ميدان التحرير في القاهرة.. حالة فنية بامتياز

احتضن ثورة غضب الشباب وتحول إلى ورشة مفتوحة للمبدعين

جانب من النشاطات الإبداعية للمعتصمين في ميدان التحرير («الشرق الأوسط»)
TT

حول فنانون تشكيليون ومغنون شباب ومسرحيون وشعراء وكتاب، ميدان التحرير، مسرح ثورة الغضب المصرية، بقلب العاصمة القاهرة إلى فضاء فني وحالة فنية مفتوحة على الأمل والحلم بالتغيير. وكان لافتا تضافر الكل وانضواؤهم تحت الشعار السياسي الذي رفعه الشباب منذ اندلاع الثورة وهو رحيل النظام، وبدء صفحة جديدة في المجتمع.

فبعد مضي أكثر من أسبوعين على اندلاع ثورة الشباب المصرية في 25 يناير (كانون الثاني) الماضي، تحول ميدان التحرير من ساحة للعراك بين المتظاهرين ورجال الأمن ومؤيدين ومعارضين إلى ساحة جمالية تعرض روح ثورة الشباب المصرية، فقد تهافت الشباب المصري من الفنانين إلى المشاركة بما يستطيعون أن يقدموه للثورة، وتوافد على الميدان مطربون وعازفون على العود يقومون بغناء الأغاني الوطنية، ويشاركهم المتظاهرون والمعتصمون في الغناء، وأيضا هناك شعراء يلقون قصائد وطنية، كما توافد فنانون ومخرجون سينمائيون يقومون بالتصوير الوثائقي للأحداث، وشحذ الفنانون التشكيليون فرشاتهم وألوانهم، وأقاموا ورشا فنية، وحولوا أجزاء من أرضية الميدان إلى متحف جماعي مفتوح، فأصبحت ساحة الميدان زاخرة بلوحات تدين النظام وأعوانه أو تشيد بالثورة وترثي شهداءها.

فعلى أحد أرصفة الميدان، توجد مجموعة كبيرة من اللوحات الفنية المعلقة التي تظهر أحاسيس ومشاعر الشعب تجاه الثورة والنظام، فهناك توجد «رابطة فناني الثورة»، حيث اجتمعت مجموعة من الفنانين التشكيليين، لا يجمعهم أي شيء سوى فنهم وحبهم لمصر.

كما أتاح الاستقرار الأمني، الذي ساد الميدان في ظل حماية قوات الجيش، وبعد أحداث الشغب والانفلات الأمني الدامية، التي وقعت في الأسبوع الماضي، مشاركة الشباب في أعمال فنية تشهد على الأحداث، وتضامنا منهم مع الثورة وتخليدا لأرواح الشهداء. وهذا ما أكده محمد جبريل، 22 سنة، طالب في السنة الأخيرة بكلية الهندسة قسم العمارة بالأكاديمية العربية البحرية للعلوم والتكنولوجيا، وهو أحد فناني «رابطة فناني الثورة» التي أنشأها مجموعة من الفنانين بالميدان: «للأسف لم أشارك منذ يوم 25 يناير، وذلك لانشغالي باختبارات نصف العام الدراسي، ولكنني شاركت في يوم (جمعة الغضب) 28 يناير، وانضممت إلى اللجان الشعبية لحفظ الأمن».

يضيف جبريل: «وبعد أن هدأت الأوضاع قليلا صادفت مجموعة الفنانين، منهم فنانون تشكيليون وخطاطون وموهوبون قد رحبوا بانضمامي إليهم، ونحن نقوم بترجمة مشاعرنا الإيجابية على الأوراق، فعلى الرغم من وجود لوحات كثيرة تسخر من النظام ورموزه فإننا نعبر أيضا عن الروح الإيجابية التي تجلت بسبب الأحداث».

وتشاركه في الرأي سارة محسن، الفنانة التشكيلية الشابة، 22 سنة، خريجة كلية الفنون التطبيقية من الجامعة الألمانية بالقاهرة، تقول سارة: «اشتركت في المظاهرات منذ أول يوم، ولكنني تراجعت لأيام بعد ذلك بسبب اعتراض أسرتي، من منطلق خوفهم من أعمال العنف، ثم عدت للميدان، وقد رأيت الجميع يشاركون بما يستطيعون أن يقدموه، ففي كل ركن يوجد أطباء ومسعفون للمصابين، وفنانون، وأيضا توجد لجان للتنظيم ولجان النظافة ولجان الأمانات, فانضممت إلى رابطة الفنانين، حتى أفيدهم بموهبتي في فن الرسم».

وانضم للرابطة ممدوح السنجيدي، وهو سيناريست شاب ومخرج هاو، وقال لـ«الشرق الأوسط»: «نحاول من خلال الرابطة تقديم لوحات فنية تعبر عن الآلام الموجودة والظلم الواقع من حولنا بصورة كوميدية، وقد تكونت هذه الرابطة بشكل تلقائي، فقد اجتمع المبدعون من رسامين ومطربين وشعراء وممثلين هاوين، ومنهم أيضا من جاء من عدة محافظات».

وأضاف السنجيدي: «يقوم فنانو الرابطة برسم لوحات من وحي أفكارهم، ولكن في الأغلب يأتي الناس ويعرضون أفكارهم علينا ونقوم بتنفيذها، وقد أدى ذلك إلى تنوع الأفكار لدينا، بل في كثير من الأحيان تكون أفكار الناس العادية فيها إبداع أكثر منا نحن الفنانين».

ويدور في الميدان بعض الشباب، حاملين كاميراتهم ويصورون الحياة في الميدان ويجرون حوارات مع معتصمين ومفكرين وحتى الزائرين الأجانب، مثال عماد غنيم، خريج كلية الحقوق جامعة القاهرة، الذي يقول: «أقوم بتصوير فيلم تسجيلي عن أحداث الثورة منذ يوم 25 يناير، كشاهد عيان على الأحداث للأجيال المقبلة، وذلك لأن الإعلام لم يتمكن من إظهار كل الأحداث».

وأضاف غنيم «أردت أن آخذ آراء المعارضين للثورة، لمصداقية الموضوع، ولأكون محايدا، ولذلك أحاول قدر الإمكان توثيق الثورة من كل جوانبها، وقد أجريت حوارات ومقابلات مع عدد من الكتاب والصحافيين والفنانين أثناء وجودهم بالميدان، وهذه لحظة تاريخية نادرة».

وفي الشارع، قام بعض الشباب برسم لوحة تذكارية على الإسفلت إهداء للثورة، وآخرون قاموا بكتابات تذكارية للثورة، مستخدمين الأحجار التي كانوا يقذفون بها قوات الأمن المركزي، دفاعا عن أنفسهم خلال الأسبوع الماضي، وذلك بعد أن قاموا بتلوين الأحجار باللون الأحمر والأبيض والأسود، وشكلوا منها لوحات بألوان العلم الوطني.

وقام بعض الشباب الهاوي بجمع رسومات كاريكاتيرية ونكات ومقولات منقولة عن المتظاهرين وعلقوها على حائط في وسط الميدان وأطلقوا على هذا المكان «متحف الثورة».

لم يستثن أحد من المشاركة في التعبير عن مشاعره تجاه الثورة، فقد أظهر ميدان التحرير تناغم كل طوائف وفئات الشعب في المشاركة الوجدانية والتعبير الفني عن الثورة، حتى الأطفال لم يكتفوا بالهتاف والغناء، وقاموا بعمل رسومات أهدوها لأرواح الشهداء. وتحدث عن مشاركة الأطفال الأستاذ يوسف عزمي، وهو مشرف اجتماعي بفرنسا وفنان عرائس لـ«الشرق الأوسط»، قائلا: «قمنا بعمل ورشة رسم للأطفال للتعبير عن مشاعرهم، فهم متأثرون بالأحداث، ولكن تختلف مستويات إدراكهم للأحداث، فوجدنا أن أسهل طريقة لهم للتعبير هي الرسم».

ومن أبرز الفنانين التشكيليين المشاركين الفنان محمد عبلة، فقد رسم الكثير من الاسكتشات المفعمة بروح الميدان.. يقول عبلة: هذه لحظة استثنائية ونادرة في تاريخنا المصري، لحظة فاقت الخيال والحلم، وأنا كل يوم وسط الميدان أحس بأنني أولد من جديد كإنسان وفنان».. وكذلك الفنان رضا عبد الرحمن الذي رسم جدارية بعنوان «ثوار وشهداء 25 يناير» بميدان التحرير، وجعلها لوحة مفتوحة للجمهور، يعبر كل من أراد على مسطحها بالخط واللون عن مشاعره بعفوية تجاه الثورة، وتجاه النظام، وقضايا المجتمع.

وشهدت الجدارية لمسات عدد كبير من المحتجين من أعمار مختلفة، سواء بكتابة أسمائهم أو إضافة لمساتهم بالرسم أو كتابة ما يشاءون من شعارات منها «النصر للثوار» و«المجد للثورة وشهدائها» و«بحبك يا مصر.. يسقط مبارك» و«أهم من أكل العيش.. إن الواحد بكرامته يعيش». وشارك في الجدارية المخرجتان مريم عزت أبو عوف وكاملة أبو ذكري وكاتب السيناريو تامر حبيب والممثلون خالد الصاوي ومنى زكي، وآسر ياسين وبسمة وجيهان فاضل ومفيد عاشور وسلوى محمد علي ورضا حامد ومعتزة صلاح عبد الصبور. يقول الفنان رضا عبد الرحمن لـ«الشرق الأوسط»: هذه الجدارية تعبير رمزي أردت أشارك فيه كفنان يؤمن بهذه الثورة، وبطاقة الشباب على الحلم والتغيير، ضد نظام متسلط، أوصل البلاد إلى حافة الهاوية.. وكشف رضا عن نيته في القريب، إقامة معرض خاص عن ثورة الغضب، وتمنى أن يعرض بشكل مفتوح في الميدان، بعيدا عن طرق العرض التقليدية.