متى يكف الصهاينة عن تشويه سمعة هيدغر؟

كتاب فرنسي جديد يشن هجوما صاعقا على الفيلسوف الكبير

هيدغر
TT

لقد أصبح هيدغر مشكلة سياسية لا علاقة لها بالفلسفة، فكلما أراد غلاة الصهاينة صرف الأنظار عما يحدث في فلسطين من فظائع وجرائم فتحوا أضابير الفضائح والملفات القديمة المهترئة. وراحوا يكتشفون «فجأة» أن هذه الشخصية أو تلك من شخصيات فرنسا أو أوروبا كانت نازية!

من المعلوم أن القضية كانت قد انفجرت بشكل اصطناعي مرتب قبل عشرين سنة عندما نبشوا من الأرشيف القصة التالية، وهي أن أكبر فيلسوف في القرن العشرين كان من جماعة هتلر، وأن فلسفته كلها باطلة لأنها ملوثة بالفكرة النازية. وانهالت عليه الحملة الإعلامية المكثفة من خلال الجرائد والمجلات والبرامج الإذاعية والتلفزيونية إلى حد أنهم سحقوه سحقا أو محقوه محقا بعد موته بعشر سنوات فقط، واعتقدنا عندئذ أن الرجل انتهى نهائيا ولن تقوم له قائمة بعد اليوم وسوف ترمى فلسفته كلها في مزبلة التاريخ.. وقد سمعت قبل فترة بأنهم فكروا في إصدار قرار رسمي بمنع تدريس فلسفته في كل جامعات العالم دون استثناء. وهو على غرار القانون الذي يمنع مناقشة المحرقة حتى ولو من قبيل الفضول المعرفي، لا بهدف إنكارها على الإطلاق. ولكن الرجل بقي صامدا على الرغم من كل هذا الهجوم المكثف والهمجي في آنٍ معا، فلا يزال فكره يشغل الجامعات الكبرى من طوكيو إلى موسكو إلى الولايات المتحدة وأوروبا والعالم العربي... إلخ.

ما الذي نستنتجه من كل هذه الفضيحة؟ نستنتج شيئا واحدا، هو أن الحقيقة لا يمكن طمسها مهما كان الهجوم عنيفا ووسائل الإعلام المستخدمة ضخمة وجبارة. فلو لم يكن عند هيدغر فكرا كبيرا ومضيئا للبشرية لقضوا عليه من أول ضربة أو من أول هجوم. ولكننا نلاحظ أن هجماتهم المكثفة والمتلاحقة لا تزال تتكسر على صخرته الصلبة. ويا جبل ما يهزك ريح! والدليل على ذلك أن فرنسا التي انطلق منها هذا الهجوم هي التي قررته في البرامج التعليمية لتخريج أساتذة الفلسفة لعام 2006، وبالتالي فالذي يزعم بأنه يستطيع القضاء على هيدغر كفيلسوف لم يخلق بعد.. فإذا كانت كل الآلة الصهيونية الجبارة قد عجزت عن ذلك فما بالك بالآخرين؟ إذا كان اللوبي الشهير الذي يبث الذعر في كل عواصم الغرب ويفرض جوا من الإرهاب الفكري على الجميع قد عجز عن اغتيال هيدغر، فهذا شيء مطمئن جدا.

هل يعني ذلك أن فكر هيدغر معصوم أو غير قابل للنقد؟ بالطبع لا، وألف لا. ولكنه يعني أن محاولة القضاء عليه أو تشويه سمعته عن طريق هذه الأساليب الملتوية والقذرة باءت بالفشل الذريع. فالرجل لم يكن نازيا بالمعنى الذي يقصدونه في أي يوم من الأيام. نقول ذلك على الرغم من أنه قَبِل بأن يصبح رئيسا لجامعة فريبورغ لعام واحد (1933. 1934). والدليل على ذلك هو أن النازيين أو المثقفين المقربين من النازية وشوا به لدى السلطات التي سرعان ما أقالته من منصبه، بل وتعرض للضغوط والاشتباه طيلة العهد النازي المجرم.

في الواقع إن تشويه سمعة المفكرين الكبار كانت عادة متكررة على مدار التاريخ، فجان جاك روسو مثلا اتهموه بأنه مجنون أو مهزوز عصبيا، وحاولوا تحطيمه عن طريق هذه التهمة، بل وألفت الكتب الكثيرة عن مرضه العقلي وهذيانه. يحصل ذلك كما لو أن مفكرا في حجم روسو يمكن أن يكون شخصا طبيعيا، أو كأن تركيبته النفسية يمكن أن تكون عادية مثل عموم البشر... ونفس الشيء قيل عن دوستيوفسكي، أو نيتشه، أو بودلير، أو عشرات غيرهم من كبار المبدعين والكتاب. ولكن ذلك لم يكن كافيا للقضاء على إبداعهم وعبقريتهم ولم يمنع ملايين الناس من الإعجاب بهم وقراءتهم على مدار الأجيال. وقد وصل الأمر بفرويد إلى حد قول عبارته الشهيرة التي لا تضاهى: «عند دوستيوفسكي الإنسان قد تجد عشرات العقد والمشكلات النفسية. ولكن أمام دوستيوفسكي الكاتب أو الفنان لا تملك أن تفعل إلا شيئا واحدا: أن تستسلم وتنحني».

وفي العهد السوفياتي البائد كانوا أحيانا يتهمون كل مثقف لا يصفق للشيوعية أو لخط الحزب الواحد بأنه شخص معقد، بل ومريض نفسيا، أي يستحق العلاج. ولذا كانوا يقبضون عليه ويضعونه في المصحات النفسية لكي يجنّ بالفعل. وتوجد في الساحة العربية بعض الحركات أو التيارات السياسية التي تفعل نفس الشيء مع المثقفين الذين لا يخضعون لها أو لا يأتمرون بأوامرها حفاظا على حريتهم الشخصية أو لأنهم يستعصون على التدجين بكل بساطة. إنهم لا يستطيعون الانضمام إلى القطيع.. وبالتالي فإن هذه الممارسات الإرهابية موجودة في كل البيئات والعصور، عند العرب وغير العرب..

ولكن إذا كانت عند المثقف حقيقة معينة، إذا كان في فكره إضاءة ما للبشرية، فلو اجتمعت عليه كل أمم الأرض فإنها لن تستطيع إطفاء نوره. هذه هي الحقيقة التي نكتشفها على مدار التاريخ. وهذا شيء تجهله عادة الحركات الديماغوجية المتعصبة أيا كانت. فغلاة الصهاينة اعتقدوا أن بإمكانهم القضاء على هيدغر كفيلسوف بمجرد أن يتهموه بالتواطؤ مع النازية، ولكننا نلاحظ أن فكره لا يزال يدرس في مختلف جامعات العالم حتى بعد مرور ربع قرن على الهجوم الكاسح ضده.

من المعلوم أن كتاب فيكتور فارياس التافه «هيدغر والنازية» كان قد صدر عام 1987 وطبلت له وسائل الإعلام الفرنسية التي يسيطر عليها اللوبي الصهيوني إلى حد كبير. وقد أثار ضجة واسعة في وقته، شارك فيها دفاعا أو هجوما مفكرون كثيرون ليس أقلهم جاك دريدا، وجان فرانسوا ليوتار صاحب مصطلح ما بعد الحداثة، ودومينيك جانيكو، وآخرون كثيرون.. واعتقدنا عندئذ أن هيدغر انتهى أو أصبح في خبر كان.. ولكن نبوءتهم لم تتحقق، بدليل أن الكتب الضخمة لا تزال تصدر عن صاحب «الوجود والزمان» بحسب ترجمة عبد الرحمن بدوي لعنوان ذلك الكتاب الشهير.

ومؤخرا صدر كتاب رديء وحاقد وحتما مأجور لأحد أساتذة السوربون (إيمانويل فاي) تحت عنوان «هيدغر وإدخال الآيديولوجيا النازية إلى الفلسفة». وهو يشكل هجوما صاعقا على الفيلسوف الكبير، بالإضافة إلى كل تلك الهجمات التي تعرض لها على مدار السنوات الماضية، ولكنه سيتكسر على صخرته الصامدة مثلما تكسرت كل الكتب التي سبقته. ودليلي على ذلك شهادة فيلسوف لا يتهمه أحد بالحب الزائد لهيدغر ولا بكره الصهيونية والدولة العبرية، إنه لوك فيري وزير التعليم السابق وأحد الفلاسفة المعدودين هنا في فرنسا. فقد فاجأني في كتابه الأخير الذي يستحق أن يترجم فورا إلى العربية بمدى التقدير الذي يكنه لهيدغر، ففيه يعترف صراحة بأن فيلسوف الألمان هو الذي كشف عن حقيقة المرض العضال الذي تعاني منه الحضارة الغربية وشخصه بشكل واضح لا لبس فيه ولا غموض. وهذا المرض يتلخص بعبارة واحدة: غزو التكنولوجيا للطبيعة ولكل مناحي الحياة بشكل زائد عن الحد ويكاد يقضي عليها. بمعنى أنه إذا كانت التكنولوجيا قد شكلت مشروعا تحريريا هائلا للوضع البشري منذ ديكارت وعصر التنوير فإنها أصبحت عالة على الإنسان حاليا بعد أن أصبحت تهدد مناخه الجوي وصحته ومستقبله وإنسانيته.

لا أستطيع أن أتوسع حول هذه النقطة أكثر من ذلك هنا، فهي معقدة أكثر مما ذكرت. كل ما أردت قوله هو أن اختزال فكر عميق كفلسفة هيدغر إلى مجرد آيديولوجيا نازية شيء لا يكاد يصدق وفيه الكثير من الإجحاف والظلم. يكفي أن نقرأ تحليلاته العميقة لكبار الشعراء والفلاسفة لكي نتأكد من ذلك. أقول هذا وأنا أفكر في كتابه الضخم عن كانط ومشكلة الميتافيزيقا، أو كتابه الرائع عن نيتشه، الذي كان الفرنسيون قد ترجموه إلى لغتهم بجزأين كبيرين، أو كتابه عن الشاعر الكبير هولدرلين.

وأخيرا فإن مجموعة من المثقفين الفرنسيين ردوا على كتاب إيمانويل فاي السابق الذكر وعلى الحملة كلها من خلال إصدار كتاب جماعي هام يوضح الإشكالية من مختلف جوانبها. وقد اتخذ العنوان التالي: «عن هيدغر وبحق». وشارك فيه الكثير من المختصين بالموضوع، وأعتقد أن الكلمة الفصل حول هذه النقطة الشائكة موجودة في هذا الكتاب المعمق.