الشعر والمجازات الجديدة

الحب والموت في مجموعة «ألوان السيدة المتغيرة»

غلاف الكتاب
TT

أمضيت عدة ليال، برفقة فاضل السلطاني في مجموعته الشعرية: «ألوان السيدة المتغيرة». في الديوان بحر من الصداقة والكثير من الصوت الأخوي الحنون. أقصد الصداقة مع الأشياء والكائنات وكل شيء. في الديوان فراق ووداع أخير. من يعرف لحظة الفراق؟ من يفهمها، يتوقف عندها؟ هل يفارقنا أحبابنا أم نحن الذين نفارق أنفسنا إذ يديرون ظهورهم ويرحلون؟ قطعة من وجودنا، من عمرنا، تتساقط برحيلهم. هل نرثيهم أم نرثي أنفسنا؟ السؤال مطروح بشكل خاطئ. كان ينبغي أن أقول: أليسوا أعز علينا من روحنا؟ ما معنى الحياة من دونهم؟ أليست جريمة أن نعيش بعدهم ولو لحظة واحدة؟ لماذا يذهب أحبابنا، لماذا يغادروننا فجأة، لماذا لا يشفقون علينا؟ كيف يمكن أن نحتضنهم حتى القبر! تذكرت جان جاك روسو وهو يمرغ وجهه بتراب القبر، قبر تلك المرأة التي أحبها، ويسمع نشيجه عن بعد..

هذه هي بعض التساؤلات التي انفجرت في وجهي، عذبتني وداوتني، وأنا أقلب صفحات الديوان من قصيدة إلى قصيدة، من مقطوعة إلى مقطوعة. لو كنت محل فاضل لربما خلعت عليه اسما آخر لا أعرف ما هو ولكنه مستمد من هذه التساؤلات بالذات. سوف أبتدئ من آخر قصيدة بعنوان: «سهام». وهي أخت الشاعر، المربية والمناضلة التي رحلت عام 2009. إذا كانت الخنساء قد برعت في رثاء أخيها الصخر وأبكت حتى الحجر، فان فاضل السلطاني قد برع في رثاء أخته سهام. لكن لماذا الخنساء؟ لماذا لا أتذكر فيكتور هيغو الذي فجع بابنته الشابة ليوبولدين فجننته. ومعلوم أنها ماتت غرقا مع زوجها الذي لم يستطع إنقاذها في آخر لحظة فغرق معها. بل قد فضل أن يرافقها إلى أعماق البحار على أن يبقى من دونها.. قصة ولا أروع! لا أعرف ما إذا كان فاضل السلطاني قد اطلع على هذه القصيدة. لا أعتقد، لأن مرجعياته الشعرية انجليزية بالدرجة الأولى إذا لم أكن مخطئا. ولكن أحيانا يحصل تخاطر أو تقاطع خواطر دون اطلاع مسبق. فاضل السلطاني يستنهض سهام من القبر لكي تعود نهارا إلى عملها، إلى بيتها، إلى أحبتها، ثم تعود إلى القبر من جديد عندما يحل المساء. محاولة لتطويق الموت، لتجاوزه، للاحتيال عليه بأي شكل كان.. يقول الشاعر:

أما تدركين؟

انه الصبح ينهض،

والله يستبدل الضوء بالظل فوق التراب،

فانهضي. عندك الوقت كي تنهضي

ودعي النوم حتى المساء.

كل شيء تغير بعد الغياب.

لاحظ اللوعة المكبوتة المتضمنة في البيت الأخير:

كل شيء تغير بعد الغياب...

الحياة بعدك لا يمكن أن تكون مثل الحياة قبلك. نقطة على السطر.

فيكتور هيغو أيضا يستنهض ابنته ويكاد من شدة الشغف واللوعة يرى القبر ينشق لكي تخرج منه حية كما كانت، فيحتضنها! نفس الرفض للموت، نفس الحرقة، نفس اللوعة ونفس الحسرة.

هناك طريقتان لتجاوز هذه المشكلة، للتغلب على الموت: الدين والشعر. فاضل السلطاني، كفيكتور هيغو، أو كابن الرومي، يلجأ إلى الشعر لكي يعبر عن لوعة تتجاوز كل اللوعات. الشعر كعزاء في عالم لا عزاء فيه. ماركس يقول: الدين كعزاء في عالم لا عزاء فيه. ماذا يتبقى لنا غير الشعر؟ أقصد غير الكتابة، سواء أكانت شعرية أم لا. جان جاك روسو لم يكن شاعرا بالمعنى الحرفي للكلمة ومع ذلك فقد رثى مدام دوفارين بلغة تتجاوز الشعر. ينبغي أن نخرج من التحديد التقليدي الذي يحصر الشعر في الأوزان والقوافي، أو حتى في قصيدة النثر.الشعر مبثوث في كل مكان: في الهواء والماء والضياء وكل شيء. الشعر يملأ الشوارع. هل تخلو روايات بلزاك أو نجيب محفوظ من الشعر؟ ناهيك عن ستندال أو دوستيوفسكي؟ وحتى النص الفلسفي الهائل لنيتشه ألا يقبض على الشعر بكلتا يديه؟ وأفلام السينما أليست مليئة بالشعر؟

بعد قصيدة سهام ربما توقفت عند قصيدة بابل.. بابيلون والحنين إلى العراق.. هناك حيث الفرات والحبيبة والطفولة التي ذهبت إلى الأبد. هل الشعر قادر على استرجاعها؟ أنا شخصيا لا أتجرأ على ذلك لأن طفولتي كانت كابوسية بالمرة. .أنا بشكل من الأشكال محصن ضد مرض من نوع خاص يدعى: الحنين إلى الوطن. وأعترف بأني أحسد فاضل السلطاني لأنه لا يزال قادرا على الحنين وبمثل هذا الصوت الصداقي المليء بالشجن والحب والذكرى.. ربما كانت طفولته سعيدة ولذلك يعود إليها، يجتر ذكراها، أما غيره فيهرب منها.. لا أجد تفسيرا آخر. لكن القصيدة تستطيل لكي تحن إلى أماكن أخرى عبرها الشاعر وما أكثرها. لحسن الحظ أن باريس كانت منها فجاء هذا البيت الجميل: وتعثرت بالضوء في باريس..

لكن القصيدة التي أراها أنجح في التعبير عن الوطن هي قصيدة: «عودة». أخيرا عاد الشاعر بعد طول غياب، فماذا وجد؟ أكاد أستشهد بها كلها. لقد وجد الموتى:أي الأصدقاء الذين ماتوا أثناء غيابه. شيء مرعب؟ شيء مفزع؟ لا. شيء مريح وحزن هادئ يهدر كالبحر الذي لا ضفاف له.. الموت موجود بكثرة في هذا الديوان. الرحيل، القطيعة، الفراق.. ولكنه ليس موضوعا سلبيا أو مظلما على الإطلاق. الموت موجود كحقيقة موضوعية قاهرة، كصديق لا بد منه، كحنين إلى كل الذين غادروا بعد أن غادرنا. الموت كحب لا نهائي لأولئك الذين سبقونا.. من يعلم! ربما عدنا ولم نجد أحدا ممن نعرفهم. ربما عدنا غريبين وقضينا العمر في الانتقال من غربة إلى غربة، من منفى إلى منفى. وعندئذ لا يبقى لنا وطن آخر غير الشعر أو اللامكان. تذكرت هيدغر متحدثا عن هولدرلين وريلكه: دروب تؤدي إلى لا مكان.. في اللامكان نسكن، في اللامكان يوجد وطننا الوحيد: أي في كل مكان. لنستمع قليلا ولنستمتع أيضا:

سأعود

قد يعرفني النخل المقطوع الأعناق

وبعض الأشجار

قد يعرفني بعض الأحجار

سيحييني بعض الطير

اللابد في الوكنات

لاحظ هذا البيت الأخير: اللابد في الوكنات..

هنا نجد أن اللحظة مؤثرة إلى درجة أن الشاعر تخلى عن قصيدة النثر وبرودتها الظاهرية لكي يستخدم السلاح الثقيل: أي الأبيات الموزونة المقفاة تقريبا، أو على الأقل قصيدة التفعيلة. أجد هذه الأبيات ناجحة ورائعة في ذات الوقت.

ثم يضيف قائلا:

سأقول: صباح الخير

ها أنذا عدت

ما زلت

كما كنت

قد يعرفني بعض الأموات

شيء طبيعي، لأنه لم يبق بعد رحيلنا أحد أصلا! وحدهم الأموات سوف يتعرفون علينا. وربما أمضينا الأيام الأولى في زيارة القبور أيضا. هذا إذا لم نعد نحن في التابوت.. عفوا. سامحونا! عندما نعود، إذا عدنا يوما ما، سوف نبتدئ بالوقوف على الأطلال، بزيارة قبور الأحبة الذين سافروا حتى دون أن يكلفوا أنفسهم عناء أن يخبرونا.. لقد خجلوا من فعلتهم فغادروا دون ضجيج أو إعلانات صاخبة. لقد أشفقوا علينا من تبليغ الخبر، ولكنهم سمحوا لنا بزيارة القبر. وهذا كل ما تبقى لنا بعد العودة. لم يبق إلا أن نضطجع إلى جانبهم بكل قامتنا ردحا من الدهر..

ثم يعكس الشاعر الآية فيعتبر أنه هو الميت بالنسبة لهم لأنه كان يعيش في الغربة البعيدة. من سيتذكرنا بعد كل هذه الغربة الطويلة؟ ألا يشبه المغترب الذي طالت غربته شخصا مات وما عاد؟ وتختتم القصيدة على النحو التالي:

ها أنذا عدت

ما زلت كما كنت

كأني مت

فما مرت في البعد علي حياة

قد يعرفني بعض الأموات.

وهذا صحيح. لأن الذين ولدوا بعد سفرنا، وما أكثرهم، لا يعرفوننا. وحدهم الذين ماتوا هم أصدقاؤنا.. من هنا إشكالية العودة. تعود إلى من؟ والى ماذا؟ لم يعد أحد حيا لكي تعود إليه.. وحتى الذين لم يموتوا ما عدنا قادرين على التعرف عليهم من جديد.. لقد أصبحوا أشخاصا آخرين.. الزمن، الزمن، آه من الزمن.. أنا شخصيا أفضل ألا أعود على الإطلاق.

إنها قصيدة جميلة من أولها إلى آخرها، ومنسابة انسيابا. قصيدة مليئة بالحنين اللانهائي. وبالتالي، فالديوان مليء بالحب في الواقع وليس بالموت على عكس ما يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى. حتى الموت مطروح كموضوع للحب.. من هنا النزعة الإنسانية العميقة التي تنضح بها هذه القصائد. لكن ما معنى الأدب، أي أدب كان، من دون نزعة إنسانية عميقة؟

لماذا لا أتوقف عند قصيدة «صبرية» الأخت الثانية للشاعر؟ هي أيضا غادرت كسهام. كيف سنشفى من رحيل أحبتنا الذين غابوا في غيابنا؟ وعلى من سنبكي أولا؟ أما قلت لكم بأن «اللاعودة» هي الأفضل؟ لكن صبرية لها مكانة خاصة في نفس الشاعر لأنها أنقذت قصائده البدائية، الأولى، من الموت. لقد أنقذت القصائد ولكنها لم تستطع أن تنقذ نفسها.لنستمع إليه:

هل تذكرين وأنت في قبرك الآن،

كيف أطفأت حريق القصائد، في ذلك الموقد القديم،

.....

انهضي لحظة وتأملي

ماذا فعل التراب بأصابعك.

ماذا فعل التراب؟ هلا نهضت قليلا لتعرفي

كيف أزهرت شجرة التراب على قبرك

ثم استطالت ثم ظللتك

من الأرض حتى السماء...

الشعر هو لغة عليا، لغة فوق اللغات. لا يكفي أن تكون لديك انفعالات هائجة أو رائعة لكي تكتب الشعر. ينبغي أيضا وبالدرجة الأولى أن تكون قادرا على التعبير عنها شعريا: أي رمزيا ومجازيا. الشعراء يتمايزون عن بعضهم البعض بمدى القدرة على اجتراح المجازات والصور الخارقة. وإلا لأصبح كل الناس شعراء. الله خلق الكون من عدم، والشعراء يخلقون المجازات الجديدة من عدم تقريبا. أو هكذا يخيل إلينا. من هنا ذلك البيت لبدوي الجبل:

نشارك الله جل الله قدرته ولا نضيق بها خلقا واتقانا

أعتقد أن هناك بعض المجازات المبتكرة أو الناجحة في هذا الديوان: أقصد المجازات غير المستعارة من آخرين. أقصد المجازات غير المكرورة أو غير المبتذلة من كثرة التكرار والاجترار. لنضرب عليها بعض الأمثلة:

أيها العابر الهائل الخطوات (قصيدة «وحشة»)

لا أعرف لماذا ذكرني هذا التعبير بكلمة مالارميه عن رامبو: هذا العابر الضخم!

ثم من نفس القصيدة لنتوقف عند هذه الصورة المجازية:

كلما يسقط الضوء

ينمو الغبار على النافذة

لن أشرح معاني هذه الصياغة المجازية لأنها كأي لغة شعرية مفتوحة على تعددية المعنى. الشعر لغة إيحائية لا تقريرية.

لكن لنتوقف هنا عند هذا المجاز الوارد في قصيدة: «في حانة إنجليزية»

حيث الكراسي تتمطى من نعاس،

حيث السرير

يفرج ساقيه ولا يراك

حيث النافذة

تفتح طول الليل عينيها

ولا تراك

أو هذا المجاز من قصيدة «يد الإله الأخيرة»

هل أمد يدي؟

ليد الإله الأخيرة وهي تمتد خضراء

في الأرض..

أو

ما أجمل العالم في منتصف الذاكرة (من قصيدة تحمل نفس العنوان)

أو

شاهقة أنت مثل المآذن

فكيف تسلقت كتفيك القصائد؟ (من قصيدة عابرة في شارع دمشقي)

الخ، الخ..

هنا يكمن الشعر أو قل الشحنات الشعرية بالضبط: إنه يكمن في المجازات «الشاذة» أو المستحيلة التي تجرأ عليها الشاعر. أقصد المجازات التي تشذ عن اللغة العادية أو تنتهك المنطق الشائع لكل اللغات.

يمكن أن أذكر أيضا ذلك المجاز الجميل: وتعثرت بالضوء في باريس، الذي كنت قد ذكرته سابقا..

يمكن أن أكثر من ضرب الأمثلة.. ولكن ما ذكرته يكفي للدلالة على أن الشعر العربي الحديث (وشعر قصيدة النثر بالذات أو حتى قصيدة التفعيلة) بحاجة ماسة إلى المجازات الابتكارية لكي يعوض عن غياب الأوزان والقوافي التي كانت تملأ السمع والبصر وتشبع كل حاجتنا إلى الشحنات الشعرية التي لا نستطيع العيش من دونها.