كيف يفهم المثقفون السعوديون «الليبرالية»؟

مصطلح مايزال يثير السجال والخلاف

TT

كغيره من المفاهيم، يبدو مصطلح (الليبرالية) أحد المصطلحات الذي تختلف حول مسماه النخب الثقافية السعودية بقدر أكبر من اختلافها عن مضمونه، يصطف هذا المفهوم مع مفاهيم أصبحت عنوانا لتصنيف الاتجاهات المختلفة وتكريس انقسامها، دون أن يكلف أحد نفسه مشقة البحث في حقيقة تلك المصطلحات ومدى مطابقتها للواقع.

ويجري أحيانا ولتخفيف منسوب التصنيف والتقسيم الفكري، بين الفئات إضافة توصيفات للتحسين، من بينها مسمى «تنويري»، وآخر «ليبرالي ديني»، بينما هناك شريحة من المثقفين الذين يعبرون بأنهم لم يبلغوا بعد «حد التشرف بحمل لقب الليبرالية».

وقد تحدث عدد من المثقفين السعوديين، عن فهمهم لمفهوم الليبرالية، ومدى ارتباطه بشرائح الفكر والثقافة المحلية.

* من نحن؟

* الكاتب محمد المحمود، أكد لـ«الشرق الأوسط» ليبراليته التي لا يخشى ألبتة الإفصاح عنها، (حيث إن إطلاق هذا الوصف إنما يأتي من الميل إلى خيارات الحرية في كل ما يسمح بالخيار، والانحياز إلى الفردانية بوصفها المجال الذي يتحقق به الوجود الفعلي للإنسان، ووضع الإنسان كخيار أولي).

وشدد على أن عدم خشيته من هذا الوصف إنما هو نابع من أن إيمانه بالفهم الصحيح له، (فالفهم الديناميكي، وليس الفهم التقليدي الجامد، كفيل بأن يضعه في جانب الخيارات الإيجابية التي تضيف كثيرا إلى الوجود الإنساني)، منوها بأن من يفهم المصطلح من وجهة نظر سلبية، ملحقا بالتالي استحقاقات هذا الفهم إلى شخصه، (إنما يعبر عن جهل وجمود قائله، أكثر من أن يعبر عن قدرته على وضعي في سياق سالب).

وعبر المحمود عن فهمه لليبرالية بتحرير الإنسان، من حيث هو فرد، وليس تحريره كمفهوم إنساني عام فقط، مشيرا إلى أن طبيعة التحرير ومستواه لا يمكن عزلهما عن السياق الذي يتموضع فيه الإنسان محل الفعل، فالإنسان كائن ثقافي لا ينعزل تماما عن الشرط الثقافي لوجوده، وهو شرط يحضر فيه التاريخ، وتحضر فيه الهوية، بقدر ما يحضر فيه الواقع، وبقدر ما تحضر فيه القيم الخاصة بالفاعل الثقافي.

إلا أن بصيرة الداوود، أستاذة مشاركة لمادة التاريخ المعاصر السياسي والحضاري، فضلت وصف نفسها بالتنويرية في اتجاهها الفكري والثقافي، قائلة إن الليبرالية الغربية هي التي تقوم على تشكيل آيديولوجيات المجتمع المدني، وتعتبر الحرية المبدأ أو الغاية التي يجب أن تسود فيه.

أما التنوير فهو من وجهة نظرها مشروع ثقافي سياسي تتطلع مفرداته الثقافية إلى تجسيد مجتمع عملي تكون الأفكار الجديدة مقدمة لشكل جديد من الوجود الاجتماعي، يتعدى ذلك ليشمل المشاريع السياسية الثقافية التي استمدت قوامها من الآيديولوجيات التحديثية سواء كانت ليبرالية أو قومية أو اشتراكية.

أما الكاتبة حصة آل الشيخ فاكتفت بوصف نفسها على أنها حرة، لم تبلغ مرحلة «التشرف بحمل لقب الليبرالية»، التي حددت مفهومها بضمان حرية الفرد، دون المساس بالآخرين.

* ليبرالية دينية

* ومن شعار الليبرالية أو «الحرية» أو «التنوير» إلى ما يسمى بـ«الليبرالية الإسلامية» فالدكتور توفيق السيف (باحث وكاتب) وصف نفسه بأنه «ليبرالي متدين»، وهو المصطلح الذي رفضت قبوله الدكتورة بصيرة الداوود، مؤكدة عدم وجود شيء لمعنى أو مفهوم ليبرالية إسلامية، فالليبراليون العرب هم مسلمون في الأساس يؤدون واجباتهم العقائدية الدينية تجاه خالقهم كما يؤديها كل مسلم، وتبقى الليبرالية مذهبا آيديولوجيا اقتصاديا ثقافيا وسياسيا وليست «الليبرالية عقيدة إيمانية كما تتصورها التيارات والأحزاب الدينية في عالمنا العربي».

إلا أن الدكتور توفيق السيف أصر على أن الظرف الأمثل للحياة الدينية لن يكون سوى من خلال الليبرالية الدينية، حيث إن «توفير الحريات للأفراد ستجعل منهم (مؤمنين حقا)، ففي ظرف المجتمع الليبرالي سيتمكن الناس من ممارسة الدين دون وجل أو خوف أو بفرض من أحد».

وأكد السيف أن الدين إنما يتجلى بأجمل معانيه في «مناخ ليبرالي»، يحقق أسمى ما فيه من قيم بالتقرب حقيقة إلى الله والسعي إلى رضاه. وقال: «لا أخشى من وصفي بالليبرالية» إذ لا أعتبرها آيديولوجيا أو حزبا أخشى من الانتماء إليه، وإنما هي مبدأ فلسفي وأخلاقي.

* خصوصية المصطلح محليا

* ورغم تعدد نسخ الليبرالية السعودية التي بحسب ما يراه أبناؤها، لا تعيب التيار إنما تضيف له، بقي الجدل واسعا بشأن مدى خصوصية «الليبرالية السعودية».

لكن بصيرة الداوود تنفي وجود مثل هذه الخصوصية، موضحة أن كلمة «خصوصية» تعبير مبهم، استخدم كثيرا من قبل أتباع التيار الأصولي في السعودية بغرض إضفاء نوع من القداسة الدينية الخاصة على الأعراف والتقاليد والعادات الاجتماعية السائدة في البلاد بحسب ما ذكرت. وترى الداوود أنه ليس لليبرالية أي طابع زئبقي، وإنما هي منظومة مكتملة من الأفكار التي تتعلق بالحرية داخل المجتمع المدني، مؤكدة أنه بإمكان أي مجتمع نسج ليبراليته الخاصة من واقعه السياسي والاقتصادي والثقافي، ومن منطلق ما أثبتته التجارب التاريخية عن صور الليبرالية، فهي لا تملك صورة واحدة، أو تشكيلة من المواقف الموحدة من القضايا الفلسفية والسياسية والثقافية حتى في داخل الدول الرأسمالية المتقدمة، فالمذهب الليبرالي في بريطانيا يختلف كثيرا عنه في الولايات المتحدة، كما تختلف اليابان عنهما اختلافا أكثر عمقا.

ويوافق الكاتب المحمود على مسألة «النسخ المتعددة لليبرالية» ويقول إنها كثيرة ومتنوعة بتعدد الليبراليين، وبعدد تحولاتهم أيضا نتيجة التجارب والقراءات، التي تختلف باختلاف الفرد، وليس باختلاف المنطقة الواحدة فقط، إلا أن ما يجمعها هو الوفاء للمبادئ العامة.

ويبقى اختلاف الليبراليين، بحسب المحمود، ليس نتيجة اختلاف الموقع الجغرافي وإنما للأصول الثقافية، فالليبرالي الآتي من عمق التيار الإسلامي لن يكون صورة مطابقة لليبرالي الآتي من عمق التيارات ذات التوجه الشيوعي. والليبرالي القومي ستظهر قوميته وستخترق، في ظرف ما، مبادئه الليبرالية.

وتعود الخصوصية السعودية إلى الواجهة مرة أخرى من خلال حديث الدكتور توفيق السيف، الذي يؤكد عدم إيمانه بوجود خصوصية سعودية، بينما يعتبر محمد المحمود أن التأكيد على هذه الخصوصية «حق أريد به باطل»، ويهدف إلى «تفريغ المبادئ الإنسانية العامة من محتواها»، فكثيرا ما تنكر على المرأة حقوقها بدعوى الخصوصية. مع ذلك، فهو يؤكد على ضرورة الأخذ بالخصوصية في الاعتبار شرط ألا تكون عقبة ضد حقوق الإنسان.

وفي كل الأحوال، يرى الدكتور توفيق السيف أن الإنسان سواء أكان سعوديا أو غير سعودي لا بد له من إعادة صياغة أفكاره ونظرياته، إذ لا يمكن الاستمرار بتبني ذات الأفكار وتطبيق ذات النظريات القديمة محلية أو خارجية. والنسبة لليبرالية، يعتقد أن في السعودية ليبرالية محلية ليست غربية أبرز ما يميزها التزامها بالقيم الدينية على عكس الليبرالية الغربية، فالكثير من الليبراليين متدينون، وهم يفهمون الليبرالية ضمن سياقهم الاجتماعي وتصوراتهم العقلية.

* معوقات الليبرالية

* الكاتب محمد المحمود يؤكد على وجود معوقات عدة تقف أمام مسيرة الليبرالية السعودية، إلا أن أشدها هو التغلغل الهائل للتيار التقليدي، وهيمنته على أكثر وسائل توجيه الرأي العام، وتقاطعه مع المؤسسات المؤثرة في توجيه كثير من القرارات المصيرية المرتبطة بالشأن الثقافي.

ويقول: «إن إشكالية الليبرالية لا تكمن في المعبرين عنها، فهم في الغالب يعون طبيعتها التي تتضمن الاختلاف والتنوع باحتوائها أكثر من صورة وأكثر من إمكانية للتجربة، إلا أن الإشكالية تكمن في المتلقي التقليدي الذي لا يفهم الليبرالية، أو يفهمها بوعي تقليدي، أو أنه يحيل المفهوم إلى تجارب غير قالبة للتطبيق في مجتمعاتنا لوجود الاختلاف الثقافي الكبير».

في الوقت الذي ترى فيه بصيرة الداوود غموض مفهوم الليبرالية لدى الأوساط المختلفة هو المعوق الأبرز لمسيرة الليبرالية في السعودية مما جعلها عسيرة الفهم حتى بالنسبة لأكثر الناس ثقافة ومعرفة في عالمنا العربي تحديدا، والسعودية على وجه الخصوص، منوهة بأن الليبرالية تواجه أزمة ومحنة مع تزايد تآكل ثقافة التسامح على المستوى المحلي وعلى المستوى العالمي، بينما يشير السيف إلى وجود أفراد ليبراليين محسوبين على التيار التقليدي، وتتجلى في مطالبهم المناداة بالحريات العامة وسيادة القانون والمساواة والانتخابات وجميعهم يحملون قيما ليبرالية، مؤكدا أنه في السعودية لا توجد مجموعات ليبرالية، وإنما أشخاص لديهم آراء مختلفة تحمل معايير الليبرالية.

ورغم المعوقات، فإن المستقبل في السعودية، من وجهة نظره، متجه إلى التكامل وبصورة سريعة نحو الحداثة على مختلف الأصعدة، في الاقتصاد والإدارة والإعلام والأخلاقيات ونظم العلاقات الاجتماعية، فقد دخل المجتمع طور الحداثة، الذي يحتذي بالضرورة النموذج الليبرالي.