تأبين الموتى في أميركا معجون بالفرح

حفلتا حزن على ضحايا مذبحة أريزونا ورحيل إدوارد كيندي

فرقة موسيقية تشارك في تشييع إحدى الجنازات («نيويورك تايمز»)
TT

لا بد لمن يحضر طقوس تأبين الموتى في أميركا أن يشعر بالدهشة والاستغراب حين تترافق الكلمات المؤثرة في مديح الميت والأناشيد الدينية مع النكات المضحكة والأغنيات والهتافات وموجات التصفيق الحادة التي تصلح للأفراح وتأنف منها الأتراح.. ما جذور هذه العادات الغريبة التي ترافق مناسبات الحزن الأميركي ولو كان جارفا؟

منذ أسابيع قليلة، سافر الرئيس باراك أوباما إلى توسون (ولاية أريزونا) للتحدث خلال تأبين ضحايا المجزرة الدموية هناك التي قتلت 6 أشخاص، وجرحت 14 منهم، وهو الهدف الرئيسي من الهجوم، علما بأن عضو الكونغرس دانييل غيفوردز تحسنت صحتها في المستشفى على الرغم من أن رصاصة اخترقت رأسها من الخلف إلى الأمام.

وفي التأبين كانت كلمة أوباما، المؤثرة والعاطفية، وكلمات لآخرين مؤثرة أيضا، وموسيقى حزينة، ونشيد مسيحي حزين. لكن، لأن التأبين تم في ملعب في جامعة أريزونا وحضره 20 ألف شخص تقريبا، كانت هناك هتافات تؤيد أوباما، وتصفيق، وضحك. وكان واضحا أن هذا سلوك لا يتناسب مع التأبين الذي يجب أن يكون وقورا وقدسيا.

في السنة الماضية، سافر أوباما إلى ولاية ماساتشوستس لتأبين السيناتور الراحل إدوارد كيندي. وعلى الرغم من أن التأبين كان هادئا ووقورا وفي داخل كنيسة تاريخية، لم يخلُ من طرائف وضحك. وذلك عندما تحدث أوباما، وغيره، عن ذكرياتهم عن كيندي. وأيضا تحدث واحد من أبنائه، وواحدة من حفيداته.. تحدثوا عن سياساته، وهواياته، وحتى عن نكاته، وأيضا أضحكت هذه الحاضرين. وخلال هذا كله، كان جثمان كيندي مسجى أمام الحاضرين.

في كثير من مناسبات التأبين، يكاد الأميركيون «يحتفلون» بالموت، بإلقاء خطابات تركز على إنجازات الميت، ويكررون نكاتا كان يقولها، أو يغنون أغاني كان يفضلها، أو يشجعون فريق كرة قدم كان يشجعه، أو يعزفون قطعا موسيقية كان يعزفها. وكثيرا ما يضحك المعزون (وأحيانا يصفقون) وجثمان الميت مسجى أمامهم.

* ثقافة التأبين

* لماذا يؤبن الأميركيون الناس بهذه الطريقة؟ ولماذا يخلطون الحزن بالفرح؟

طبعا، لا يمكن القول إن الأميركي يحزن على وفاة والده أو والدته، أو ابنه أو بنته أقل من غير الأميركي. لكن، في كل ثقافة توجد تقاليد معينة للحزن بسبب الموت، ولتأبين الميت، واصطحابه إلى مثواه الأخير. وفي أغلب الأحيان، يؤثر الدين على هذه التقاليد.

بالنسبة للمسيحيين، الموت هو إرادة الله، لكن الخلود الكامل لا يتحقق إلا بقبول الخلاص من المسيح. لهذا، يبقى المسيحي غير كامل الخلود انتظارا لعودة المسيح. وقال وولتر رالي (توفي سنة 1518)، فيلسوف بريطاني متدين هاجر إلى أميركا: «الموت لا يمنع الاجتهاد في الحياة». والقصد هو أن القدر لا يعني ألا يفعل الإنسان شيئا، منتظرا إرادة الله.

لا ينظر البوذيون إلى الموت كنهاية لأي شيء، ولكن كنقطة تحول في رحلة لا نهاية لها، إلى حيث ستعيش الروح في أجسام أناس أو حيوانات.. لهذا يحظرون الإفراط في الحداد، خوفا من إعاقة مرور الروح في رحلتها نحو المستقبل.

ويحسم القرآن الكريم هذه الاختلافات حسما نهائيا.. تقول الآية: «وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا». وتقول الآية: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ».

ويبدو واضحا أن الحزن على الموت يرتبط ارتباطا وثيقا بمعنى الحياة.

* موت سقراط

* حسب كتاب «الموت والمتعة في الثقافة الغربية» لـ«جوناثان ديليمور»، تعود جذور نظرة الغربيين للموت إلى الثقافة اليونانية القديمة. ولهذا، لا يذكر الموت إلا ويذكر سقراط؛ لأنه دعا إلى عدم الخوف من الموت. ولأنه، لهذا، حوكم بالإعدام، ولهذا، انتحر واستعجل الموت. قال سقراط: «الحياة مثل فصول السنة؛ حيث تتحول نضارة الربيع إلى كهولة الخريف». وإن الكهولة قاسية، لكنها أمر واقع. ولهذا، لا داعي للخوف منها، ولا بأس من استعجال الموت.

وعندما اعتنقت أوروبا المسيحية، سارت على طريق عيسى المسيح الذي قال (في إنجيل متى): «في بيت أبي توجد قصور وأماكن فاخرة، وكلها مليئة بأشياء كثيرة من الطعام والشراب، لتأكلوا، وتشربوا، وتشكروا الرب».

ولهذا، كان الحداد مناسبة، ليس فقط للحزن على الميت، لكن أيضا للزهد في الحياة. وتمثل ذلك في طقوس الحداد. وتحملت المرأة العبء الأكبر. كانت الأرامل والبنات والأخوات يرتدين ملابس سوداء خشنة، ويتغطين بالحجاب، ويلبسن زينات مصنوعة من شعر الموتى. كان هذا الحداد يستمر أحيانا 4 سنوات، حتى إذا كانت الأرملة شابة وجميلة. وذلك بهدف منعها من ممارسة الجنس.

في سنة 1861، عندما توفي الملك ألبرت، ملك بريطانيا، أعلنت أرملته الملكة فيكتوريا الحداد عليه (مع بناتها الخمس) سنة كاملة، وتدثرت بملابس سوداء خشنة، وزهدت في الدنيا، حتى إن بريطانيين خافوا من أن تهمل الإمبراطورية التي كانت الشمس لا تغيب عنها (توفيت فيكتوريا سنة 1901).

* حزن علماني

* لكن، منذ قبل حداد الملكة فيكتوريا المشهور بمئات السنين، مع الإصلاح الديني، وعصر النهضة، وسنوات التنوير، كان التفسير الديني للموت يقل وسط الغربيين. وبدأوا يفسرون الحياة تفسيرات علمانية، منها أن الحياة نضال من دون توقف، وعمل من دون كسل، ونجاح من دون فشل، وشجاعة من دون خوف، حتى الموت. وصار الغربيون ينظرون إلى الموت من جانبين:

الأول: أنه النهاية، وهو شيء يدعو إلى الخوف.

الثاني: أنه دافع للعمل والمتعة.

وربط الغربيون بين العمل والمتعة؛ لأنه كلما زاد العمل زاد الدخل الذي يمكن أن يصرف على المتعة، ولأن المتعة تساعد على العمل، ولأن عكس المتعة هو العذاب والخطيئة. والعقيدة المسيحية تركز على أن الإنسان معذب ويعيش في خطيئة.. ولهذا يمكن أن «يكفر» بالعمل والمتعة.

ومن هنا جاء الصراع عند الغربيين بين الموت والمتعة: أن الموت فشل نهائي، لكنه يدفع لعدم الفشل في الحياة؛ لهذا يجب عدم الخوف من الموت. وكأنهم يقولون إنه يجب الاحتفال بالموت لأنه يدفع الشخص ليسعد في الحياة.

وجاء في كتاب «الموت والمتعة في الثقافة الغربية»: «يقبل الغربي الموت وكأنه يتحداه. يتمنى لو أنه يقدر على السيطرة عليه، لكنه يعرف أنه لا يقدر؛ لهذا يقول في عقلانية: إذا جاء الموت، أنا مستعد له. سيهزمني، لكنني هزمته بالاستمتاع بالحياة».

حزن الحداثة

وفي عصر الحداثة، ظهرت أفكار لغربيين تمردوا على المسيحية، أو على الأقل، لم يجدوا فيها إجابات عن أسئلتهم، وطمأنة لقلقهم وحيرتهم، وقويت الفردية. قال عنها جيمس سميت، فيلسوف بريطاني (توفي سنة 1875): «من دون الفردية، لن يقدر الفرد على أن يملك شيئا، وأن يزيد ثروته».

ثم جاءت ما بعد الحداثة (يقال إنها بدأت في منتصف القرن الماضي)، وفيها ظهرت «الفردية المتطرفة». وأعلنت إيان راند، فيلسوفة أميركية من أصل روسي (ولدت سنة 1905): «هانحن ننتقل، عبر قرون، من (إرادة الله) إلى (إرادة المجتمع وإرادة الفرد)». وهي صاحبة نظرية «أوبجيكتيفيزم» (الموضوعية، ويمكن أن تكون: الأنانية).

وهكذا، صار الموت موضوعا فرديا، يفسره كل شخص كما يريد. وكان تفسير راند هو أن الحياة «رحلة أنانية». وعندما توفيت، وحسب وصيتها، وضعت دولارات داخل كفنها، ورُسم دولار على قبرها.

الموت عند فرويد

لكن، لم يؤثر شخص على نظرة الغربيين إلى الموت مثل سيغموند فرويد، أبي الطب النفسي (وُلد في النمسا سنة 1956، ثم هاجر إلى أميركا). أفتى بأن الحياة الدنيا أهم من الموت (وما بعده). وقال: «نهاية متعة الحياة تزيد متعة الحياة».

وقال: «لا أعرف عن الحياة الأبدية، لكني أعرف أن جمال الطبيعة (في هذه الدنيا) هو الأبدي». وأضاف: «لا أفهم لماذا يفقد عمل فني أو إنجاز ثقافي أهميته لأن صاحبه سيموت».

وطبعا، فرويد هو الذي قال إن الجنس هو محور الحياة، وهو متعة الحياة. واسم واحد من كتبه هو: «ما وراء نظرية المتعة». وعلق على ذلك مؤلف كتاب «الموت والمتعة» قائلا: «لكن، لا توجد نهاية للمتعة والسعادة؛ لهذا يظل الإنسان معذبا طوال حياته وهو يبحث عن ما لا نهاية له».

وطبعا، أسس فرويد الطب النفسي ليعالج مشكلات «الإنسان المعذب». وهو نفسه توقع ذلك عندما كتب: «ليس سهلا التخلص من القلق والعذاب، لكننا يجب أن نحاول ونحاول». كتب ذلك في كتاب «الحضارة ونواقصها». وهكذا فتح الباب أمام عيادات الطب النفسي في الغرب والشرق، إلى ما لا نهاية.

* جمع المال قبل الموت

* وهناك ماكس ويبر (وُلد سنة 1864)، فيلسوف ألماني، نشر نظرية «ويرك أثيكس» (أخلاقيات العمل) المسيحية. ومؤلف كتاب «أخلاقيات العمل المسيحية وروح الرأسمالية». وقال: إن العمل الجاد يساعد:

أولا: على النجاح في الحياة، قبل الموت.

ثانيا: على الخلاص من الخطيئة، وكسب رضا عيسى المسيح.

وقال: إن دعوة المسيحية للشخص ليخلص نفسه من الخطيئة (بأن يعمل وينجح في الحياة) يمكن أن تطبق على كل المجتمع. ولهذا، فإن الرأسمالية (والإبداع والابتكار) قبل أن تكون من أجل الربح ومن أجل الشهرة، هي من أجل الخلاص الديني.

لهذا، يمكن القول إن هناك أسبابا دينية لعدم انتشار الاشتراكية في أميركا.

* «حفل» التأبين

* وأخيرا فإن الطريقة التي يتعامل بها الأميركيون مع الموت تجمع بين قول فرويد: «إن الحياة نضال نحو الموت»، ونظرية ويبر بأن «جمع المال حافز ديني». ولهذا، يبدو وكأنهم يحتفلون بالموت عندما يحتفلون بإنجازات الشخص الميت.

ولهذا، كان تأبين أوباما لضحايا مذبحة أريزونا سردا لنجاحات كل واحد في الحياة. وأيضا، كان تأبينه للسيناتور كيندي سردا لنجاحه في الحياة: مالا، وشهرة، وإنجازات.

أيضا، يشمل التأبين، على الطريقة الأميركية، نكاتا كان يقولها المتوفى، وأغاني كان يفضلها، وفريق كرة قدم كان يشجعه، وقطعة موسيقية كان يعزفها. وكثيرا ما يضحك المعزون (وأحيانا يصفقون) وجثمان الميت مسجى أمامهم.

انتقد بعض الناس «حفل» تأبين قتلى مذبحة أريزونا، خاصة لأنه شمل هتافات وتصفيقا من 20 ألف شخص حضروه. لكن، على الأقل، شمل «الحفل» ترانيم وموسيقى دينية.