لماذا انتهى العصر الذهبي للعلوم العربية؟

أستاذ الفيزياء النظرية جيم الخليلي في كتابه الجديد «المستكشفون»

غلاف الكتاب
TT

قليلة هي الكتابات في الغرب التي تتناول منجزات الحضارة الإسلامية والعربية وأعلامها البارزين، وفضلهم على حضارة الغرب. ومن بين الكتب الصادرة حديثا حول هذا المجال، التي تشكل إضافة مهمة إلى المكتبة الغربية كتاب البروفسور البريطاني العراقي الأصل جيم الخليلي بعنوان «المستكشفون: العصر الذهبي للعلوم العربية» عن دار «بنجوين» للنشر. على مدى ستة عشر فصلا، يتعرف القارئ على كنوز وتراث الحضارة الإسلامية والعربية وأعلامها الرواد في الكثير من مجالات العلوم والمعرفة ودورهم البارز في تقدم حضارة الغرب وعلومها الحديثة، من أمثال ابن سينا وابن النفيس وابن الهيثم وابن الشاطر والزهراوي والبيروني والخوارزمي وجابر بن حيان... وغيرهم من حملة مشاعل حضارتنا الرائدة، إلى أن ينتهي المؤلف في كتابه إلى الحديث عن واقع وموقع العلم في العالم الإسلامي والعربي في العصر الحاضر، وسبل وأساليب النهوض به لاستكمال مسيرة روادنا الأوائل. ويؤكد الخليلي أن الإسلام، وعلى عكس ما هو مفهوم وشائع عند الغرب، لم يتعارض مع العلم بل كان الدافع والمحفز وراء الكثير من الإسهامات والاكتشافات العلمية الرائدة في مجالات العلوم المتنوعة ومنها الطب والفلك والهندسة والفيزياء والكيمياء وغيرها.

وجدير بالذكر أن البروفسور الخليلي، يعمل أستاذا للفيزياء النظرية ودمج العامة بالعلوم بجامعة سري البريطانية ونائب رئيس رابطة العلوم البريطانية، والشهير بمؤلفاته العلمية وتبسيطه للعلوم في وسائل الإعلام البريطانية وإبرازه للإسهامات العلمية الرائدة للحضارة الإسلامية وللعلماء العرب والمسلمين من خلال برامجه التلفزيونية الشهيرة المميزة، والتي من أهمها وأبرزها تقديمه لسلسلة البرامج التلفزيونية الوثائقية العلمية لقناة التلفزيون البريطانية «بي بي سي»، التي من بينها وأهمها برنامج «الذرة» في ثلاثة أجزاء وبرنامج «العلم والإسلام» في ثلاثة أجزاء، حيث سافر في رحلة علمية شائقة عبر إيران وسورية ومصر وتونس لاكتشاف التقدم الهائل الذي وصل إليه العرب والمسلمون في مختلف العلوم، وإبراز إسهاماتهم الرائدة في إنشاء علوم جديدة أصبحت أساس العلوم الحديثة الآن وأنهم أصحاب الفضل في بناء علوم وحضارة الغرب.

وقد اختير الخليلي عام 2004 واحدا ضمن 21 عالما من وجوه العلوم الشهيرة في بريطانيا، كما حصل عام 2007 على جائزة عالم الكيمياء والفيزياء الإنجليزي الشهير مايكل فاراداي، في تبسيط وتوصيل العلوم، التي تقدمها الجمعية الملكية البريطانية للتميز في توصيل العلوم للعامة.

ويعتبر كتاب الخليلي «المستكشفون: العصر الذهبي للعلوم العربية»، الذي يقع في 302 صفحة من القطع المتوسط، من الكتب الرائدة والمفيدة خاصة بالنسبة للقارئ في الغرب، حيث يتعرف من خلاله على الدور البارز للحضارة الإسلامية والعربية التي دامت لأكثر من 700 عام، وذلك في الفترة من القرن الثامن وحتى القرن الخامس عشر، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تعيش في ظلام وجهل تلك الفترة المفقودة في النصوص والكتب التي تتحدث عن تاريخ العلم عند الغرب، حيث تذكر هذه النصوص أن التاريخ لم يقدم نظيرا للحضارة الإغريقية إلا بعد أن شهد القرن السادس عشر النهضة الأوروبية. وهذا يعني أن هناك 1000 عام كانت بمثابة عصور أطلق عليها «العصور المظلمة»، الأمر الذي يعتبره الخليلي نوعا من المغالاة، موضحا ذلك بقوله إن الأفكار والنظريات والاكتشافات العلمية تحدث بشكل مستمر وتدريجي، كما أن الأفكار تنمو وتتطور وتنتشر بواسطة العلماء على مختلف خلفياتهم الثقافية والحضارية، وذلك من خلال تبادلها وترجمتها، وعن طريق نقدهم للنصوص، وإضافة الجديد إليها، لهذا لم يقتصر دور علماء العرب والمسلمين - كما يدعي الغرب - على ترجمة ونقل وحفظ علوم وفنون الحضارات السابقة وحسب، بل درسوا ونقدوا وحللوا تلك العلوم وأضافوا إليها، وقدموا الكثير من الإنجازات العلمية المبتكرة والأصيلة التي كانت أساس للعلوم الحديثة.

أفرد الخليلي الفصل الأول من كتابه للحديث عن الخليفة عبد الله بن هارون الرشيد الذي لقبه أبوه بـ«المأمون» (786 - 833 م) والذي يعتبره الخليلي بطل قصته، إذ يرى أن المأمون هو الصانع والملهم والداعم الحقيقي لهذه الثورة العلمية العظيمة، حيث كتب عن نشأته وتعليمه وسماته الشخصية والدوافع الحقيقة وراء حبه للعلوم والثقافات المختلفة وأيضا عن فترة خلافته، حيث يقول «إن الخليفة المأمون لم يكن هو الخليفة الوحيد الذي دعم وشجع على البحث والعلم. ولكنه تميز عن جميع الخلفاء فكان أكثرهم ثقافة وتحمسا وشغفا، ففضلا عن كونه أحد أبناء الخليفة هارون الرشيد أشهر الخلفاء المسلمين على الإطلاق عند الغرب، إلا أنه يعتبر الخليفة الوحيد الذي خلق في بغداد، عاصمة الإمبراطورية الإسلامية، بيئة تتمتع بجو سادت فيه روح المنهج العقلاني في البحث، والتفكير الإبداعي والأصيل والحوار والمناقشة الحرة. وعلى الرغم من أن تعطش العباسيين للنصوص القديمة الإغريقية والهندية والفارسية وترجمتها للعربية بدأ قبل عصر المأمون، فإنه حول ذلك إلى ولع شخصي فشهدت فترة خلافته ظهور أول العبقريات الحقيقية في العلوم العربية.

وفي الفصل الثاني، عرض المؤلف لظهور ونشأة الإسلام وانتهاء ولاية الخلفاء الراشدين بمقتل الخليفة الرابع الإمام علي، رضي الله تعالى عنه، في مدينة الكوفة بالعراق عام 661 م، وبهذا انتقلت الخلافة للأمويين وأصبحت دمشق عاصمة للإمبراطورية الإسلامية. ويشير المؤلف إلى أن الخليفة عبد الملك بن مروان كان أكثر الخلفاء الأمويين نفوذا، فكان سياسيا محنكا ومحاربا بارعا، وحقق الكثير من الفتوحات، وقام بالكثير من الإنجازات فبنى قبة الصخرة في القدس وأنشأ أول مصنع إسلامي ملكي لسك العملة في الفترة بين عامي 693 و697 م، وكلف الكيميائيين بالتجريب لانتقاء أفضل المعادن لاستخدامها في صناعة العملات. على الرغم من هذا لم يظهر الأمويون اهتماما بالعلوم والتعليم والثقافة عدا فنون العمارة لإشباع عشقهم للأبنية الفخمة، وذلك لانشغالهم بالحكم والتوسعات، إذ غطت الإمبراطورية الإسلامية مساحات أكثر من تلك التي شملتها الإمبراطورية الرومانية، ولكن لم تدم الخلافة الأموية طويلا، إذ استرد العباسيون الخلافة بعد هزيمتهم للأمويين على يد أبو العباس عام 750م، ثم تولى المنصور الخلافة عام 754م.

يقول الخليلي: «لقد شهدت فترة حكم العباسيين الأوائل رخاء وفيرا وإنجازات هائلة ومثيرة، ويرجع ذالك لحرصهم على تحقيق الوحدة وتعميق روح التسامح بين الشعوب والثقافات المختلفة، الأمر الذي أدى إلى حدوث العصر الذهبي للتنوير والتقدم الفكري والعلمي».

أما عن حركة الترجمة، فكان ذلك موضوع الفصل الثالث، فيؤكد الخليلي أن الفضل يرجع إلى حركة الترجمة الشاملة التي دامت لمدة قرنين - من منتصف القرن الثامن وحتى منتصف القرن العاشر الميلادي - في إحداث هذا التقدم المذهل في الكثير من المجالات مثل الرياضيات والهندسة والفيزياء وتصنيع الكيمياء والطب والفلسفة التي بدأت جميعها في بغداد ثم انتقلت لمناطق كثيرة من الإمبراطورية الإسلامية، حيث ترجمت إلى العربية أعداد هائلة من نصوص وأعمال الحضارات والثقافات السابقة مثل الحضارة الإغريقية والهندية والفارسية، وما إن استقرت وانتشرت روح الثقافة والدراسات والبعثات العلمية في جميع ربوع الإمبراطورية اكتفت حركة الترجمة ذاتيا، الأمر الذي ساعد على تحقيق تكامل وانسجام هائلين في المعرفة العلمية التي فاقت بكثير الحد الذي وصلت إليه من قبل. ويعزو المؤلف عوامل ظهور ونجاح حركة الترجمة إلى اهتمام الخلفاء ورعايتهم الخاصة لها، وخاصة الخليفة المنصور وهارون الرشيد والمأمون، وإلى الإسهامات التي قدمها المسيحيون من ذوي المعرفة القوية بلغة وعلوم الإغريق والذين عاشوا على أراضي الإمبراطورية البيزنطية قبل قدوم الإسلام، وكذلك إلى انتشار الدين الإسلامي وتعاليمه التي تحض على أهمية التعلم وتحصيل المعرفة لما في ذلك من فضائل جمة.

ويطرح الخليلي سؤالا مستغربا: «لماذا لم يذكر وينصف تاريخ ثقافات العالم حركة الترجمة الإغريقية - العربية (الغريكو – أرابيك) الرائعة ويضعها إلى جانب مثيلاتها من الحركات العالمية الكبرى؟». ويضيف أيضا: «كما يجب الإشارة إلى والتحدث عن بغداد في القرن الثامن وحتى القرن العاشر تماما كما تذكر أثينا في عصرها الذهبي في عهد بريكليز في القرن الخامس قبل الميلاد والإسكندرية في عهد البطالمة وفلورنسا في نهضتها في عهد عائلة مديشي في القرن الخامس عشر، حتى وإن كانت حركة الترجمة هي كل ما نشكر العباسيين عليه، فإن هذه الفترة يجب أن ننظر إليها على أنها حقبة تاريخية مهمة جدا».

ويفرد الخليلي الفصل الرابع للحديث عن الكيميائي جابر بن حيان (721 - 815 م) الذي يعتبر أحد أبرز وألمع علماء المسلمين وأشهرهم على الإطلاق، ولماذا يمكن أن نعتبره أبو الكيمياء حيث يرجع إليه الفضل في تخليص الكيمياء من مفاهيم الشعوذة وجعلها علما قائما على التجريب.

وفي الفصل الخامس، يتناول المؤلف دور وتاريخ والعوامل التي أدت إلى تأسيس «بيت الحكمة» في بغداد، حيث يرجع الفضل للخليفة المأمون لتحويل بيت الحكمة من مجرد مكتبة قصر إلى واحد من أعظم المراكز العلمية التي عرفها التاريخ.

ويخصص المؤلف الفصول من السادس وحتى الرابع عشر للحديث بالتفصيل عن أعلام ومعالم ومنجزات العصر الذهبي للعلوم العربية مثل البيروني وحنين بن إسحاق والخوارزمي وجابر بن حيان وابن الهيثم وابن سينا، وأصل ودور الأرقام العربية المستخدمة حاليا في معظم دول العالم وهي (0 1 2 3 4 5 6 7 8 9)، إلى غير ذلك من إسهامات رائدة في تقدم الحضارة الإنسانية..

وفي الفصل قبل الأخير الذي جاء تحت عنوان «الإنحدار والنهضة «Decline and Renaissance يعرض الخليلي الأسباب التي أدت إلى أنحدار العصر الذهبي للعلوم العربية والإسلامية وفي الوقت نفسه إلى ظهور النهضة الأوروبية.

أما في الفصل الأخير بعنوان «العلم والإسلام في الحاضر» يقدم المؤلف نظرة تحليلية لما آل إليه حال العلم في العالم الإسلامي والعربي حيث يصل إلى نتيجة مفادها أنه وعلى الرغم من إمتلاك العالم الإسلامي للكثير من الموارد الطبيعية ووصول عدد سكانه لما يربو على المليار إلا أنه ما زال بمعزل عن العلم وعن تحقيق جو يساعد على خلق معرفة جديدة ويستدل على ذلك بالبحوث والدراسات الاستبيانية.