الاتصالات الحديثة تشيع «ثقافة الفتاوى»

وسائل الاتصالات والقنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية أسهمت في انتشارها > سذاجة الأمور التي يستفتى فيها تشير إلى مدى التسطيح الفكري والثقافي

جمهور من المتدينين في إحدى المحاضرات («الشرق الأوسط»)
TT

* الشيخ قيس المبارك: سأل رجل الإمام أبا حنيفة – يرحمه الله -: إذا نزعت ثيابي ودخلت النهر أغتسل.. فإلى القبلة أتوجه أم إلى غيرها؟ فقال له الإمام: الأفضل أن يكون وجهك تجاه ثيابك لئلا تسرق! فجواب هذه الأسئلة يكون على قدر السائل لا على قدر المسائل.

* «مجتمع الفتوى»، إذا صح التعبير، هو مجتمع شكلته، إلى درجة كبيرة، البرامج الدينية التي تبثها القنوات الفضائية، التي غذت الشغف عند الناس في البحث عن فتاوى تخص أمورها الحياتية واليومية. وهذا المجتمع، أيا ما كان، خاصة في البلدان العربية، هو شبيه بالمجتمع الكهنوتي في بلدان ينفي فيها المسلمون عامة، والعلماء خاصة، أن يكون دينهم دينا كهنوتيا تحتكر فيه طبقة معينة أسرار العلم الشرعي.. ففي السعودية، على سبيل المثال، تحولت الفتوى إلى حديث يومي تخصص له ساعات ضمن البرامج اليومية من البث التلفزيوني والإذاعي، كما يمكن للمشاهدين، نتيجة شغفهم بالفتاوى، أن يحولوا أي برنامج تلفزيوني ذي صبغة دينية، من برنامج تثقيفي وفكري إلى برنامج للفتاوى، حول مختلف النشاطات حتى الممارسات الطبيعية، مما عطل دور العقل الناقد في المجتمع لصالح من يمسك بزمام الفتوى، ويملك آلة الإفتاء.

ومما ساعد المفتين على لعب دور ديني وثقافي تطور وسائل الاتصالات والقنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية، حين تنهال الأسئلة والأجوبة، التي لا تختلف في الغالب الأعم عن أحكام معلومة في أمر من الأمور، وخلال وقت يسير، يقرر فيه المفتي أحيانا أحكاما خطيرة فيما يخص الحلال والحرام خاصة.

عن هذه الفتاوى وتأثيرها البالغ، يقول الشيخ قيس المبارك، عضو هيئة كبار العلماء السعودية: «إن هذا النهج هو من التشدد وعدم الفهم للأحكام الشرعية الذي يستفتى في أمور معلومة الحكم، فهذه أسئلة كما قال العلماء منشؤها سوء فهم التشريع. وكما فعل اليهود مع سيدنا موسى، عليه السلام، حين أمرهم بذبح بقرة، وكان يكفيهم ذبح أي بقرة، لكنهم شددوا فشدد الله عليهم عقابا لهم، وقريب من ذلك ما يقع من بعض الناس من السؤال عن حكم أشياء لا يُسأل عنها». وهنا يورد الشيخ طرفة للإمام الأكبر أبي حنيفة النعمان؛ حيث يقول: «من ذلك أن رجلا سأل الإمام أبا حنيفة – يرحمه الله -: إذا نزعت ثيابي ودخلت النهر أغتسل، فإلى القبلة أتوجه أم إلى غيرها؟ فقال له الإمام: الأفضل أن يكون وجهك تجاه ثيابك لئلا تسرق! فجواب هذه الأسئلة يكون على قدر السائل لا على قدر المسائل»! ويعتبر المبارك أن «مثل هذه الأسئلة نادر، وليس ظاهرة يخشى منها».

في السياق ذاته، يقول الدكتور تركي الحمد: «إن الثقافة التقليدية هي التي أعطت المجال لطغيان الفتاوى على كثير من الأمور، وهي أزمة اجتماعية حقيقية مشابهة تماما لما حدث في أوروبا في العصور الوسطى؛ حيث يقول المثل الشعبي «خل بينك وبين النار مطوع» يعني «ضع بينك وبين النار شيخ»، مما يحرم الآخرين من حرية التفكير فيما يمارسونه من أمور، ويستنبطون أحكامها الشرعية من خلال ممارستهم ومن خلال فهمهم للأحكام الدينية التي يطبقونها. الكل يقول لا كهنوتية في الإسلام ونحن نقول ذلك لا كهنوتية في الإسلام كدين، لكن ممارسة الأتباع والمفتين هي الكهنوتية التي نهى عنها الإسلام».

هذا النهج الاجتماعي في البحث عمَّن يفسر الأحكام ويفكر عن الآخر، هو «معضلة تختصر في جملة واحدة: انحرافنا عن مدار المجتمعات المعرفية»، كما يقول الكاتب محمود صباغ، مضيفا: «من مظاهر المجتمعات المعرفية أنها تقوم على قيم راسخة من الإبداع والاستقلال والانتقاد. إن هدير الحداثة فيها يصيب المؤسسات والأفراد والجهات المنتجة للمعرفة، كلها سواء، فتسود فيها قيم الاستقلال عن إطار الوصايات التي تحدد المفكر فيه وغير المفكر فيه وفق سلطات التقليد السائدة، ويتجاوز فيها العقل الجمعي حالة الاعتقاد المطلق نحو حالة الانتقاد الدائم». ويضيف صباغ: «إن إنتاج الفتوى - أو النظام أو القانون - في المجتمعات المعرفية، يتكئ على مجموعة ثرية من قيم (الإبداع)، مقابل الفتوى في المجتمعات التقليدية - أو الانتقالية - التي تقتصر على قيم (التقليد) والاجترار والاستهلاك».

أما الباحث الشرعي رائد السمهوري فيقول: «إن البنية الفكرية الاجتماعية هي التي ارتقت بالمفتي إلى أن يكون (موقعا) عن رب العالمين، فليس ما يقوله المفتي مجرد (فهم) يقدمه للنص، بل هو يقدمه وكأنه (توقيع) عن الله! هي مسألة أشبه بالنيابة عن الله! أي أن المفتي بحسب ثقافة بعض المدارس نائب عن الله! يوقع عنه المراسيم كما يوقعها النائب المفوض. ونتاج ذلك ارتباط حياة المجتمع بالمفتي والفتوى، فلا يقدم المجتمع رجلا ولا يخطو خطوة إلا بفتوى، ما نراه عبر شاشات التلفزة ونسمعه ونقرأه خير مثال على ما نقول».

ويعتبر الشيخ أحمد قاسم الغامدي، الباحث الشرعي ومدير فرع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة مكة المكرمة، أن لجوء الناس إلى من يفسر لهم الأحكام حتى إن كانت من الأمور البديهية جاء نتيجة الاهتمام بحفظ النصوص، والمبالغة فيه، حتى اعتبر الحفظ معيارا، أوصل العقل المسلم إلى درجة من الجمود الخطير، مما عاد على الحركة العلمية والفكرية والثقافية عند المسلمين بالضرر، فحين قيدت المعرفة بقيود تقديس الرجال والخوف عاد ذلك على الأمة بالعجز والجمود، حتى توقفت طوائف من الناس عن قبول كل جديد أو التعامل مع ما جاء من غير المسلمين ولو كان في أصله مباحا.

ويتابع: «إن الجمود ضد الفطرة وضد العقل وضد الدين، يعطل فهم النص والحياة، والدور المهم الأعظم لرائد الإصلاح أن يظهر النص عن كل ما زيد عليه من أقوال الناس وأفهامهم، حتى يواجهوا خطاب الله وخطاب رسوله. إن الرجوع إلى التراث مهم للمفتي وللقاضي وللفقيه والمفكر، ولكن ليس عليهم أن يلتزموه».

الدكتور تركي الحمد أشار أيضا إلى أن أقساما من المجتمع استلبت فكريا منذ تمدد تيار الصحوة في فترة الثمانينات من القرن الماضي، حين قلبت القاعدة الفقهية (الأصل في الأمور الإباحة ما لم يحرم بنص شرعي) إلى تغليب جانب التحريم في كل شيء ما لم يقل المفتي إنه حلال وأصبحت القاعدة أن الحرام هو الأصل والقاعدة، والحلال هو الاستثناء والفرع، مما دفع البعض من الناس إلى أسئلة متدنية من الناحية الفكرية حتى بلغ البعض للسؤال: (هل يجوز الأكل بالملعقة أم لا؟).

وهذا، بحسب الحمد، مؤشر على زيادة التخلف، وسيادة الخطاب الديني، وهنا يستدرك: «المقصود الخطاب الديني المتشدد حسب فهم أشخاص معينين يدفعون الناس إلى الحصول على فتوى لكل شيء، وليس المقصود الدين».

ويقول الشيخ قيس المبارك، عضو هيئة كبار العلماء السعودية: «إنه من الأمور البديهية أن العلم قبل القول وقبل العمل؛ ذلك أنه ليس للفرد أن يسلك سلوكا غير منضبط بالعقل، فمن احترام العقل أن نعمله ونأخذ بمقتضاه، وقد دلنا العقل على أن الإسلام دين الله، فمن رحمة الله بنا أن وضع لنا منهجا قويما، دلنا فيه على الطريق الصحيح للتعامل مع الأشياء في سيرنا في الأرض، وأمرنا أن نسير على هديه، فيكون امتثالنا لشريعته كامتثال الطفل الصغير لقانون بيت أسرته الذي يعلمه إياه والداه، ونحن قد حذرنا ربنا أن يسير الواحد منا بغير هدى، لا يضبط تصرفاته ولا يسير وفق نظام، وذلك في قوله عز من قائل: «ولا تقف ما ليس لك به علم» فشأن من يسير في الدنيا بلا قانون ولا نظام، شأن من يقول: أنا أسير محكما عقلي، لا أحتكم لرأي غيري، فأي عقل بقي عند هذا المسكين يحاذر عليه أن يضيع؟!

* مصدر الفتوى

* المفتي في «المجتمعات المعرفية» كما يقول محمود صباغ، هو «المتمكن من أدواته المنهجية وآلياته المنطقية، يستحيل منتجا لخطاب يحمل صبغة عقلية استدلالية، تقطع مع التقليد المعيق إزاء غايات الاجتهاد العليا، فتقليد ما أنتجه السلف من غير تحصيل الأسباب التي جعلتهم يبدعون ما أنتجوه، مأزق كبير يقع فيه الفقهاء المقلدون، وتستحيل معهم أحكام الاجتهاد جامدة واجترارية وعصية على التداول أو الانسجام مع الاحتياجات المعاصرة».

وهو يعتبر أن إنتاج الفتوى الحديث يجب أن يصدر مستوفيا لشروط وأصول ومبادئ (الإبداع)؛ حيث يقرن النزوع التأصيلي والنفس التجديدي بما يضمن تأسيس صيغ عملية توجيهية، تخرج من نمطية الوعظ المباشر، ويمكنها من إحداث تأثير جمعي حضاري دائم.

أما الدكتور تركي الحمد فيتناول دور المفتي اجتماعيا بقوله: «إن المشيخة أو التصدي للإفتاء أقرب الطرق إلى الوجاهة الاجتماعية. وأصبح هذا الدور يضفي قداسة على منتهجيه، مما جعله وسيلة سهلة للترقي الاجتماعي وتصدر المجتمع» ويضيف: «لقد أسقط المجتمع هالة من خلال تصرفات أفراده على مصدر الفتوى، فعندما يقدم الشيخ في مجلس ما يجلس في صدر المجلس وتقدم له الخدمات وتيسر له أموره في أي مجال يتدخل فيه، هي التي دفعت الجميع للتسابق على هذا الدور؛ لأنها طريق سهل للنجاح، من دون أي جهد أو أي علم حقيقي. في الماضي كان الصحابة يتجنبون الفتوى، بينما نجد الآن أن لدينا تقاتلا على إصدارها. وعلى كثرة المفتين لدينا لا تجد إلا قلة قليلة يعدون على الأصابع يمكن أن تعتمد عليهم والبقية يفتون بما يأتيهم».

من ناحيته، يرى الشيخ أحمد الغامدي، الباحث الشرعي، أن «التعصب والتقليد وانتشار ثقافة العادات والتقاليد هو لب المشكلة»، كما يعتبر أن ذلك يشكل خللا كبيرا له مضاره. ويقول: «إن آثار ذلك الخلل تظهر على الفرد والجماعة وعلى الفتوى والدعوة وعمارة الأرض، فإذا كان أثر ذلك واضحا على الكثيرين من الموصوفين بالعلم فمن باب أولى أن يتأثر بذلك من دونهم ممن يمثل الرأي العام بأضعاف ذلك الخلل».

ويتابع: «هذا الخلل كان له دور كبير في إلغاء العقل وإغفال الواقع والخلط بين ورع الفرد ومصلحة الجماعة ودعا إلى تغليب طائفة من العلماء والعامة رهبانية مبالغا فيها طال عليها الأمد فدفعت بفريق منهم للمطالبة بإلزام الجميع للأخذ بها على الرغم مما فيها من مبالغات طغت على الحق في أحكام الدين التي قد تجاوز بها الحدود المحمودة في مصلحة الفرد، فضلا عن مصلحة الجماعة وتنامي الشك في كل ما يخالف السائد حتى غلب الوسواس على كل جديد بالسؤال عنه أحرام أم حلال هو حتى لو كان من المصالح المرسلة أو الأمور الدنيوية أو المسكوت المعفو عنه».

* عقلية التحريم

* هل لعقلية التحريم دور في تفشي ظاهرة البحث عن الفتوى لكل شيء، حتى بلغ المجتمع مستوى متدنيا من التفكير حد السؤال عن حكم الخميرة، وهل هي حرام أم حلال، لأنها قد تكون نوعا من الخمر، والسؤال عن حكم لحم البطريق: هل هو حرام أم حلال؟

يقول الباحث رائد السمهوري: «أظن أن المسألة هنا مقلوبة، بمعنى أن عقلية التحريم ناشئة عن تثبيت سلطة الفتوى، وليس العكس. فهناك مدرسة ترى أن ما ليس لله فيه حكم قطعي في الكتاب والسنة، فليس لله فيه حكم في الباطن وفي الأمر نفسه، وهذا الرأي يحقق استغناء ولو نسبيا عن منظومة الفتوى وثقافتها. قال بهذا القول طائفة من المتكلمين من أبرزهم: أبو علي الجبائي وأبو هاشم الجبائي المعتزليان وغيرهما. في مقابل ذلك مدرسة ترى أن هذا هو مذهب الإباحية والزنادقة، فلله حكم في كل شيء حتى لو لم يرد فيه نص قطعي، وهذا موجود في علم أصول الفقه، فالتراث مليء بالآراء المختلفة. وعلى الرغم من الجهر - بلسان المقال - بأن «باب الاجتهاد مفتوح»، فإن لسان الحال يفتح على المجتهد المخالف بابا من الويل والثبور، حينما يخرج عن النسق».

* سلطة المفتي وسلطة الفتوى

* ويضيف الدكتور تركي الحمد بدوره: سلطة الفتوى أعطت للمتصدرين لها سلطة أكبر من السلطة الثقافية، فانحسر دور المثقف في المجال النخبوي، بينما استولى الواعظ والمفتي على الشارع ثقافيا واجتماعيا وتولى دورا لا يقارعه دور آخر، فمن يعارضه يعارض الله». وكلامه هذا يتفق مع ما ذهب له الباحث الشرعي رائد السمهوري، الذي يشير إلى أن المفتي كان يعتبر نفسه «موقعا عن الله، ونائبا عنه»، فلا عجب أن تحيط به هالة من القداسة والتعظيم والإجلال، تتقاصر دونها الأعناق، فيحتل فهمه البشري منزلة النص نفسه في بعض الأحيان، بحيث يقوم على فتواه الولاء والبراء!

ويستطرد قائلا: «عند ذلك تصبح أقواله هي نفسها دليلا يحتج به، بدلا من أن يحتج له، ويسود التقليد ويضمر الإبداع والتجديد، وتصبح الحياة حتى في أدق تفاصيلها منوطة بالفتوى، وتنال أهمية كبرى توجه المجتمع في كل اتجاهات الحياة، وتشغل مساحة من الاهتمام ربما كان الأجدر أن تمتلئ بما هو أكثر فائدة وتحقيقا للمصلحة، بل ربما تنافس أصحاب الاختصاص الخبراء في مجالاتهم حتى تعلو على أصواتهم، ويزداد الأمر سوءا حين يرافق هذه المزاحمة خطاب ربما يمارس المصادرة للآراء الأخرى المبنية على دراسات وأرقام وإحصاءات بحجة أنها تخالف الدين، وهي على التحقيق تخالف فهم أصحابها للدين».

ويضيف: «هذا التوجه يسلب حق العاقل في ممارسة التفكير إلا فيما لا يصادم منظومة الفتوى، ليس في فهم الدين فقط، بل وفي بعض الأحيان في العلوم الطبيعية والاجتماعية وغيرها».

أما الشيخ أحمد قاسم، فيرى أن «الأمة التي تنهض بحرية الفكر تسود، والتي تقهر الفكر تخسر؛ إذ إن حرية الفكر تعني الإذن بالفهم، وفتح آفاق المعرفة والعلم والعمل بأحسن ما تملكه، في الحق والوحي والخير والعدل، أما قهر الفكر فإنه تقييد لحرية الفهم وإماتة للعقل، وقتل لروح الدين، وقفل لباب الاجتهاد، وسيطرة لثقافة الرقيب الخارجي».

ويضيف: «إن حرية الفكر هي التي أنتجت المذاهب الإسلامية، ولكن التعصب لتلك المذاهب هو الذي حرمنا منهجية حرية الفكر الذي بنى عقول سلف الأمة وأيقظ هممها فأوقدت العقول والهمم حينذاك ما أصلح الأمم».

ويختم بالقول: «إن حرية التفكير من دون حرية التعبير كفارس حبيس؛ إذ إن التعبير هو آلة إيصال الفكرة، ولا يقتل الفكرة شيء مثل الصمت، فالطغيان على العقل يقتل عزة الإنسان، ويحطم قواه الذهنية».