النعمي: ليس من مهمة النقد متابعة النتاجات الإبداعية

قال في حواره مع «الشرق الأوسط» إن النقاد ليسوا معلقين.. والنقد رفع من قدر الرواية

د. حسن النعمي («الشرق الأوسط»)
TT

يعتبر الناقد السعودي حسن النعمي أن النقد الأدبي والنقد الثقافي يمثلان مزيجا واحدا، معتبرا أن المشتركات بينهما كبيرة إلى درجة يصعب معها الفصل بينهما، كما رفض اعتبار الناقد المحلي «معلقا» على كل عمل سردي.

وقال النعمي لـ«الشرق الأوسط» في حوار في الرياض إن الغاية من النقد ليست المتابعة، بل الاستقراء وربط الإنتاج الروائي بروابط فنية وموضوعية تحدد سمات التجارب المشتركة. أما القراءات المفردة لروايات بعينها، فهي لا تشكل نقدا معرفيا. وحذر أن يكون الناقد أسيرا لضيق المنهج، «بل عليه تطويع منهجه وأدواته لاستيعاب المتغيرات في النص الروائي».

يعمل الدكتور النعمي، أستاذا للأدب المشارك، بكلية الآداب، جامعة الملك عبد العزيز في جدة، وبالإضافة لكونه ناقدا فهو أيضا قاص لديه عدد من الأعمال السردية.

وفيما يلي نص الحوار

* كانت لديك دراسة عن تحولات الرواية السعودية، بعنوان «الرواية السعودية: واقعها وتحولاتها»، ما أبرز التحولات التي شهدتها الرواية؟

- كتاب «الرواية السعودية: واقعها وتحولاتها» ينظر بشمولية لتاريخ الرواية السعودية وتحولاتها، حيث يتوقف في الفصل الأول عند تطور الرواية عبر أربع مراحل مع ربطها بالتحولات الخارجية. فالرواية ليست نصا معزولا، بل هي جزء من حراك، كما أن مواضيعها تولد من الديالكتيك بين الواقع والمثل العليا. وفي الفصل الثاني انصب الحديث عن أبرز المواضيع التي تناولتها الرواية.

وتناول الكتاب جملة من المواضيع، أبرزها ثلاثة: الآخر في الرواية، وجدل العلاقة بين القرية والمدينة في ضوء المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، وأخيرا موقع الرجل في الرواية النسائية، وهو حضور إشكالي قيد فضاء التعبير عند المرأة الكاتبة. أما الفصل الثالث، فقد كان وقفه على التطور الفني للرواية. ويُعد هذا الفصل قراءة للرواية من داخلها، من حيث استخدامات عناصر السرد، والتفاوت الذي يمكن أن يرصده الناقد.

وبطبيعة الحال، فإن التطور يقتضي التتبع التاريخي، وهو ما يجعل القارئ يعود لاستحضار مراحل تصنيف الرواية. وهنا يتأكد تلازم المعنى الخارجي لصناعة الرواية، وقدرة الكتاب على معرفة خصائص كل حقبة يعاصرها. بمعنى أن الاختراقات الفنية تظل محدودة لدى كتاب معدودين. أما البقية فهم تابعون لتأكيد الاختراقات الفنية، وتكثيف حضورها.

* لكن هذا الكتاب يتناول تجارب روائية محددة، هو لم يقرأ عموم التجربة الروائية، أليس كذلك؟

- نعم، وقد مُثلت تلك التجارب في الكتاب بروايات عبد العزيز مشري، ورجاء عالم، وعبده خال. فمن يتأمل تجربة هؤلاء الكتاب سيلمس التمثيل النسبي الذي بلوروه في رواياتهم. فالمشري كاتب اعتنى كثيرا بموضوع العلاقة الجدلية بين القرية والمدينة، بينما رجاء عالم اهتمت بصناعة أحداثها وعالمها القصصي عبر اللغة بمعناها الأسطوري والتراثي. أما عبده خال، فهو كاتب اقترب من الحس الشعبي، حتى في رواياته التي بدت نخبوية في طرحها مثل «الطين» و«ترمي بشرر».

ويمكن أن يضاف إلى هؤلاء الكتاب أسماء أخرى، ولعل أبرزهم يوسف المحيميد، وإصراره ككاتب على الوصول بالرواية إلى خارج فضائها العربي من خلال الترجمات المتعددة لرواياته. والمحيميد بعد تجربة خمس روايات يخرج من تجربة فنية ليقدم جديدا في التجربة الأخرى فهو كاتب يعتني برواياته، سواء على المستوى التقني أو على تناول المواضيع.

* بالنسبة للتراث السردي، ألا تجد أن النقاد أهملوا دراسته؟

- إنني من المشتغلين بقراءة التراث السردي، وهو تراث ثر يحتاج إلى استكشاف المواطن الخصبة في تشكيلاته المختلفة. وقد قدمت كثيرا من البحوث المتخصصة في هذا الجانب. منها: القرآن وخطاب السرد، الخفاء والتجلي في قصة يوسف، غواية السرد في المقامة البغدادية للحريري، وبلاغة المجادلة: دراسة في بلاغات النساء السردية.

وهذا الجانب، رغم بعده عن الرواية الحديثة، فإنه بالنسبة لي يجيب على أسئلة معرفية مهمة تتصل بالبعد الثقافي في حياتنا. فالمشكلات الإنسانية للإنسان العربي تبدو متوالدة، تحضر في أشكال مختلفة. لقد وجدت الاشتغال المعرفي على النصوص مدخلا مهما لفهم آلية التفكير، وأزمة الذات في مقابل الآخر، والعلاقة الإشكالية بين الرجل والمرأة.

* كيف ترى التواصل بين أجيال النقاد، ما الذي يميز جيلكم عمن سبقه؟

- أنا أشعر أن التواصل بين نقاد الرواية الجدد «إذا جاز هذا الاستخدام المراوغ» من أمثال محمد العباس، ومحمد الحرز، وعلي الشدوي، وسحمي الهاجري، ولمياء باعشن، ومعجب العدواني، أكثر بكثير من التواصل مع من سبقهم. فقد اختط هؤلاء النقاد مسالك جديدة تدفعهم إلى الاطلاع الواسع على المستحدثات النظرية والنقدية.

وهؤلاء النقاد وغيرهم يختلفون بالضرورة عمن سبقهم دون انفصال، من أمثال سعيد السريحي، ومعجب الزهراني، وسعد البازعي وغيرهم. يضاف إلى هؤلاء الأسماء نقاد من الحقل الأكاديمي من أمثال صالح زياد، وسلطان القحطاني، وعالي القرشي وغيرهم. وفي الحقيقة لست قلقا على النقد الروائي في المملكة. والأسماء التي ذكرتها هي مجرد نماذج لغيرها. لكن السؤال ما هو نوع الاختلاف؟ معظم النقاد الجدد تجاوزوا المقاربات البنيوية التي كانت تمثل منطلقات نقاد الثمانينات من أمثال الغذامي والسريحي، وسلكوا مسالك مختلفة سواء من منظورات التأويل أو نظرية الخطاب أو استيعاب أكبر للنظرية السردية.

* هناك اتهام بأن النقاد الجدد لا يمارسون نقدا حقيقيا، ولذلك فهم انتقائيون ويتعاطون بمجاملة مع أعمال كانت بحاجة إلى نقد حقيقي؟

- إذا كان المقصود الجودة النقدية، فالمعايير التي يقيم بها النقد يجب أن تكون واضحة في ذهنية من يقدم هذا الاتهام. أما إن كان الأمر يعني عدم المتابعة النقدية لكل رواية تنشر على حدة، فذلك صحيح إلى حد ما. لكن الغاية من النقد ليست المتابعة، بل الاستقراء وربط الإنتاج الروائي بروابط فنية وموضوعية تحدد سمات التجارب المشتركة. أما القراءات المفردة لروايات بعينها، فرغم أهمية هذا الأمر، لكنه لا يشكل نقدا معرفيا، لأن عزل التجارب ليس من مصلحة الكتاب. مثلا لأعرف منزلة الروائي أحمد الدويحي، أو يوسف المحيميد، أو ليلى الجهني، يجب أن أقرأهم في سياق جيلهم، وفي سياق المنتج الروائي المعاصر لهم. الناقد الذي يفصل بين التجارب لا يقدم دورا نقديا معرفيا يحلل التجارب، ويعيد تأسيس ملامحها وربطها بالسياقات التي تولدت عنها، ولكنه ناقد يشغل نفسه بما لا يجب.

* لديك رؤية في دور الناقد، ما هي العناصر التي تفترضها في الناقد؟

- أهم عنصر يجب توفره في النقاد عموما هو التطور المعرفي. فالناقد الذي يركن لأدواته المعرفية والمنهجية سيتوقف. فيجب على الناقد أن يكون قلقا ومتطلعا لمزيد من التجارب. ومثلما أن الكاتب قلق في كل رواية، فالناقد يجب أن يتوفر على ذات الحرص حتى يستطيع تقديم استكشافات معرفية من خلال التجارب الجديدة» كما يتوجب على الناقد أن لا يكون أسيرا لضيق المنهج، بل عليه تطويع منهجه وأدواته لاستيعاب المتغيرات في النص الروائي. وهذه من حيل النقاد المبدعين الذين لا يركنون للقوالب النقدية المدرسية الجاهزة التي تعمي النصوص أكثر مما تنيرها. بمعنى خلق روح من التعاون بين النص الروائي وناقده. فالغاية معرفية، وليست تقييمية في منظور النقد الجديد.

* ماذا أنجز النقد في السعودية، وما هو أثره على حركة الإبداع والثقافة؟

- إنجازات النقد تتمثل في تجاوز المنشور في الصحف إلى إصدار كتب متخصصة. وهذا أمر يضاف للمشهد الثقافي. غير أن أهم إنجاز للنقد هو التحول من التقييم المدرسي إلى النقد المعرفي، وقراءة الرواية في سياقات أكبر. فقد رفع النقد من قدرة الرواية ولم تعد نصا للتسلية، بل أصبحت نصا خصبا للتقاطعات الثقافية والاجتماعية. لقد شجع النقاد الكتاب خاصة كتاب ما بعد عام 2000 على الاقتراب أكثر من المسكوت عنه، واختراق قضايا ذات حساسية اجتماعية. ولم يكن التشجيع على سبيل النداء، بل على سبيل الاحتفاء بكل رواية تقترب وتلامس الهمّ الاجتماعي. وهو ما أوحى للكتاب بجدوى معالجة القضايا المسكوت عنها بجرأة أكبر. وهذا يعود لتوجهات النقاد الجدد نحو النقد المعرفي، وليس الجمالي المجرد.

* ما هو الرابط بين منهج النقد الأدبي والنقد الثقافي؟

- لا أتردد في القول إنه نقد واحد في النهاية، نقد من زاويتين مختلفتين. إضافة إلى ذلك، فإن النقد الثقافي، وهو مرحلة تالية للنقد الأدبي، قد استعار أدوات النقد الأدبي ومارس نقده من هذا المنظور. فالتحليل والمقاربة وربط النص بسياقاته الخارجية هو جزء من بعض أدوات المدارس النقدية باستثناء البنيوية.

النقد الثقافي يشتغل في منطقة الأثر أكثر من المؤثر. فهو معني بالآثار التي تحدثها النصوص سواء في مستواها الفصيح أو الشعبي. وأعتقد أن المشتركات بينهما كبيرة إلى درجة يصعب معها الفصل بينهما. وأعتقد أن البقاء للنقد الأدبي بصفته الأكاديمية والمعرفية، مع استفادة قصوى من النقد الثقافي. فلا تنافس بالمعنى الإعلامي بينهما، بل هما أدوات للاشتغال المعرفي يعززان الجوانب المعرفية في السياق الثقافي ولا يتنافران مطلقا.

* نلاحظ طفرة في الأعمال السردية السعودية، لكننا لا نجد أعمالا نقدية تواكبها. ألا تلاحظ ذلك؟

- أمر المواكبة نسبي قطعا. وإذا كان المقصود أن يتحول الناقد إلى معلق على كل رواية تصدر فهذا لم يحصل ولن يحصل. وإن حصل فذلك لا يعد نقدا بالمعنى المعرفي كما ذكرت. وهذا أمر يمكن للصحف أن تستكتب من يعلق على كل رواية تصدر. ولكن هل هذا هو النقد الذي ننشده؟ النقد كما ذكرت سياق معرفي يؤصل للحضور الروائي ويربط سياقات الرواية بالسياقات الأخرى. من هنا تصبح الرواية جزءا مهما في فهم البناء الاجتماعي، وليست مجرد زخرف هامشي.

أما انطباعية النقد فليست كلها فاسدة كما يعتقد، لأن المحرك الذاتي جزء من المنظور النقدي، كما أن المتابعات النقدية للأعمال المفردة يغلب عليها الجانب الانطباعي تبعا للسرعة في الإنجاز.