المراكز الثقافية الغربية تنحسر والتنين الصيني يتمدد

بريطانيا وألمانيا تتقشفان أما إسبانيا فتقاوم

TT

اضطرت فرنسا منذ سنوات إلى إغلاق أكثر من عشرين مركزا ثقافيا أغلبها في أوروبا، وهذا بعد صدور عدة تقارير تتحدث عن ارتفاع تكلفة تسييرها في مقابل ضعف نفوذها وتقّلص دورها. وكانت ألمانيا قد أقدمت على نفس الإجراء لكنها كانت أكثر جرأة، حيث أغلقت في نفس الفترة أكثر من نصف مراكزها الثقافية الموجودة في أوروبا، هذا بعد تقليص تدريجي لعدد مراكزها في العالم عموما. كما قامت بريطانيا وفي عمل مشابه، في المدة الأخيرة بمراجعة تكاليف المراكز الثقافية البريطانية أو ما يسمى «البريتش كاونسل»، وانعكس ذلك تقشفا على النشاطات، والمشاريع التي تدعمها، كما أنها سرحت عددا من الموظفين، واكتفت بالكم الذي تعتبره ضروريا منهم. وبات العديد من هذه المراكز البريطانية حول العالم يحاول أن يقيم شراكات مع جهات محلية، في الدول التي ينشط فيها، كي يدعم تمويله.

فرنسا ليست أحسن حالا، فقد نالت التخفيضات المالية الفرنسية من حيوية برامج التبادل الثقافي، فلا استضافة لفنانين أجانب ولا تظاهرات فنية فرنسية في الخارج على نفقة الدولة بعد اليوم. كما تمّ الحّد من دعم المهرجانات المتخصّصة كمهرجان «تارماك» ومهرجان «ليموزان»، وتقّرر التخلّص من 400 منصب معظمها لمستشارين ثقافيين وأساتذة لغة وإداريين والاعتماد على موظفين محليين بالأجور المعتمدة في بلدانهم. علما أن سياسة التقشف لم تتعرض لبعض القطاعات التي ما زالت فرنسا تعتبرها ذات أولوية. فقد تقّرر الإبقاء على المنح الدراسية التي تُعطى سنويا لنحو 18 ألف طالب أجنبي، وكذا الحال بالنسبة لتمويل نشاط رابطات تعليم اللغة الفرنسية «أليانس فرانسيز» وبرامج التنقيب عن الآثار. على أن وتيرة «الإصلاحات» التي تستهدف مؤسسات الحضور الثقافي الأخرى قد بدأت تتسارع منذ السنوات الثلاث الأخيرة، حيث تّم بتر ميزانيتها إجمالا بنسبة 19 في المائة عام 2009، وهي النسبة التي ستنخفض تدريجيا لتصل لـ40 في المائة عام 2013. رياح الإصلاحات القوية جاءت بتصورات جديدة كتلك التي ترّوج لفكرة اختصار الوجود الثقافي الفرنسي في مؤسسة واحدة تسمى «المعهد الفرنسي» على غرار نموذج «البريتش كونسيل» البريطاني و«غوته أنستوتيوت» الألماني على أنها الوسيلة المثلى للاقتصاد وتركيز الجهود والإمكانات في مؤسسة واحدة. وهو المشروع الذي جربّته قبل فرنسا عدة دول كيوغوسلافيا، وتركيا، وألمانيا وكوريا الجنوبية وقد تم الشروع في تجريب هذه الفكرة في أكثر من 15 عاصمة لغاية اليوم: في بريطانيا وتركيا وإيطاليا والجزائر والكاميرون وإسرائيل ودول أخرى. في سلّة التجارب أيضا خطة تكوين جهاز عمل في هذه المراكز لأداء مهمة «الوسيط الثقافي» الذي يكون حلقة الوصل بين صنّاع الثقافة داخل البلاد وخارجها والقطاعين العام والخاصّ ويسهم في التعريف بفنانين فرنسيين والترويج لأعمالهم وإنجازاتهم الفنية والفكرية في الخارج وإيجاد التمويلات المشتركة لتنظيم التظاهرات. كما يتّم التحضير لحمل المراكز الثقافية على تحقيق تمويلها الذاتي تدريجيا بالتركيز على دروس الّلغة الفرنسية وتنظيم العروض والتظاهرات الثقافية المختلفة وربط المساعدات الممنوحة لها بالنتائج التي تحققها على أرض الواقع. تماما كما تفعل الجارتان البريطانية والألمانية الّلتان وصلتا بفضل التركيز على دروس اللّغة لتحقيق جزء مهم من تمويلهما الذاتي. يحدث هذا بينما تسجل الصين انتشارا واسعا لمراكزها الثقافية حيث تّم افتتاح أكثر من 282 فرعا لـ«معهد كومفشيوس» لتعليم اللغة ونشر الثقافة الصينية في أنحاء مختلفة من العالم منذ 2004. كما تشهد إسبانيا أيضا عودة قوية الزخم لـ«معاهد سرفنتس» التي تعرف منذ عام 2005 زيادة في ميزانيتها تصل لنسبة 66 في المائة. أما ألمانيا التي أخضعت معاهدها لتدابير تقشفية شديدة لا سيما بين 2005 و2007 فقد عادت واهتمت بتمويل مراكزها ونشر لغتها شرقا وغربا حتى أنها سجلّت سنة 2010 زيادة في نشاطها بنسبة 8 في المائة. رغم وجود شبه إجماع كّلي على ضرورة ضّخ الحيوية من جديد في مؤسسات الحضور الثقافي الفرنسي في العالم وبأن المراكز الثقافية ليست دروس اللّغة فقط بل هي الواجهة الثقافية الخارجية لشعب بكامله وأداة دبلوماسية فعّالة فإن الإمكانات المادية والمعنوية لا تزال في تراجع مستمر في ظلّ الأزمة الحّادة التي تعصف باقتصاديات كل الدول حتى أكثرها قوة.