تقرير عن الديمقراطية

التاريخ العملي لإقامتها أو الإطاحة بها في هذا البلد أو ذاك من بلدان العالم

TT

كتاب «الديمقراطية» لتشارلز تيللي، يمكن اعتباره تاريخا للديمقراطية في العالم، حيث يتتبع المؤلف الأشكال، والأوقات التي أقيمت فيها الديمقراطية أو أطيح بها، ويقدم لنا تشارلز تيللي، وهو أستاذ علم الاجتماع في عدد من الجامعات الأميركية عرضا تقييميا وتفصيليا للمعايير التي يمكن من خلالها الحكم على أي نظام سياسي بمدى اقترابه أو ابتعاده عن الديمقراطية في ممارسته السياسية.

وأبرز ما في هذا الكتاب هو أنه يولي الجانب التطبيقي الأهمية التي يوليها للجانب النظري، والمقصود هنا هو أن المؤلف يقدم الفكرة (فكرة الديمقراطية) من خلال دراسة التاريخ العملي لإقامتها، أو الإطاحة بها، في هذا البلد أو ذاك من بلدان العالم، بما يرسم خريطة جغرافية لتوزع وتنقل الديمقراطية، إلى جانب الخريطة السياسية التي تبين الكيفيات التي تقام بها الديمقراطية أو يتم الإطاحة بها، ثم يرفق عرضه العميق هذا محاولة الإجابة عن السؤال التالي: إذا كانت الديمقراطية خيرا، فكيف لنا أن نحدد ونشرح وقعها على حياة الجماعة؟

ولهذا، فإنه يقدم لنا منذ البداية الإطار الذي يتضمن قائمة بالحقوق السياسية والحريات المدنية التي لا يمكن لأي نظام سياسي، مهما كانت طبيعته، أن يدعي تطبيق الديمقراطية، دون أن يطبق هذه المعايير جميعا، وهي تتعلق بانتخاب الرئيس، وممثلي الهيئات التشريعية، وقوانين الانتخابات، وحريتها، وضمان انتظام الشعب في أحزاب أو مجموعات متنافسة، وهل يوجد صوت للمعارضة؟ ومن الذي يحكم البلد؛ العسكر أم الحزب الشمولي؟ وهل تتمتع الأقليات بالحق في تقرير المصير، أو الحكم الذاتي، أو المشاركة؟ وهل يوفر النظام وسائل للتشاور مع الشعب؟

أما في نطاق الحريات المدنية، فإنه يسأل: هل الشعب يتمتع بحرية التجمع والتظاهر والمناقشات العامة؟ وهل توجد حرية تشكيل المنظمات السياسية أو شبه السياسية؟ وهل توجد نقابات عمالية أو فلاحية مستقلة؟ هل يطبق حكم القانون في القضايا المدنية والجزائية؟ وهل توجد حماية من الاضطهاد السياسي والسجن والنفي والتعذيب؟ أو هل توجد إمكانية لمناقشات خاصة وعلنية وحرة؟ إلى آخر ما هنالك من الحريات السياسية والحقوق المدنية. وقد كان ضروريا، كما يمكن أن يتبين القارئ، تقديم هذه الوجبة من الشروط لمواجهة الادعاءات التي تقدمها العديد من الأنظمة على أنها تطبق الديمقراطية، وكدليل على التناقضات الواسعة بين المبادئ المعلنة والممارسات اليومية، خاصة في ما يتعلق بالدساتير التي يرى المؤلف أنها قد تكون وسائل للتضليل السياسي. وعلى هذا، فإن ما يعنيه الكتاب بـ«الديمقراطية» هو مدى ما يقدمه نظام الحكم من المشاورات الواسعة والمتساوية والمحمية وذات الالتزام المتبادل مع المواطنين في نطاق تصرفاته. ولكن كيف يمكن أن تحدث الديمقراطية؟ يرى تشارلز تيللي أن هذا يتطلب إحداث تغييرات في المجالات التالية: شبكات الثقة، وعدم المساواة الطبقية، ومراكز السلطة، أو مراكز القوى التي تملك أدوات القمع، إلى جانب امتلاكها ما يشبه الحكم الذاتي.

ما شبكات الثقة؟ في معظم الحقب التاريخية كان الناس يدرأون عن أنفسهم خطر السلطة، بتشكيل روابط خاصة بهم تحميهم من احتمال قيام الحكم السياسي بالاستيلاء على مصادرهم الثمينة، ويمكن وضع مجموعات الأقارب، والطوائف الدينية، ودوائر التسليف، وروابط الحرفيين المنعزلة، من بين هذه الشبكات. وفي الغالب، فإن عزلة هذه الشبكات عن أنظمة الحكم قد تشكل عقبة أمام الديمقراطية، لأنها تعوق التزام الأعضاء بالمشاريع الجماعية الديمقراطية. غير أن الأمر لا يقتصر على موقف أعضاء تلك الشبكات، بل يجب أن يمرر من خلال موقف أنظمة الحكم من مشاركة شبكات الثقة في العملية السياسية؛ إذ ينبغي أن يكون التعاون مبنيا على أساس الالتزام وليس على أساس الإكراه والقمع. وهنا يتتبع الكاتب الحالات التاريخية لانعزال شبكات الثقة عن السياسة العامة، وهي تحدث في الأوقات التي لا يعود فيه لدى المواطنين سوى حوافز قليلة للمشاركة في الحياة السياسية، وهو ما رأيناه لدى كثير من شبكات الثقة في العالم العربي في العقود الماضية، حين أبعدت نفسها، أو تم إبعادها عن المشاركة في الفعل السياسي لبلدانها. ربما كانت إحدى دوافع الثورات العربية هي النضال من أجل إعادة الاندماج في السياسة العامة للبلاد، علما بأنه كلما ارتفعت نسبة المشاركة السياسية للهيئات التي تمثل المجتمع المدني، وهي من شبكات الثقة، ازدادت فرص الشروط اللازمة لإقامة الديمقراطية، في حال ابتعاد نظام الحكم عن الإكراه والقمع، لكن دون أن يكون ذلك شرطا كافيا لإقامة الديمقراطية، لأن بعض الأنظمة الفاشية تمكنت من دمج كثير من شبكات الثقة في كيانها السياسي دون أن تفيد الديمقراطية من ذلك.

في المقابل، ما المشكلات التي تطرحها اللامساواة أمام إقامة الديمقراطية؟ وهنا يمكن أن نفرق بين أكثر من نمط من أنماط اللامساواة في العرق والجنس والطبقة والدين، وفي سياق الكلام عن تأثير ذلك على الديمقراطية، فإن من المؤكد أن اللامساواة الطبقية هي الأكثر فعالية في مدى اقتراب أو ابتعاد نظام الحكم عن الديمقراطية، وقد كانت أسباب اللامساواة مثل ملكية الأرض ووسائل الإنتاج والحيوانات ووسائل القمع، من العوامل الحاسمة في الأسس المباشرة لنوعية أنظمة الحكم، وفي معظم حقب التاريخ قاوم الحكام ومؤيدوهم حل أي من السلطات التي كانت تعزز اللامساواة الطبقية، كما أن آخر شيء يتخلى عنه هؤلاء الحكام هو سيطرتهم على القوات المسلحة والشرطة السرية والجيوش الخاصة، وهي الوسائل الكفيلة ببقاء الحكم من جهة، والقدرة على الإطاحة بالديمقراطية (في حال قيامها) أو منعها.

وبالانتقال إلى مراكز القوى التي تملك أدوات القمع، فإن وجودها في أي بلد يعني أنها قادرة على احتواء مصادر الثروة وأنشطة السكان، ضمن نظام الحكم، مما يؤثر كثيرا في إمكانية توجه أي نظام إلى إدارة مشاورات واسعة ومتساوية ومحمية وذات التزام متبادل مع المواطنين كافة. وبالحد الذي تبقى مراكز السلطة، خاصة تلك التي تتحكم في وسائل الإكراه والإرغام، بعيدة ومنعزلة عن سياسة البلاد العامة، فإن إقامة الديمقراطية تبقى صعبة أو مستحيلة. وثمة مسارات معقدة للغاية يمكن للنظام السياسي أن يسلكها في هذا المضمار، على غرار ما فعل فلاديمير بوتين في روسيا، حين وجد أن من غير الممكن الاستمرار في عملية بناء الدولة أصلا، دون الشروع في عملية استئصال مراكز القوى التي تشكلت بقوة أيام سلفه يلتسين. والغريب أن تشارلز تيللي يقول بأن إخضاع هذه المراكز يخضع الدولة بمجموعها للسياسة، ويسهل نفوذ الشعب إليها، كما يعمل على زيادة العلاقات ذات الالتزام المتبادل بين المواطن والدولة اتساعا ومساواة.

وهناك، على كل حال، ثلاث طرق للحد من نفوذ القوى ذات الاستقلال الذاتي، أبرزها توسيع المشاركة السياسية، والمساواة في الوصول إلى المصادر السياسية التي لا تخص الدولة، مثل وسائل الإعلام، ومنع سلطات القمع التعسفي من ممارسة الإكراه السياسي. كل هذا يمكن أن يضمن نشوء ما يسميه تيللي المساومات بين الدولة والمواطنين، حيث يمكن أن ينجم عن ذلك تسهيل تأثير الشعب على السياسة العامة.