كاتب وأكاديمي سعودي: كنت وقودا لآيديولوجيا معتلة

يرصد مرحلة نشأة وتكون الجماعات المؤدلجة من خلال «سيرة فتى متطرف»

المؤلف الدكتور محمد العوين
TT

قبل أكثر من ثلاثة عقود ونصف العقد انقلبت السعودية رأسا على عقب، حدثت ثورة تنموية عارمة طالبت كل ما هو مادي، ولامست الفكر، بل تغير في البلاد كل شيء بسبب «الطفرة»، التي أوجدت على خارطة البلاد مدنا إسمنتية، فقد انتقل السكان من منازل طينية إلى مساكن حديثة وشقق فاخرة، وتحولت الأزقة الضيقة إلى أحياء وشوارع فسيحة، واقتنى غالبية السكان سيارات فارهة، وعرفوا لأول مرة محطات سياحية غير مصيفهم الداخلي (الطائف)، حيث حملوا دفاتر الشيكات السياحية (توماس كوك) إلى عبدان وشيراز وبيروت والقاهرة وأسمرة وبانكوك ولندن والمدن الأميركية السياحية، وغيرها من المحطات السياحية الجاذبة في ذلك الوقت، وظهرت في تلك الأثناء موضة عند الرجال بحلق الشارب واللحية على الصفر، وأطلق السكان على كل من يفعل ذلك صفة «الزكرتي»، في حين ظهرت جماعة متدينة أطلقت لحاها بصورة فجائية، وقصرت ملابسها، عرفوا في الأوساط الشعبية باسم «سكيرينه»، نسبة إلى مسجد في الرياض حمل اسم الحي الذي يوجد فيه هؤلاء، وكان منطلقا لهذه الجماعة التي يحرص أفرادها على زيارة قصور الأفراح والأسواق والمقاهي وتجمعات الناس للتذكير بغفلتهم أمام طغيان الحياة المادية، وإسداء النصح لهم على المخالفات، وكان شعار «الجهاد» يطغى على كل صوت عندهم، كما حذروا الناس من الدجاج المستورد لأنه لا يذبح على الطريقة الإسلامية، وتزاحموا بالمناكب على محلات بيع الدجاج المحلي الذي لا يغطي احتياج السكان في ذلك الوقت، كما نظموا حملات لطمس الصور من على ملابس الأطفال وحقائبهم المدرسية، بل حرصوا على طمس الصور في الكتب المدرسية لأبنائهم، وكانت مجلة «المجتمع» الكويتية، الإخوانية التوجه، هي زادهم الإعلامي والصحافي.

في هذه الأجواء، عرف الناس أشكالا جديدة من الحياة المدنية لم تكن معروفة أو مألوفة بسبب الطفرة، وأصبح لكل طفل غرفة مستقلة ألحقت بها دورة مياه خاصة لبس جدرانها السيراميك والقيشاني، وفرشت أرضيتها بالرخام، وبدلا من استخدام البرج الطيني أو الصهروج في بيت الدرج والكرسي الإسمنتي لقضاء الحاجة أصبح هناك الكرسي الأفرنجي والبيديه والبانيو، وفي بعض المنازل الجاكوزي، وبدلا من أن يقرأ الناس مجلة «العربي» الكويتية الواسعة الانتشار في ذلك الوقت، أو «الكواكب» المصرية، أو «النهضة»، أو «رواية بين مدينتين» لتشارلز ديكنز ومتابعة أطروحات القصيمي المحرمة، وتداول كتاب «رأس المال» لكارل ماركس الشيوعي، صار الناس يتداولون كتبا عن الغزو الفكري والماسونية وبروتوكولات بني صهيون وجاهلية القرن العشرين والإعجاز العلمي في القرآن والإصابة في صحة حديث الذبابة، وأطروحات عن نفي وصول الإنسان إلى القمر أو دوران الأرض، وتحريم السفر إلى القاهرة، وعدم تنوع الموائد، وكتبا أخرى عن الحاكمية والاستخلاف في الأرض وعن التضحية والاستشهاد والجهاد.

وبدلا من أن يتابع الناس في العقود الماضية «يوميات أم حديجان» أو متابعة «البيت السعيد» في الإذاعة السعودية، أو «مجالس الإيمان» و«الغواصة الذرية» و«بوننزا»، أو الحرص على مشاهدة المطربة سميرة توفيق وهي تغمز بعينيها، تحول الناس إلى مشاهدة أحدث الأفلام السينمائية عن طريق أشرطة الفيديو التي انتشرت بشكل لافت مع المشاغل النسائية ومحلات التجميل والكوافير، لكن الوضع انقلب رأسا على عقب، فتعرضت محلات الفيديو والتسجيلات الغنائية للضغوط أو الحرق، وأصبحت التسجيلات الدينية منافسة لها، مما أدى إلى انسحاب الأولى من السوق.

ويتذكر الجيل من الرواد كيف كانت صور القادة والمؤثرين تعلق في غرف المنازل الطينية، منها صور الملك فيصل وجمال عبد الناصر والمهاتما غاندي وتيتو، وفي الغالب صور الثائر الأرجنتيني ارنستوتشي غيفارا، وصور شاعر العربية الكبير معروف الرصافي، ليتحول الوضع بعد ذلك إلى تعليق صور لسيد قطب وأبو العلاء المودودي، والشاعر محمد إقبال، والشيخ أبو الحسن الندوي صاحب الكتاب الشهير: «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟».

وفي الرياض العاصمة السعودية كانت أنديتها الرياضية تعرض في مقراتها المستأجرة ليلة الجمعة من كل أسبوع أفلاما سينمائية منوعة، يحضرها المئات متوزعين على الأندية، في حين كانت محلات السينما في حي المربع لا تستطيع أن تغطي أجرة العرض السينمائي.

وفي الوقت الذي كان فيه صوت نسائي ينساب في سماء المدينة منطلقا من ساعة الصفاة وسط الرياض وأمام قصر الحكم الذي شهد ميلاد الدولة الناشئة، وكان هذا الصوت الأنثوي يشنف آذان سكان الرياض كل ساعة ويختلط صوتها ودقات الساعة مع صوت أذان ابن ماجد وهو ينادي للصلاة من الجامع الكبير بالرياض، في حين ينشغل السكان وقت صلاة المغرب بإدارة ساعاتهم التي تعمل على الزنبرك ماركة «أم صليب» على توقيت آذان المغرب (الساعة 12 بالتوقيت الغروبي)، وكان الصليب مرسوما على الساعة ولا يجد الناس حرجا في استخدامها، بل والدخول بها إلى المسجد.

أما اليوم، وعلى الرغم من أن البلاد سجلت حضورا سياسيا وتنمويا واقتصاديا وشهدت تحولات اجتماعية سريعة صبت في مصلحة الإنسان وتنميته وتأهيله، فإن بعض العقول المؤدلجة بأفكار بعيدة عن الدين الحقيقي ما زالت تطرح آراء، وقد تصل إلى مرحلة الفتوى، وخصوصا فيما يتعلق بالمرأة التي أصبحت تشكل لهم «فوبيا» وسيطرت على هاجسهم، فالمرأة، ذلك الشبح الأسود والمستهدف، هي القضية، وهي أسباب الفساد الذي ظهر في البر والبحر، وأصبح خروجها إلى العمل والسوق والمنتزهات جريمة، بل إن كشف عينيها لترى طريقها غير مسموح، وقد يسمح لها فقط بأن تضع في نقابها فتحة صغيرة على قدر رأس الدبوس لترى طريقها، وبلغ التسامح معها بالخروج ثلاث مرات فقط: أولها من بطن أمها إلى الدنيا، وثانيها من بيت أهلها إلى بيت زوجها، وثالثها من بيت زوجها إلى القبر، كما لا يسمح لها بالسفر إلا بورقة صفراء تستخرج من إدارات الجوازات بتوقيع وليها، سواء كان زوجا أو أبا أو أخا أو ابنا.

لعل هذه كانت أبرز صور الحياة قبل عقود قليلة ومقارنتها بالحياة اليوم، مع استبعاد الصور التي كانت تتم في الخفاء في ذلك الزمن الجميل وأيامنا هذه، وخلال الفترة الفاصلة بين جيلين، وفي فترة ذات شأن من تاريخ الوطن ظهرت أجيال شابة لاهثة، التحق الكثير منهم بجامعات دينية مختلفة المشارب والتوجهات الفكرية، ولعل أبرزها جماعة التكفيريين، حملوا شعارات تيارات مؤدلجة وغرسوا بذرة منها ونمت بها شجرة التطرف والاندفاع، وكان ثمرة ذلك الغرس التطرف وما سببه من أحداث جسام طالت العالم وليس البلاد، وذلك خلال العقدين الماضيين، وغطت على أرض كان الدين النقي سمتها، والأصالة معدنها والصدق انتماء للدين الإسلامي بمعانيه السامية.

هنا قراءة لكتاب يطرح تجربة فتى كادت تتناهبه التيارات الحزبية وتتنازعه العواصف الفكرية، وترمي به إلى آتون معارك طواحين الهواء مع القريب الحبيب ومع الآخر البعيد.

فيما يشبه المغامرة الروائية السيرية الفكرية السياسية الشجاعة والجريئة، أصدر الدكتور محمد بن الله العوين، أستاذ الأدب الحديث بكلية اللغة العربية بجامعة الإمام سيرة روائية تحمل عنوان «تجربة فتى متطرف»، سيرة روائية، ويقع هذا الكتاب في ثلاثمائة وأربع صفحات من القطع المتوسط. ويتتبع الكاتب بطريقة التقاطع الروائي صوتين؛ هما صوت السارد الروائي وصوت البطل المتحدث فيما يشبه «المونولوج الداخلي» كسيرة بطل هذا النص الأدبي التوثيقي مذ كان يافعا أو لنقل «خاما» جاهزا للتطويع والاستطراق والاستقطاب والعجن، وهذا ما حصل بالفعل، فقد تلقفته الجماعات الدينية على اختلاف مشاربها الفكرية، وتنقل بينها يبحث عن خط فكري مقنع يملأ به عقله ووجدانه، فالتحق بجماعة التبليغ وجالسهم وتبتل معهم، ثم أرادوا منه بيعة ففر منهم إلى غيرهم، والتحق بجماعة التكفيريين؛ جماعة جهيمان فلم يروقوا له، ولكنه خبرهم جيدا وغار في ماذا يريدون وكيف يفكرون وما هي أهدافهم البعيدة، طلقهم وعاد إلى بداياته الفكرية الأولى المتكئة على فكر جماعة الإخوان المسلمين فسلم لهم قياده، وتوغل فيهم وتوغلت فيه الجماعة أيضا إلى أن كان هي وكانت هو! وتمثل تفسيراتها للحياة، وتبنى مفهوم «الجاهلية»، وناضل وكافح في سبيل التبشير بهذا الفكر، وسعى إلى نشره والترويج له بين لداته من الشبان، وحفظ «معالم في الطريق» لسيد قطب عن ظهر قلب، واعتبره «المنفستو» أو البيان الذي يسير عليه في الدعاية لفكر الجماعة، وقرأ «الظلال» بأجزائه المتعددة، وأعجب بفكر المودودي، وراق له الندوي، وقرأ مذكرات كامل الشريف، وحفظ تنظير فتحي يكن، وتبنى رؤى عماد الدين خليل، ونافح عن كتب المؤسس حسن البنا، فوزع «مذكرات الدعوة والداعية» على طلبة المعهد، واشترك في مجلة «الاعتصام»، حيث راسل القائمين عليها، فأصبحت تأتيه تباعا ويوزع ما يفيض منها على زملائه الطلاب، وأصبح شريكا مؤسسا في مكتبة ثقافية ترعى هذا الفكر وقامت من أجله، وكان حاضرا في مخيمات الجماعة وفي ندواتها وخلواتها ورحلاتها للعمرة وللزيارة، وفي المساجد والجوامع التي يؤمها أو يخطب فيها أقطاب الجماعة!

يتتبع الكاتب تصاعد نضج بطله الذي سماه «الفتى» في سلم الجماعة وتبنيه لها ورحلاته لمقابلة البارزين فيها، حتى عد من الكفاءات التي ينتظر لها مستقبل مشرق في العمل الإسلامي كما كان يسمع من كبار الأعضاء، ولكنه وهو يوغل في هذا الطريق الطويل الصعب ويجهز نفسه للفداء والتضحية في سبيل قيام الخلافة الإسلامية، وعودة المجتمع من الجاهلية إلى حظيرة الإسلام، مناديا بأبرز تكوينات فكر الجماعة «الإسلام لا يقبل التجزيء»، إما أن يؤخذ كله، أو يُترك كله «تتخلق في داخله من خلال الحوار العميق مع «ليلى»، الممرضة اللبنانية المثقفة التي التقاها في المستشفى التخصصي فقلبته رأسا على عقب، وبدأ من نقطة لقائه بتلك الفتاة مرحلة جديدة يسردها هذا العمل الفكري الأدبي العميق.

تتكون هذه السيرة الروائية من ثلاثة وعشرين فصلا أو عنوانا، يمثل كل فصل مرحلة من المراحل القلقة المتوترة التي خاضها بطل هذا النص، ويقدم الكاتب خلال هذا السرد السيري وصفا دقيقا للحياة الاجتماعية والسياسية في الريف وفي مدينة الرياض التي كانت تعيش آنذاك مع مطلع القرن الرابع عشر الطفرة الاقتصادية الأولى، وما هيأته من سبل الانفتاح والتغيير الاجتماعي السريع، ويواكب هذا الوصف تأريخ دقيق للقضايا السياسية وللأحداث التي عاشتها البلاد في تلك الفترة كشاهد عيان، مثل «حادثة الحرم»، التي وقعت في 1/1/1400هـ.

«الشرق الأوسط» سألت الكاتب الدكتور محمد العوين عن الغايات التي يرمي لها من إصداره هذا العمل الروائي السيري؛ فقال «أولا هو عمل سيري روائي لا العكس، وبين الحالتين اختلاف كبير، ثانيا هذا أول عمل أدبي يرصد بدقة نشأة الجماعات (المؤدلجة)، ويكشف بعمق عن كيف تعمل، وكيف تستقطب، وما برامجها وأهدافها، وما طبيعة فكر منظريها، ومن أين يستمدون تفسيراتهم، أو ما هي مرجعياتهم. غاية هذه السيرة الروائية توثيق ما عاشته بلادنا في مرحلة نشأة وتكون هذه التيارات، والإشارة إلى أن كثيرا من صور التوتر الحركي الديني، وما تمخض عن ذلك الحراك من اندفاع وتطرف هو ثمرة لتلك المرحلة. إن ما شهدناه في بلادنا خلال العقدين الأولين بعد 1400هـ، وما حدث في 11 من سبتمبر (أيلول) ليس إلا ثمرة من ذلك الغرس القديم الذي بدأت التيارات المؤدلجة في غرسه وبذره في تربتنا الطيبة المتسامحة المحبة لكل ما يتسم بسمة الدين، من نقاء وأصالة معدن وصدق انتماء لمعاني الدين الإسلامي الحنيف السامية، وما كان يدور في خلد أحد من قبل أن جماعة من الجماعات تسعى وتنشط لتنشئة أجيال تتقاطع تماما مع بيئتها وتنفيها أو ربما تعلن الحرب عليها. لأن تجربة «الفتى» دليل لكل شاب أو من يريد أن يخوض مخاضا مؤدلجا، يعتبر من توغله، ثم يأخذ الدرس من سعيه إلى البحث عن الحقيقة قبل أن كان موشكا على التضحية بنفسه في سبيل ما كان يؤمن به.