غوته.. هل كان متأثرا بالمتنبي؟

كتاب فرنسي عنه وعن بعض شعراء العصر الاسلامي

غلاف الكتاب
TT

قام بتأليف هذا الكتاب أحد كبار الاختصاصيين الفرنسيين بالدراسات الجرمانية. إنه البروفيسور رولان كريبس أستاذ الأدب الألماني في السوربون ورئيس جمعية أصدقاء غوته في فرنسا. وهو يقدم هنا صورة عن حياة هذا الكاتب الفذ الذي ملأ الدنيا وشغل الناس تماما كما قيل عن المتنبي. ويبدو أنه كان متأثرا به بحسب ما تقول مستشرقة أستاذة في جامعة ستانفورد بالولايات المتحدة في كتاب بعنوان: «غوته وبعض شعراء العصر الإسلامي». ومعلوم أن غوته ألف كتابا بعنوان: «ديوان الغرب والشرق». وتحدث فيه عن بعض أدبائنا العرب وشخصياتنا الكبرى كمجنون ليلى والمتنبي. وأبدى إعجابه الشديد بأدبنا وحضارتنا العربية الإسلامية على عكس الكثيرين من العنصريين الغربيين. أيا يكن من أمر فقد احتل غوته مكانة استثنائية داخل الثقافة الألمانية. وهي مكانة لا يستطيع أن ينافسه عليها أي كاتب آخر مهما علا شأنه، ولا تشبهها إلا مكانة شكسبير لدى الإنجليز أو فيكتور هيغو لدى الفرنسيين.

ولد غوته في مدينة فرانكفورت في 28 أغسطس (آب) من عام 1749: أي في منتصف القرن الثامن عشر. وقد ابتسم له الحظ منذ نعومة أظفاره. فقد كان ينتمي إلى عائلة غنية من الارستقراطيين البورجوازيين أي الميسورين ماديا والذين يتمتعون بمكانة مرموقة في المجتمع.

وفي عام 1770، أي في الحادية والعشرين من عمره، تعرف غوته على الكاتب الشهير هيردر وكان قوميا ألمانيا من الدرجة الأولى. وهو الذي كشف له عن كنوز الحضارة الإغريقية، وروائع الشرق العربي الإسلامي، وأجواء العصور الوسطى. وحببه بجمال الشعر البدائي الصادر من أعماق العصور.

وفي تلك الفترة تعرف غوته على ابنة قسيس مسيحي وأحبها حبا جنونيا. وكان أكبر حب عرفه في شبابه الأول. وقد كتب لها أولى قصائده، وهي من أجمل ما كتب من شعر.

ثم سمع بعدئذ أن أحد أصدقائه انتحر بسبب قصة حب عاصفة لم تكلل بالنجاح. وعندئذ بدأت تختمر في أعماقه رواية «آلام فيرتر» الشهيرة. وبالفعل فقد كتبها عام 1774، وقد شكلت منعطفا في تاريخ الأدب الألماني ودشنت ما ندعوه بالمرحلة الرومانطيقية وقطعت مع المرحلة الكلاسيكية الهادئة أو الباردة الموضوعية.

ينبغي العلم أن أدباء ألمانيا آنذاك كانوا واقعين تحت تأثير شخصيتين كبيرتين هما: شكسبير وجان جاك روسو. وقد استلهم غوته روسو في كتاباته الأولى كما فعل أدباء ألمانيا الآخرون من أمثال شيلر، أو هولدرلين، أو حتى هيغل. فروسو هو مدشن الرومانطيقية في الآداب الأوروبية. وحبه للطبيعة او انصهاره فيها كان بلا حدود. ونزعته الإنسانية كانت من أعمق ما يكون.

نعم إن العاطفة الجياشة والصادقة لروسو أثرت على الجميع. ولذلك فإن كتاب غوته «آلام فيرتر» جاء مطبوعا بطابعه. وقد قال عنه بعد سنوات طويلة: كل إنسان ينبغي أن يعتقد في لحظة ما من لحظات حياته أن هذا الكتاب المؤثر كتب له وحده عندما يقرأه لأول مرة.

وهذا يعني أن على كل إنسان أن يعيش المرحلة الرومانطيقية في شبابه الأول قبل أن يصل إلى مرحلة النضج والهدوء. فالسكينة الحقيقية أو الرصانة لا تجيء إلا بعد أن نمر بمرحلة العواصف الغرامية والأعاصير العاطفية والزلازل البركانية. ينبغي أن تدفع الثمن لكي تنضج وتعقل، هذا إذا نضجت طبعا!.. وذلك لأن بعضهم قد لا ينضج أبدا ولا يعقل وإنما يظل باحثا عن الحب حتى بعد خراب البصرة.. وأكبر مثال على ذلك غوته نفسه الذي عشق فتاة في السابعة عشرة بعد أن تجاوز هو السبعين وزعل وحرد لأنها رفضته.. ولله في خلقه شؤون.. سامحونا..

في عام 1786 وبالتحديد في الثالث من سبتمبر (أيلول) ابتدأ غوته رحلته الشهيرة إلى إيطاليا. ومعلوم أن جميع أدباء تلك الفترة كانوا يحلمون بها من أجل الاطلاع على فن عصر النهضة الشهير في البندقية، وفلورنسا، وروما، الخ..

كانت هذه المرحلة ضرورية لتغذية الذوق الفني للكاتب لأن إيطاليا هي مهد النهضة الأوروبية كما هو معلوم. ومن هناك كتب رسائل متحمسة لأصدقائه يقول فيها: الآن ابتدأت حياة جديدة حقا. الآن أستطيع أن أرى بأم عيني رسوم مايكل انجلو ورافائيلو وسواهما من العباقرة. يا لها من لحظات لا تنسى. إني في قمة السعادة. ولا نعرف ما إذا كان قد وقع في حب امرأة إيطالية أثناء إقامته أم لا. ولكن هل يمكن ألا يقع؟ ويبدو أن حب الإيطاليات قاتل لا شفاء منه.اسألوا ستندال الذي ذبحته إحداهن ذبحا في ميلانو.

ومن مدينة نابولي كتب يقول: إن المرء ينسى نفسه في هذه المدينة. إنه يسكر بعطرها وجمالها. ثم ذهب إلى صقلية وفي يده «أوديسة» هوميروس لكي يتعرف على الأماكن التي ذكرها الشاعر اليوناني الكبير في رائعته الخالدة.

ولكن العودة أصبحت إجبارية بسبب مسؤولياته الرسمية كمستشار لدى بلاط الأمراء في مملكة فايمار الألمانية. بل إن مرتبته في البلاط كانت تصل إلى درجة وزير. وفي تلك الفترة أو بعدها بسنوات في الواقع حصل الغزو الفرنسي لألمانيا.

وقد خاف غوته على نفسه في لحظة من اللحظات بعد أن دخل نابليون المدينة وطلب أن يراه شخصيا. وتساءل ماذا يريد مني يا ترى؟ هل سيقتلني؟ ولكن عندما مثل أمامه نظر إليه القائد الفرنسي من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه وتأمل فيه مليا ثم قال: هذا رجل! وسأله: كم عمرك؟ فأجابه: ستون سنة. فقال له: لا يبدو عليك ذلك. وكان غوته طويلا، جميلا، مهيبا تبدو عليه علامات العظمة والعبقرية.

وهذا ما أدهش نابليون بونابرت الذي لم يكن يزيد عمره آنذاك عن خمسة وثلاثين عاما. ثم قال له نابليون: أنت تكتب مسرحيات، أليس كذلك؟ فرد عليه: نعم. وقال له: سمعت أيضا أنك تترجم بعض الأعمال الفرنسية ومن بينها مسرحية «محمد» لفولتير، فقال له: هذا صحيح.

أنا معجب بالآداب الفرنسية يا جلالة الإمبراطور. فقال له نابليون: ولكنها مسرحية سخيفة. ثم دخل نابليون معه في تفاصيل أدبه وراح يتحدث له عن «آلام فيرتر» حديث من قرأها مطولا ودرسها بعمق. ودهش غوته لمدى معرفة نابليون بأدبه وتساءل بينه وبين نفسه: هل عنده الوقت الكافي لكي يقرأ المسرحيات والقصص؟ هل يمكن لفاتح كبير بمثل هذا الحجم أن يهتم بالأدب والأدباء؟ ولكنه نسي أن نابليون كان عاشقا كبيرا وقد تعذب كثيرا في الحب. من يصدق ذلك؟ كل الذين صنعوا المعجزات يوما ما كانوا عشاقا كبارا.. كل رجل عظيم وراءه قصة حب أعظم منه. فهي زاده ووقود عبقريته.

ولكن على الرغم من حماسة غوته للثورة الفرنسية في البداية كمعظم أدباء ألمانيا وفلاسفتها فإنه راح يبتعد عنها لاحقا. وقد صرح لأحد المقربين منه قائلا: إني أكره الانقلابات العنيفة لأنها تدمر بقدر ما تعمر إن لم يكن أكثر. إني لا أحب الأحداث العنيفة لأنها مضادة لطبيعة الأشياء. إني أحب التغيير الذي يحصل بهدوء وليس عن طريق الانقلاب العنيف والقطيعة المطلقة.وهذا يعني أنه كان مع الإصلاح التدريجي لا الثورة.

وأخيرا يجدر بنا تقديم بعض الآراء عنه. فقد كتب الأديب الفرنسي الرومانطيقي الشهير شاتوبريان يقول: إني معجب به ولكني لا أحبه على الإطلاق. وأما فلوبير فقال عن غوته: يا له من رجل عظيم غوته هذا! ولكنه كان يمتلك كل الأوراق في يده. كل الحظ كان إلى جانبه. وأما الفيلسوف كيركيغارد فكان حكمه عليه سلبيا. هذا في حين أن نيتشه كتب يقول: غوته: هو آخر رجل ألماني يمكن أن أحترمه!

فإذا كان نيتشه قد أعجب به فهذا يعني أنه في قمة القمم لأن نيتشه كما هو معلوم لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب. وإذا رجفت شوارب نيتشه اهتز العالم!