لماذا تحصل انتفاضات الشعوب؟

الفيلسوف الأميركي في كتاب جديد عن العدالة والحرية

«العدالة» - المؤلف: جون رولس John Rawls
TT

لماذا تحصل الانتفاضات العربية؟ لماذا تنفجر الواحدة بعد الأخرى؟ لا ريب في أن هناك عدة عوامل تقف وراء ذلك وليس عاملا واحدا. لكن ربما كان العامل الأول هو البحث عن العدالة والحرية والكرامة ولقمة الخبز. إنه الشعور بالظلم والقهر ورؤية جماعة السلطة ينهبون البلاد وأنت لا تستطيع أن تأكل.. وإلا فلماذا أحرق محمد البوعزيزي نفسه؟

مؤلف هذا الكتاب، جون رولس، هو واحد من أهم المفكرين في الولايات المتحدة الأميركية والغرب كله. وقد كان أستاذا كبيرا في جامعات برنستون، وأكسفورد، وكورنيل، وهارفارد، قبل أن يتقاعد عام 1995. وهو يعتبر أحد أكبر الفلاسفة السياسيين في القرن العشرين. والواقع أن فكره يهيمن على الفلسفة الأخلاقية والسياسية منذ أن كان قد نشر أبحاثه عن العدالة، والحرية، والديمقراطية وسوى ذلك. وتأثيره يمتد لكي يشمل اقتصاد الرفاهية، ونظرية الخيار العقلاني، والقانون، وعلم النفس الأخلاقي.

ولا نجد مثيلا لكتابه عن «العدالة» إلا لدى الكلاسيكيين الكبار كأفلاطون وجمهوريته، وهوبز ونظريته السياسية، وجون لوك ورسالته عن الحكومة المدنية، وجان جاك روسو وكتابه الشهير «العقد الاجتماعي».

ينبغي أن نتحدث عن السياق العام الذي ألف فيه جون رولس كتابه هذا لكي يُفهم على حقيقته. لقد ألفه عندما كانت مشروعية الولايات المتحدة تتعرض لضربات موجعة وتشكيك كبير من قبل المثقفين في الداخل والخارج. ولا يمكن فهم كتاب نظرية العدالة إذا لم نأخذ بعين الاعتبار اهتزاز صورة الولايات المتحدة بعد حرب فيتنام. كما ينبغي أن نموضع كل أبحاث هذا الفيلسوف ضمن سياق مشكلات المجتمع الأميركي المعاصرة. لكن نظريته تنطبق أيضا على المجتمعات الأخرى التي تعاني من الظلم والقهر والتفاوتات الاجتماعية الصارخة.

فالسود كانوا يعانون من تمييز عنصري في كل مجالات الحياة: في المدرسة، والشارع، والجامعة، والوظيفة، إلخ. وقد ظهرت عندئذ حركة النضال من أجل نيل الحقوق المدنية. وهي الحركة التي قاد زمامها الزعيم الشهير مارتن لوثر كنغ. ومعلوم أنهم اغتالوه بعدئذ. وأصبح عندئذ رمزا للنضال من أجل الحق والعدل (لولا تضحياته لما أصبح أوباما الآن رئيسا للولايات المتحدة الأميركية). وبالتالي فعندما ألف الفيلسوف جون رولس كتابه عن العدالة فإنه كان يفكر في كل هذه الأشياء. فالفيلسوف الذي لا يعتمد على الواقع ومشكلاته المحسوسة من أجل بلورة فلسفته ونظرياته لا يستحق اسم فيلسوف في الواقع. ويرى معظم الباحثين أن كتاب رولس هذا هو أهم نص في الفلسفة السياسية بالنسبة للعالم الأنغلوساكسوني بمجمله.

والواقع أن الرجل ولد في عائلة غنية لا فقيرة. وبالتالي فاهتمامه بموضوع العدالة مجرد عن المصالح الشخصية. إنه اهتمام كريم لرجل كريم يصعب عليه أن يرى الظلم والتمييز سائدين في المجتمع الأميركي. وبالتالي فهو يريد تصحيح الأوضاع. ولهذا السبب ألف كتابه عن العدالة. لقد ألفه وهو يفكر في الآخرين لا في نفسه. لكنه كان يفكر في مصلحة المجتمع ككل لأن الظلم إذا ما زاد عن حده فإن المجتمع ينفجر. وهذه هي حالة المجتمعات العربية اليوم أو قسم كبير منها. وبالتالي فالثراء الفاحش للأقلية والفقر المدقع للأكثرية يؤدي إلى الانتفاضات والثورات.

والواقع أن جون رولس كمثقف كان يقف على يسار الطبقة السياسية والفكرية الأميركية. لكن أفكاره أو نظرياته لم تكن تهم فقط اليسار، وإنما اليمين أيضا وكل أطياف الساحة الثقافية والسياسية في البلاد. وكان جون رولس يقول ما معناه «في دولة عادلة حقا ينبغي ألا نحاسب الناس على أماكن ولادتهم سلبا أو إيجابا. فالإنسان لا يستطيع أن يختار مكان ولادته. ولولا ذلك لربما كان قد اختار باستمرار أن يولد في عائلة غنية وطبقة برجوازية ميسورة لا في عائلة فقيرة ومديونة مثلا».

والمقصود بذلك أن أول مبدأ من مبادئ العدالة هو ألا نحاسب الناس إلا على ميزاتهم الشخصية وكفاءاتهم. وبالتالي فلا ينبغي أن نميز بين أسود وأبيض، أو ابن سيدة وابن جارية، إلخ.. الكل سواسية أمام القانون ومؤسسات الدولة أو هكذا ينبغي أن يكونوا.

وأما المبدأ الثاني الذي يلح عليه المؤلف فهو مبدأ الحرية. فالحرية ينبغي أن تعطى للجميع وليس لفئة دون فئة أخرى. والحرية مشروعة ما دامت لا تمنع حرية الآخر من أن تتحقق.

والمبدأ الثالث الذي يلح عليه المؤلف هو مبدأ مشروعية الاختلاف بين البشر. بمعنى أن العدالة تقتضي منا القبول «باللامساواة العادلة» بين البشر. ماذا يعني ذلك؟ ألا يتناقض هذا مع العدالة يا ترى؟ وهل توجد لا مساواة عادلة أو مبررة؟ جواب المؤلف هو: نعم. لكنها لا مساواة محدودة ومحسوبة وليست مفتوحة على مصراعيها. فالتفاوت في الدخل أو في الثروة بين البشر لا ينبغي أن يكون ضخما جدا أو فاحشا. بمعنى أنه يحق لي أن أكون أغنى منك إذا كنت أكثر كفاءة وقدرة وإخلاصا في العمل وخدمة للمجتمع. لكن لا ينبغي أن تكون ثروتي أكبر من ثروتك بعشرات المرات مثلا أو مئات المرات كما يحصل في مجتمعات الرأسمالية المتوحشة.

ويرى البروفسور جون رولس أن اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية ينبغي أن تحقق شرطين اثنين: الأول هو أن تكون ناتجة عن وظائف ومواقع مفتوحة للجميع وليست مغلقة في وجه أي مواطن بشكل مسبق بسبب لون وجهه أو دينه أو أصله العرقي، إلخ. وينبغي أن تكون هذه الوظائف مفتوحة أمام الجميع وتحقق مبدأ تكافؤ الفرص. لكن من يكون أفضل وأكثر كفاءة من غيره يحق له أن يفوز بها.

والثاني هو أن هذه اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية ينبغي أن تنعكس إيجابا على الأفراد الأكثر فقرا في المجتمع. وهذا يعني أن على الدولة أن تتدخل لكي تحمي المواطنين الأكثر ضعفا وفقرا لكيلا يدوس عليهم الأقوياء والأغنياء ويسحقوهم سحقا داخل النظام الرأسمالي الذي لا يرحم.

ثم يردف الفيلسوف الشهير وأستاذ جامعة هارفارد قائلا «ليس من العدل أن تولد في عائلة غنية، وأنا في عائلة فقيرة. وليس من العدل أن تولد ذكيا متفوقا، وأنا غبيا. ولكن هذا شيء وارد جدا في الحياة الاجتماعية وينبغي أن نقبله ولا حيلة لنا به. هذا النوع من الظلم واللاعدالة أمر لا مندوحة عنه. لكن يمكن التخفيف منه عن طريق إفادة الغني المتفوق للجماعة ككل وليس فقط لمصلحته الشخصية. كيف؟ عن طريق دفع ضرائب أكثر من غيره. فمن يكسب الملايين من الدولارات سنويا ينبغي عليه أن يدفع قسما كبيرا إلى الدولة لكي تصرفه على الفقراء أو تحسن وضعهم به. وعلى هذا النحو يحصل نوع من التوازن بين الأغنياء والفقراء ولا يعود أحد يموت من الجوع أو يصبح غير قادر على إطعام عائلته مثلا وتربية أطفاله أو تطبيب نفسه. هنا يوجد خط أحمر لا يمكن انتهاكه في أي دولة تحترم نفسها».

وبالتالي فالعدالة التي يدعو إليها البروفسور جون رولس هي عدالة نسبية ولا تهدف إطلاقا إلى المساواة الكاملة في المدخول والمستوى بين جميع المواطنين. فهذا شيء مستحيل، بل وغير مرغوب أبدا. وقد حاولت الأنظمة الستالينية تحقيقه عن طريق الديكتاتورية، فكانت النتيجة الفشل الذريع للجميع من أغنياء وفقراء، أو أذكياء وأغبياء، أو أقوياء وضعفاء.. على العكس فإن وجود نوع من التفاوت النسبي في المدخول بين المواطنين يؤدي إلى نوع من الديناميكية الاجتماعية ويحقق الوضع الطبيعي للإنسان. فليس من العدل أن أعطي المتفوق المنتج راتبا مساويا لراتب الغبي الكسلان مثلا. لكن ينبغي أن أعطي للجميع إمكانية العيش الكريم وتحسين وضعهم ووضع أولادهم. بمعنى آخر ينبغي أن يوجد تفاوت بين البشر، لكن لا ينبغي أن يكون هذا التفاوت فاحشا.

نضرب على ذلك المثل التالي: إذا كان العامل في الشركة يتقاضى مبلغ ألف دولار كراتب فلا ينبغي أن يتجاوز راتب رب العمل، أي رئيس الشركة، الخمسة وعشرين ألف دولار.

لكن في الرأسمالية المعاصرة نلاحظ أن هذا الشرط غير متوافر. فراتب أرباب العمل أصبح خياليا ولا يكاد يصدق. فبعضهم يتقاضى مائة ألف دولار شهريا أو حتى مليون دولار، هذا في حين أن راتب العامل الذي يشتغل عنده لا يتجاوز الألف أو الألف وخمسمائة دولار.

هذا ظلم فاحش في نظر جون رولس، وهو غير مقبول على الإطلاق. وهنا تكمن فضيحة الرأسمالية إن لم نقل جريمتها ولا إنسانيتها. فهل أنت بحاجة إلى مليون دولار في الشهر لكي تعيش؟ هل أنت بحاجة إلى مائة ألف دولار؟ يكفيك خمسة وعشرون ألفا أو خمسون ألفا على أكثر تقدير. مهما يكن من أمر فإن عليك إذا كنت تكسب كثيرا أن تعطي قسما منه إلى الخزينة العامة أو مصلحة الضرائب لكي تصرفه على الناس المحتاجين وترفع مستوى ذوي الدخل المحدود. ثم لكي تصرفه على الخدمات العامة أيضا من أجل تحسينها وصيانتها. وعلى هذا النحو يحصل التكافل الاجتماعي في المجتمع. بمعنى آخر فإن نسبة التفاوت بين الغني والفقير في المجتمع الأميركي لا ينبغي أن تتجاوز واحدا على خمسة وعشرين أو واحد على ثلاثين كحد أقصى. لكننا نعلم أنها تتجاوز الآن واحدا على ألف أو حتى على مائة ألف! هنا يكمن الخطر على المجتمع في دول الرأسمالية المتوحشة، الجشعة، التي لا تشبع.

وبالتالي فإن المنظّر الأكبر للعدالة في أميركا ليس شيوعيا ولا ماركسيا ولا يؤمن بالمساواة الكاملة بين البشر، ولا يطالب بها أصلا لأنه يرى فيها خطرا على تقدم المجتمع وحيويته وازدهاره. لكنه يطالب بالحد الأدنى من العدل والمساواة لكي يعيش الجميع في وئام وسلام.