نحيف من ألبير كامو في شوارع باريس، قدم نفسه له، بلغة فرنسية مكسرة، قال له، إنه أحد المعجبين به، ثم سلمه مجلة أميركية لاتينية كانت نشرت قصة للشاب. كان كامو قد حصل على النوبل قبل وقت قصير، وكان يسمع يوميا كلمات الإطراء، من أين له أن يعرف أن الشاب الذي تقدم منه سيصبح كاتبا كبيرا وسيحصل على النوبل أيضا؟ تلك هي الحياة، يوسا هو الآخر لم يعرف أنه لم يحتج مخاطبة كامو باللغة الفرنسية التي بدأ تعلمها للتو، من أين له أن يعرف أن كامو سيجيبه بلغته وأنه يتحدث الإسبانية بطلاقة لأن والديه من أصل إسباني؟ بل من أين له أن يعرف أنه سيسر على خطى أستاذه ذاته ليس في تحولاته وحسب، بل أن يصبح كاتبا ملعونا من قبل مثقفي اليسار؟