رشدي ملحس.. سيرة شخصية وسياسية من نابلس حتى الرياض

أحد مستشاري الملك عبد العزيز البارزين وأول من فهرس المخطوطات العربية

TT

يذكر، بإعجاب، للمملكة العربية السعودية، منذ مطلع قيامها قبل نحو قرن، أن مؤسسها قد عالج إخراجها من عزلتها الفكرية والاجتماعية والجغرافية، باصطفاء نخبة من المستشارين العرب في مختلف التخصصات، ليكونوا سندا لتحديث الدولة، ورفد الضعف التعليمي في الكوادر الوطنية الذين قام عليهم تأسيس الكيان.

وإذا ما استعرضنا قائمة هؤلاء المستشارين، فلا بد أن نشير بكثير من الاهتمام للصحافي والباحث والسياسي الفلسطيني رشدي مَلحَس الذي انضم شابا إلى مجموعة المستشارين (سنة 1926م) قادما من نابلس، وعمره لم يتجاوز الثلاثين عاما، وكان الملك عبد العزيز قد فرغ للتو من توحيد البلاد، ويستعد لدمجها في مملكة واحدة (1932م)، وكان ملحس قد سجل في شبابه المبكر نشاطا سياسيا تمثل في الانضمام إلى الحركات السرية لمقاومة الاحتلال الفرنسي وللاحتجاج على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وحقق خبرة صحافية تمثلت في إصدار جريدة «الاستقلال العربي» الدمشقية (1918م) وذلك منذ تخرجه في تخصص القانون والصحافة في إسطنبول (1914م).

بين أيدينا كتاب صدر هذا العام، واستعار المقال عنوانه، كانت «الشرق الأوسط» نشرت عرضا موسعا عنه في عددها (11735) بتاريخ (2011/1/14)، وهو كتاب يعد في الواقع من أوفى ما نشر عن سيرة هذه الشخصية الإعلامية والبحثية والسياسية قليلة الأضواء، وما تركه من أثر في أثناء إقامته الطويلة بالسعودية حتى وفاته في جدة (1959م)، وقد أتاح هذا الإصدار الشامل فرصة لي لإلقاء الضوء على دوره البليغ في تلك الفترة من مخاض تكوين الدولة السعودية الحديثة، مثنيا على جهد مؤلفه (قاسم بن خلف الرويس) في اختيار موضوعه وفي توظيف مراجعه وهوامشه وتعليقاته في 500 صفحة.

ولعل من الممكن القول إن رشدي ملحس يأتي - بين المستشارين - في المرتبة الثانية بعد فيلبي من حيث غزارة البحث العلمي في أثناء إقامتهما بالجزيرة العربية، مع الظن بأن انصرافه نحو الدراسات الجغرافية والتاريخية لم يظهر إلا بعد وصوله إلى الديار المقدسة، فنجده يقرن بين عمله الصحافي والسياسي مع اهتمام موسوعي بحثي وتأليفي بارز، وبتحقيق بعض كتب التراث، واهتمام بالمخطوطات والإفادة من مكتبات مكة المكرمة والمدينة المنورة، مما جعله على تواصل مع العلماء والبحاثة والأدباء السعوديين، من أمثال محمد بن بليهد (صاحب كتاب «صحيح الأخبار») وحمد الجاسر، وعبد القدوس الأنصاري، ومحمد سعيد عبد المقصود.. وغيرهم.

وقد أحسن المؤلف صنعا في تخصيص جزء كبير من كتابه لتراث ملحس، والتعريف بكتبه، ونشر كل مقالاته ذات الطابع البحثي التي ظهرت في مطبوعات عصره، خاصة في الجريدة السعودية الرسمية «أم القرى» التي تولى رئاسة تحريرها بعد يوسف ياسين، وفي مجلة «المنهل»، التي أصدرها عبد القدوس الأنصاري، وبلغت نحو مائة بحث في مواضيع مختلفة، حيث أراح المؤلف - بتضمينها في ملحق كتابه - الباحثين من عناء التنقيب في تلك الإصدارات القديمة نسبيا.

تتبع المؤلف زمنيا سيرة رشدي ملحس؛ بدءا بمرحلة حياته الدراسية والسياسية في إسطنبول، وبداية تعلقه بالصحافة من خلال مجلة «المنتدى العربي» التي أسسها أحمد عزت الأعظمي في الأستانة، وهي مرحلة استغرقت أربع سنوات من شبابه المبكر، ثم مرحلة انتقاله إلى الشام لينخرط في العمل السياسي مع انطلاقة الثورة العربية وانتهاء الحكم العثماني (1916م)، وليبدأ في ممارسة العمل الصحافي من خلال إصدار جريدة «الاستقلال العربي» بمشاركة معروف الأرناؤوط (1918م)، وهو مما أدى إلى الحكم عليه بالإعدام، ومن ثم الهروب إلى فلسطين، والنزوح إلى الحجاز بتشجيع من صديقيه محب الدين الخطيب ويوسف ياسين، وثيقي الصلة بالملك عبد العزيز.

وفي أثناء إقامته بالسعودية مدة ثلاثين عاما تقريبا، بدأ نشاطه بفترة قصيرة تولى فيها الإشراف على تحرير الجريدة الرسمية «أم القرى»، خلفا ليوسف ياسين (1928م) ولمدة أربعة أعوام، نشر خلالها جزءا من أبحاثه العلمية، في فترة لم يكن في البلاد سوى تلك الصحيفة، المخصصة أصلا للإعلام السياسي. وكما جذبه يوسف ياسين أحد المستشارين السياسيين، إلى تحرير «أم القرى»، فإنه يقر به للعمل معه في «الشعبة السياسية»، التي تضم في عضويتها كل المستشارين، من محليين وعرب وأجانب (تأسست عام 1930م تزامنا مع إنشاء وزارة الخارجية وعلى رأسها الأمير فيصل في مكة المكرمة)، فصار ملحس مساعدا لرئيس الشعبة السياسية (يوسف ياسين) ثم رئيسا لها، وفي الوقت نفسه، انضم إلى قائمة المستشارين السياسيين.

وتستمد هذه الشعبة أهميتها في كونها الذراع السياسية للملك عبد العزيز، حيث يلتقي يوميا مع مستشاريه، ويتبادل معهم وجهات نظرهم في الأوضاع الدولية، ويقومون بتحرير ما يتم التوصل إليه، ويحفظ فيها أرشيف متكامل للمعاهدات والاتفاقيات والمخاطبات السياسية.

كما يلحق بها وحدة للرصد الإعلامي، تتتبع ما تذيعه الإذاعات وتبثه وكالات الأنباء العالمية، وقد برزت أهمية هذه الشعبة مع حقيقة اهتمام الملك بعملها ومع وجود هذه النخبة المميزة من المستشارين، من أمثال: الأمير عبد الله بن عبد الرحمن، والأمير أحمد الثنيان وخالد السديري وإبراهيم المعمر وحمزة غوث، والدكتور عبد الله الدملوجي ورشيد عالي الكيلاني وفؤاد حمزة وخالد القرقني وخالد الحكيم وحافظ وهبة، وذلك بالإضافة إلى يوسف ياسين ورشدي ملحس.

أما الشق الثالث والأوسع من هذه السيرة، فقد ركز على ثقافته وأبحاثه، وهو الذي وصف بأنه دائرة معارف متحركة: أديب وجغرافي محقق، وعالم مؤرخ، وكاتب صحافي، وباحث متتبع، وأنه شغف بتاريخ الجزيرة العربية قديمها وحديثها وبجغرافيتها.

وكان من أهم المخطوطات التي حققها: كتاب «أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار» للأزرقي، وكتاب «جزيرة العرب» للأصمعي.

أما كتبه التي قام بتأليفها فهي ستة؛ ومنها: «سيرة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي» و«أخبار مكة» للأزرقي، و«معجم منازل الوحي»، كما قام بإجراء بحوث عدة؛ منها بحث عن المعادن، وآخر عن مسافات الطرق وعن تقويم الأوقات لعرض المملكة العربية السعودية، وذكر الكتاب أن رشدي ملحس كان أول من وضع تقويم أم القرى، الذي يعتمد عليه حاليا إلى درجة كبيرة في تحديد أوقات الصلاة وأهلة الصيام والحج. ويبدو أن لملحس مخطوطات لم تطبع بعد، وأنه كان سعى لجمع ما يظن أنه من الشعر العامي للملك عبد العزيز.

ويستشف من معلومات الكتاب أن رشدي ملحس لم يتزوج، وأن أبناء أخيه عبد الفتاح هم الذين ورثوا مقتنيات مكتبته من كتب وأوراق ومخطوطات.

وهكذا نرى من عرض سيرته أن اتجاهه نحو البحوث الجغرافية والتاريخية قد نافس مهامه الرسمية في رئاسة الشعبة السياسية والمشاركة في عمل المستشارين حتى قال عنه فيلبي: «لو أن الظروف كانت طبيعية لفضل رشدي ملحس أن يكرس كل حياته للأدب والدراسة».

وأخيرا جاء الكتاب في رصده لسيرة رشدي ملحس، بتسجيله للريادات التي حاز عليها؛ إذ عده من رواد تحقيق التراث في المملكة العربية السعودية، وأنه أول من حاول وضع منهج لفهرسة المخطوطات العربية، وأنه لفت الأنظار إلى موضوعات علمية لم تكن محل اهتمام الباحثين القدامى (كالمعادن والمناجم).

كما تسجل له ريادته في وضع معجم شامل للأماكن الجغرافية في الحجاز ونجد، ولمسافات الطرق بينها، وفي تحقيق منازل المعلقات في الشعر العربي، وفي أمور بحثية أخرى لا يسمح المقام بالإطالة فيها.