الغذامي: ثقافة الفتوى.. من زمن الفقيه الأرضي إلى زمن الفقيه الفضائي

تحدث لـ «الشرق الأوسط» عن كتابه الجديد الذي يتناول دور الفقيه في عصر ثقافة الصورة وتقنيات الوسائل

د. عبد الله الغذامي
TT

يصر الناقد السعودي المعروف د. عبد الله الغذامي على أنه لا يتقمص دور «المصلح الثقافي»، وقد قال لـ«الشرق الأوسط» إن الدور الوحيد الذي يناسبه هو «دور المفكر المستقل الحر».

لكن كتابه الأخير، «الفقيه الفضائي: تحول الخطاب الديني من المنبر إلى الشاشة» الصادر عن المركز الثقافي العربي، يعيد الغذامي مرة أخرى لدائرة الجدل داخل الساحة الثقافية التي لا يكاد يبارحها، في هذا الكتاب يستقوي الغذامي بآراء بعض الفقهاء كالإمام الشاطبي، وبعض الدعاة كالقرضاوي وسلمان العودة، ليطلق دعوة للجمهور العام لخوض عباب الفقه للوصول لدرجة الاجتهاد، وعدم حصر الأمر على طائفة من أهل العلم، يحمل غلاف الكتاب دعوة الشاطبي بالقول: «يقول الإمام الشاطبي بوجوب الاجتهاد على العامي مثلما هو واجب على الفقيه العالم، وذلك لأن آراء الفقهاء بالنسبة إلى العوام هي مثل الأدلة بالنسبة إلى الفقيه»، ويقول: «إذا علمنا أن درجة الاختلاف في الفقه تبلغ 99 في المائة كما يحدد القرضاوي، فإن باب الاختلاف العريض مع باب الاجتهاد المفروض على الكل يجعل الثقافة الفقهية نشاطا معرفيا حيويا وتفاعليا حتى لا يبقى مجال للخوف ولا لسد الذرائع»، ويضيف: «سيكون فتح الذرائع لا سدها مبدأ جوهريا في مشروع الفقيه الفضائي كما طرحه سلمان العودة، وهذه قضايا جوهرية في المبحث الفقهي العصري لا تحصر الفقه في تصورات بدائية مثل طلب التسهيل أو فرض الأحوط أو تقليد الموثوق به، وإنما تجعل الفقه خطابا ثقافيا ومعرفيا اجتهاديا واختلافيا ووسائليا، وهذا معنى تؤسس له تصورات وسلوكيات الفقيه الفضائي»، وهذه العناوين هي ما تدور عليه فصول الكتاب، «حيث سنرى أن المدونة الفقهية هي مدونة في الرأي والاختلاف والتغيير حسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد، وهذا ما قال به ابن القيم، وبه تتأكد ظرفية وثقافية الخطاب الفقهي، ويكون الاجتهاد شرطا معرفيا على الكل، العامي مثل الفقيه، والمبدأ في السلوك هو مبدأ الترجيح حسب مناط الحكم، وسنشهد كيف تتحول ثقافة الفتوى من زمن الفقيه الأرضي إلى زمن الفقيه الفضائي في عصر ثقافة الصورة وثقافة الوسائل».

في كتابه الجديد، يخرج الغذامي عن دائرة النقد الأدبي والثقافي، ليدخل في دهاليز النقد الفكري، وصولا للخطاب الديني، حيث صبّ اهتمامه هذه المرّة على دور الفقيه الفضائي سواء على المستوى الثقافي أو الديني أو الاجتماعي، مقارنة بدور الفقيه الأرضي المماثل.

وفي اتصال مع «الشرق الأوسط»، قال الغذامي: «إذا كنّا نقول إن الفقيه هو رمز اجتماعي وديني وثقافي فلا بد لهذا الفقيه أن يمارس دوره الرمزي ويكون سريعا في حركته بنفس درجة الزمن الذي نعيشه».

وعن سر اهتمام الغذامي بعملية التحول في طريقة الخطاب الديني من على المنابر إلى الشاشات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية ووسائط التقنية الحديثة، يرى الغذامي أن مردّ هذا التصور يأتي كمسألة تجذرت من مقولة أبو حنيفة حول الفقه والتي يقرر فيها أن الفقه خطاب في الرأي، حيث يقول أبو حنيفة نصّا: «كلامنا هذا رأي فمن جاءنا بخير منه تركنا ما عندنا إلى ما عنده».

وبرأي الغذامي فإن مقولة أبو حنيفة هذه، تشير إلى رحابة عقله وإلى كون كتاب الفقه كتابا في السُّنة كما وصفه أحمد بن حنبل بأنه كتاب في الاختلاف والاجتهاد، مما يعني أنه ثقافة وخطاب تفاعلي تشترك العقول البشرية في فهمه من جهة، وفي تحمّل مسؤولية هذا الفهم من جهة أخرى.

ويضيف: بما أن درجة الاختلاف في الفقه تبلغ تسعا وتسعين في المائة - كما يحدد القرضاوي - فإن باب الاختلاف العريض مع باب الاجتهاد المفروض على الكل يجعل الثقافة الفقهية نشاطا معرفيا حيويا وتفاعليا حتى لا يبقى مجال للخوف ولا لسد الذرائع.

ويقول الغذامي إنه من المفاهيم الجوهرية أن المسؤولية تعني الاختيار، لأن فاقد الاختيار لا يصبح مسؤولا عن عمله، ولذا فإن المسؤولية في رأيه هي في حقيقتها الاختيار وهذا شرط معرفي وأخلاقي.

وأضاف الغذامي أن فتح الذرائع لا سدها مبدأ جوهري في مشروع الفقيه الفضائي - كما طرحه سلمان العودة - وهذه قضايا جوهرية في المبحث الفقهي العصري لا تحصر الفقه في تصورات بدائية مثل طلب التسهيل أو فرض الأحوط أو تقليد الموثوق به.

وزاد الغذامي أن الذرائع هي الوسائل وهذا هو معناها اللغوي والفقهي، «فإذا قلنا بسدّ الذرائع معنى هذا أننا نقول بإغلاق الوسائل فنحن نعرف أننا في زمننا هذا إنما نعيش (زمن الوسائل) مما يعني استحالة تطبيق مفهوم الإغلاق هنا ويصبح فتح الذرائع شرطا للتعامل مع العصر ووسائله وهذا ما اكتشفه الفقيه الفضائي».

وأضاف: أن تجعل الفقه خطابا ثقافيا ومعرفيا اجتهاديا واختلافيا ووسائليا، فهذا يعني أنك تعتقد في معنى تؤسس له تصورات وسلوكيات الفقيه الفضائي.

يتكون الكتاب من مقدمة وستة فصول هي: الفقيه الفضائي، الفتوى رأي الدين أم هي رأي «في» الدين، الاجتهاد والاختلاف، حجب الفتوى، الوسطية، الاختلاف السالب (فقه الصورة)، الاختلاف الساخن.

وقال الغذامي: «إن الفقيه الفضائي وجد نفسه أمام تعبير وسائلي ضخم يتمثّل في الشاشات الثلاث التلفزيون والإنترنت والموبايل التي صارت سبلا للتواصل ما بين الفقيه والجمهور وهو جمهور عريق يمثل الجمهور المحلي، جانب منه فقط، يضاف إليه جمهور له ظروف خاصة وهو جمهور الأقليات المسلمة في بلدان غير مسلمة، وجمهور ثالث هو الآخر غير المسلم عربيا، أو عالميا، وهنا يحدث المفترق لأن الفقيه الفضائي يخاطب الفئات الثلاث كلها في لحظة واحدة ولا يستطيع أن يدرك الحدود الفاصلة بين الفئات لأنه يرسل خطابه على الهواء مباشرة».

ولذا يعتقد الغذامي أنه يلزم الفقيه الفضائي أن يجعل خطابه ملائما لهذه الفئات على اختلافاتها الكبرى وهذا على نقيض الفقيه الأرضي الذي يتعامل عبر المنبر ومع جمهور محلي يعرفه ويعرف ظروفه ويتماثل الطرفان مع بعضهما البعض، مستدركا، أن الشاشات الثلاث غيّرت من شروط هذا التماثل وأحدثت افتراقا نوعيا، ويطرح الكاتب السؤال: كيف تحوّل الفقيه وكيف تغيّر مع تغيّر الوسيلة وتغيّر الجمهور المستقبل لخطابه؟.

ويرى الغذامي أن المدونة الفقهية هي مدونة في الرأي والاختلاف والتغيير حسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد، وقال: «هذا ما قال به ابن القيم، وبه تتأكد ظرفية وثقافية الخطاب الفقهي، ويكون الاجتهاد شرطا معرفيا على الكل، العامي مثل الفقيه، والمبدأ في السلوك هو مبدأ الترجيح حسب مناط الحكم».

وأضاف الغذامي: سنشهد كيف تتحول ثقافة الفتوى من زمن الفقيه الأرضي إلى زمن الفقيه الفضائي في عصر ثقافة الصورة وثقافة الوسائل، وقال: «هذه مقولة ابن قيّم الجوزية الذي يقول إن الفتوى تتغير حسب المتغيرات الخمسة المذكورة وأورد ما يقرب من مائة مثال على هذا التغيّر مما يعني أننا نتعامل مع خطاب مفتوح على المتغيرات».

وقال: «وإذا قلنا إن عصرنا هذا لا يشبه أي عصر سابق في الماضي فمعنى هذا أننا نحتاج إلى فقه يتعامل مع ظروف وشروط ومتغيرات هذا العصر كما هي قاعدة ابن القيّم الأصولية».

وقال: «الآن نحن نواجه مفاجآت هذا الزمن في أبعد وأقصى غاياتها حتى تلك التي لا نتخيّلها ولا نحلم بها، ولهذا يلزم الخطابات الأساسية في ثقافتنا أن تواكب هذه المتغيرات وأن تكون على درجة مماثلة مع إيقاع التحديات وهذا ما حاولت استخلاصه في تعامل الفقيه الفضائي مع تحديات زمانه».

سبق للغذامي أن أصدر كتابا آخر أثار الجدل هو كتاب «الخطيئة والتكفير» والذي وصفه بأنه «كتاب في النظرية والمنهج، وهذا هو التأسيس، وأرى أننا في ثقافتنا العربية نحتاج إلى هذا النوع من التأسيس الفلسفي النظري المعرفي، الذي يتبعه بعد ذلك التطبيقات، فالناس عادة في حالة الاستقبالات ينشغلون بالتطبيقات ولا يتوقعون الشيء الكثير من التأسيس المعرفي والنظري والمنهجي، غير أنني لا أشك في أن كتابي ينطلق من أهمية فهم التأسيس المعرفي».