عبد اللطيف اللعبي يتحدث عن السياسة ودرويش واليهود المغاربة

قال إنه نتاج تاريخ لا يكترث كثيرا بالأخلاق.. وتزعجه التهنئة بفوزه بـ«الغونكور»

غلاف «شاعر يمر»
TT

«مصير رجل قد لا يكون سوى حاصل اكتشافاته التي تركت أثرها عليه». هكذا كتب الشاعر والكاتب المغربي عبد اللطيف اللعبي في مؤلفه «شاعر يمر» الذي دوّن فيه يومياته، التي يبدو أنه لم يكتبها بالطريقة الكلاسيكية التقليدية، إذ جاءت دفقا حميما لذاكرة تحتفي بالأمكنة، ولا تريد للزمن أن يُغيب عنها الأحبة ورفاق النضال والأصدقاء الذين غادروا إلى الأبدية، والطفولة وسنوات السجن والمرارة، والخيبات والحب والألق.

يصف اللعبي مؤلفه، الذي صدر مؤخرا، في ترجمته العربية، عن «دار ورد» بدمشق، وقامت بترجمته من الفرنسية روز مخلوف، بأنه «يوميات راعت التسلسل التاريخي، تتخللها تأملات حول الكتابة، ونهر الزمن، وحال العالم المقلق، ومصائر البشر بما فيها مصيري، ولكنها اتخذت شيئا فشيئا، ودون أن أخطط مسبقا للأمر، وجهة غير متوقعة، مستفيدة من تنقلاتي المتواصلة. من محاولة مترددة إلى أخرى، شرعت بمراجعة جوانب كاملة من حياتي بمواكب لقاءاتها واكتشافاتها وأهوائها، وهذا كله بالتزامن مع تجارب وأحداث وانفعالات عشتها في الحاضر والماضي القريب جدا. لقد أدت شقلبة العلاقة مع الزمان ومع المكان إلى تغير في نوع السرد الذي انخرطت فيه بادئ الأمر. النتيجة: مادة أدبية لم تعرف هويتها. وهذا أفضل»، قبل أن يتساءل عن قيمة يومياته، فيقول: «هل هذه اليوميات فكرة جيدة؟ أليس هناك خشية من تحولها إلى فعل قسري، ومن وقوعها في تسلسل زمني مبالغ في تقديره؟»، ليكتب: «ما أدونه هنا ليس سوى محادثة آمل أن تكون صريحة ومفيدة مع نفسي».

ينقلنا اللعبي، من خلال يومياته، التي كتبها بين أكتوبر (تشرين الأول) 2007 وديسمبر (كانون الأول) 2009، إلى مجموعة من الأمكنة، بينها باريس والجزائر وإسطنبول والقدس والأندلس، فضلا عن عدد من مدن المغرب.

وتحت عنوان «هوس الأندلس»، وهو الجزء الذي يروي فيه لقاءه مع الثقافة والتقاليد الأندلسية، عبر سفر إلى مدينة خيريس، متذكرا شوارع غرناطة، التي توقف فيها أمام مشغل حرفي، متحيرا من شيء كان يجري عليه اللمسات الأخيرة، وهو كتابة عربية تقول: «لا غالب إلا الله»، بينما النقش نجده مكررا إلى ما لا نهاية فوق الجدران في جميع قاعات الحمراء. يقول اللعبي: «قبل أن أشتري هذه القطعة التي أتكلم عنها (باب صغير من الجص الملون) طلبت من ذاك الصانع الشاب أن يقرأ لي ما رسمه للتو، فاعترف لي بأنه لا يستطيع لأنه يكتفي بإعادة إنتاج ما انتقل إليه أبا عن جد». يترك اللعبي لنفسه فسحة للحديث عن طريقة تفكيره ورؤيته لوظيفة الكتابة، حيث يقول: «نكتب من أجل الحفاظ على ذاكرة المغامرة الإنسانية».

يخصص اللعبي للمغرب فصلا من يومياته، تحت عنوان: «بلدي العزيز»، يختمه برجاء: «ليت الحظ يحالفك، يا بلدي العزيز». ولأنه شاعر، فقد كان لا بد أن نسمع رأيه بصدد واقع الممارسة الشعرية، ولذلك يقول: «إذا لم يكن للشعر من مردود مادي كبير، فهو يسمح على الأقل بأن يستقبلوك هنا وهناك، مع الحفاوة والاهتمام اللذين يستحقهما نوع مهدد بالانقراض، وثمة أشخاص خيرون، عبر العالم، متحمسون للحفاظ عليه. لنعترف، على هذا الصعيد، بأن الشعراء مدللون أكثر من الروائيين، أولئك المنتصرون بالتأكيد في السباق إلى الشهرة الأدبية. المهرجانات واللقاءات والأمسيات الأدبية الفردية التي يدعى إليها الشعراء ما عادت تحصى. لكن لهذا التعويض وجهه الآخر. إنه يهيج الأنا ويفتح الشهية إلى السلطة. عبثا نغمض عينا، فالعين الأخرى لا تستطيع منع نفسها من أن ترى كيف يصبح بعض الشعراء خبراء في انتهاز الفرص وفي العلاقات التي تسهل ذلك».

يتحدث اللعبي، في يومياته، عن يهود المغرب، وعن حرب يونيو (حزيران) التي يقول عنها: «كان يجب انتظار حرب الأيام الستة لكي يستيقظ (العصب) العربي فينا، ويمتد أفقنا الفكري إلى ما وراء المغرب». كما تحدث، بشكل مستفيض، عن مجلة «أنفاس» ومنظمة «إلى الأمام»، فضلا عن علاقته بالمعارض ابراهام السرفاتي والكاتب إدريس الشرايبي، وكذا الطريقة التي تلقى بها خبر موت الشاعر الفلسطيني محمود درويش.

وعما سماه «لعبة الحياة والموت»، يقول: «كانت الحياة كريمة معي، وكنت شديد الامتنان لها. اقترنت بها في زفاف لا يتوقف واحتفلت بها حتى الارتواء. وأحببتها كميال للمتع وكمتصوف معا. دافعت عنها ضد المعتدين والمقنعين». كما تحدث عن علاقته بلغة الكتابة، وكيف انتشرت تلك الهجمات اللاذعة للذين حاولوا إنكار شرعية الإنتاج الأدبي المكتوب بالفرنسية لأنه ببساطة غير مكتوب بالعربية، ووصف نفسه، في هذا السياق، بأنه «نتاج تاريخ لا يكترث كثيرا بالأخلاق»، و«لم يكن مسؤولا عنه». كما استرجع طفولته في فاس، بحنين جميل، فقال: «كانت إحدى ألعابنا في المراهقة تقوم على مهاجمة اليهودي الذي يخاطر بالدخول إلى حاراتنا، لسرقة قلنسوته. وكان يلزم قلنسوتان لصنع كرة يحشوها أوغادنا بالخرق وقصاصات مختلف الأقمشة التي تجمع من ورشات نساجي الحي».

يصرّ اللعبي على أن يرفع صوته، بين الحين والآخر، مثيرا الانتباه إلى خطر تراجع دور المثقف وتقلص مجال الفعل الثقافي، بعد ضمور الحقل الثقافي وتهميش المثقف وتراجع تأثيره وإشعاعه وفعاليته، وانسحاب المثقفين من القيادة الفكرية للبلاد، ولجوء بعضهم إلى توظيف فعالياتهم في مجالات لا تستفيد منها البلاد بالضرورة.

مع اللعبي، الذي يعرف «قاع الخابية (عنوان أحد مؤلفاته)» جيدا، تتأكد الحاجة إلى المثقف، لأخذ وجهة نظره، بصدد مختلف القضايا التي تهم الشأن العام، خصوصا وأن الواقع الذي يتم فيه الدفع بالرياضيين والسياسيين إلى الواجهة، يبقى أشبه بصنع طاولة برجلين.. لن تقوم لها قائمة، أبدا.

خلال لقاء احتضنه معهد سرفانتيس الإسباني بمراكش، قال اللعبي: «إن الكاتب إنسان، لذلك، ورغم القوة والصلابة، التي قد يبدو عليهما، فيه كثير من هشاشة الإنسان».

في ذلك اللقاء، الذي أخذ عنوان «هوس الأندلس»، الذي هو عنوان جزء من سيرته «شاعر يمر»، استحضر اللعبي جانبا من تاريخه النضالي، ومن مواقفه السياسية، قبل أن يقول: «لست بطلا. لكن، أظن أني استطعت، إلى الآن، أن أبقى واقفا كما يجب، مدافعا عن مواقفي وقناعاتي. لم أحنِ رأسي يوما أو أتفاوض مع أحد، ولم ألهث وراء منصب أو غيره. حتى (هنيئا فوزك بالغونكور «جائزة فرنسية بصيت عالمي، فاز بها عام 2009») تزعجني. لا غرض لي لا بـ(الغونكور) ولا بغيرها. فزت بالجائزة، وهذا شيء جيد، لأنها ساعدت في التعريف باسمي في الأوساط الثقافية. لكن، ليس هذا ما يهمني في الكتابة. الكتابة هي تجربة إنسانية، بالأساس، وبالتالي، فحين يكون الكاتب بين ظهرانيكم، رجاءً... انظروا إليه كإنسان مختلف، إلى حد ما، يحترف مهنة صعبة».

وعن واقع الممارسة الأدبية في المغرب، قال اللعبي: «في بلادنا اكتب وانشر على حسابك، لا أحد سيقرأ لك. المؤسسات لا تساعد على الفعل الثقافي وصوت المثقف والمبدع غير مسموع، كما أن الثقافة لم يعترف لها بوظيفة المنفعة العامة»، وشدد على أن «الثقافة ليست ترفا»، قبل أن يمضي، قائلا: «الكتب ليست غالية في المغرب، خصوصا بالنسبة لمن يفضل شراء علبة سجائر أميركية، تعادل ثمن رواية أو ديوان شعر»، مشيرا إلى أن هناك أقلية صغيرة، فقط، في المغرب ما زالت تواصل وتواظب على القراءة.

على صعيد المسؤوليات، قال اللعبي إنها متعددة ومختلفة. أولا، بالنسبة للآلاف من المغاربة، الذين يقصدون الأسواق الممتازة، فيملأون صناديق سياراتهم بألفي درهم، أو أكثر، من المواد الاستهلاكية، من دون أن يفكروا في إضافة كتاب إلى قائمة السلع التي اقتنوها. وإلى مسؤوليات الأفراد، شدد اللعبي على مسؤولية الدولة، متحدثا عن «غياب سياسة ثقافية في البلد»، مشيرا إلى الحالة «الكارثية»، التي توجد عليها المكتبات والخزانات العامة بالمغرب، من دون أن ينسى حالة المعاهد الموسيقية وغياب المراكز الثقافية.

وبعد أن انتقد غياب البنيات التحتية الخاصة بالفعل الثقافي، قال اللعبي: «نحن في وضعية دراماتيكية، والمثال أننا ننظم مهرجانات موسيقية بالجملة، بينما كانت الفكرة، في البداية، على مستوى السينما، أن نشجع الثقافة لكي نجلب السياح، ونعطي صورة جميلة عن المغرب، غير أننا لا يمكن أن نضع سياسة ثقافية عبر خلطها بحاجيات البلاد من العملة الصعبة».

ولد عبد اللطيف اللعبي بمدينة فاس عام 1942، أشرف على إدارة مجلة «أنفاس»، التي أسسها عام 1966، واعتقل في 1972 بسبب مواقفه السياسية اليسارية، ولم يطلق سراحه إلا في 1980. يجمع، في إبداعاته، بين أجناس كتابية مختلفة، ويكتب باللغة الفرنسية، التي ترجم إليها الكثير من أعمال الشعراء العرب. أكد اللعبي حضوره في المشهد الثقافي المغربي والعربي والدولي، وفاز بعدد من الجوائز الأدبية، آخرها وأشهرها جائزة «غونكور» الفرنسية.