«الجهاد المسيحي» يترعرع في الثقافة الأميركية

كاردينال يعود إلى الولايات المتحدة مبشرا بـ«العقيدة التحررية»

القس ارنستو كاردينال.. أحد قادة «العقيدة التحررية»
TT

استعمال لفظة «جهاد» في اليوميات الأميركية، بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) وحربي العراق وأفغانستان، بات أمرا مألوفا، لكن عندما تقترن الكلمة بالجهاد المسيحي وبالفكر الديني الكنسي فإن الأمر يحتاج إلى نظرة متمعنة. هل ثمة ثورة مبيتة في أميركا؟

الشهر الماضي، عاد إلى أميركا، وسط إثارة إعلامية وثقافية، القس أرنستو كاردينال، من نيكاراغوا، الذي بلغ عمره تسعين سنة تقريبا. قبل أربعين سنة، كان الرجل قائدا من قادة العقيدة التحررية (ليبريشن ثيولوجي) التي اجتاحت نيكاراغوا ودولا أخرى في أميركا اللاتينية.

قبل أربعين سنة، كانت دول كثيرة في أميركا اللاتينية تحكمها حكومات عسكرية أو شبه عسكرية، ديكتاتورية وفاسدة. ورفع عدد من رجال الدين المسيحيين شعار «الثورة المسيحية» ضد هذه الحكومات، وكانوا كلهم مسيحيين من الكاثوليك (دين الأغلبية هناك).

في ذلك الوقت، لم يكن الأميركيون يعرفون أي شيء عن الجهاد الإسلامي. لكن، يبدو أنهم، بعد هجوم 11 سبتمبر سنة 2001، وبعد أن أعلنوا ما تسمى «الحرب ضد الإرهاب»، وبعد حربي أفغانستان والعراق والتدخل في دول إسلامية كثيرة، وقتل كثير من المسلمين، عرفوا بعض الشيء عن الجهاد الإسلامي. لهذا قال طلاب جامعيون أثناء محاضرة ألقاها كاردينال عن «العقيدة التحررية» إنها قد تسمى «الجهاد المسيحي».

في جامعة ليولا (ولاية ماريلاند) ألقى كاردينال محاضرته باللغة الإسبانية (كاردينال هو اسمه. وهو لم يصل إلى مرتبة كاردينال في الكنيسة، لأن الكنيسة فصلته بسبب نشاطاته الثورية، وبأوامر من بابا الفاتيكان).

بدأ كاردينال محاضرته قائلا «كانت ثورة جميلة». وهتف بعض الحاضرين: «يعيش كاردينال، تعيش الثورة، تعيش العقيدة التحررية».

الأميركيون الذين هتفوا كانوا شبابا وشابات، طلبة وطالبات في الجامعة. وواضح أنهم يميلون نحو أفكار ثورية. طبعا، هم وأمثالهم أقلية قليلة، في الجامعة، وفي كل الولايات المتحدة، وذلك لأن الفكر الثوري فكر أقلي جدا في الثقافة الأميركية.

ينقسم الفكر الثوري الأميركي إلى قسمين: الفكر الثوري المسيحي، والفكر الثوري العلماني. وينقسم معارضو الفكر الثوري المسيحي (وهم الأغلبية الكبيرة) إلى قسمين: أولا: كاثوليك يعارضونه بسبب تفسير مختلف لتعاليم عيسى المسيح.

ثانيا: غير كاثوليك وغير مسيحيين، محافظين وتقليديين، ويعارضون الثورة، أي ثورة.

من هو كاردينال؟ ولد أرنستو كاردينال من أسرة شبه أرستقراطية في نيكاراغوا ثم جاء إلى الولايات المتحدة للدراسة في مدرسة ثانوية خاصة بأولاد الأغنياء. ولأن عائلته كانت غنية، صرفت عليه ليدرس لفترات قصيرة في جامعات في سويسرا وإيطاليا وإسبانيا.

في سنة 1950، عاد إلى وطنه، لكنه عاد ثوريا واهتم بقضايا العمال والمزارعين.

وفي سنة 1954 اشترك في حركة عسكرية ومدنية ضد حكومة الرئيس انستاسيو سوموزا الديكتاتورية، وعندما فشلت المحاولة، جاء مرة أخرى إلى الولايات المتحدة. هذه المرة، لم يذهب إلى جامعة راقية، ولكن إلى دير كاثوليكي في غاثسماني (ولاية كنتاكي). قضى في الدير خمس سنوات، ونال شهادات في علم اللاهوت، وتخصص في دور الدين في الدفاع عن المظلومين، وخاصة دور عيسى المسيح ابن مريم. في سنة 1960، عاد إلى نيكاراغوا، وعين قسيسا في كنيسة كاثوليكية. وهكذا، تعلم الثورة المسيحية في قلعة الرأسمالية في العالم، وعاد إلى وطنه ليقودها، لكنه، تعلم أيضا الفكر الشيوعي، وبطريقة أو بأخرى، ربط بين الفكرين الشيوعي والمسيحي.

في ذلك الوقت، كان يحكم نيكاراغوا انستاسيو سوموزا، الذي خلف ابن عمه. على أي حال، كان الاثنان ديكتاتوريين وفاسدين.

كان ثوار «ساندنيستا» سيطروا على أجزاء من نيكاراغوا يقودهم الشيوعي دانيال أورتيغا. في سنة 1977، انضم كاردينال إلى منظمة «ساندنيستا»، وتحالف مع أورتيغا الشيوعي، وصار المتحدث الصحافي باسم المنظمة.

وفي سنة 1979، احتل ثوار «ساندنيستا» العاصمة ماناقوا، وهرب الرئيس سوموزا إلى الولايات المتحدة بطائرته الخاصة. لكن، عندما هبطت الطائرة في مطار ميامي (ولاية فلوريدا)، رفضت الشرطة الأميركية السماح له بالدخول، حسب تعليمات من الرئيس كارتر. واضطر إلى السفر إلى باراغواي (كان يحكمها صديقه الديكتاتور ستروسر). في السنة التالية، تعقبه ثوار «ساندنيستا» وقتلوه.

في سنة 1979، بعد سقوط الرئيس سوموزا، وفي أول وزارة لثوار «ساندنيستا» التي ترأسها الشيوعي أورتيغا، صار كاردينال وزيرا للثقافة. لكن، أصدر بابا الفاتيكان يوحنا بولس بيانا انتقد كاردينال لسببين: أولا: لأنه «خلط بين الدين والسياسة». ثانيا: لأن (العقيدة التحررية) «تخالف تعاليم المسيح».

وفي سنة 1983، زار البابا نيكاراغوا (أغلبية سكانها كاثوليك) وكان واضحا أنه سيواجه كاردينال. لهذا، في مطار العاصمة ماناغوا، عندما نزل البابا من الطائرة، كان كاردينال في استقباله مع وزراء آخرين. وعندما جاء دوره لتحية البابا، ركع ورفع يديه نحو البابا، وطلب منه تعميده والصلاة له. لكن، في صورة تاريخية، رفض البابا، ورفع يده اليمني وأشار إليه بسبابته، وأنبّه، وطلب منه أن يستقيل من الوزارة لأنه «يخالف تعاليم المسيح». ورد كاردينال: «تعاليم المسيح تدين سوموزا» (الرئيس الديكتاتور الذي أسقطته الثورة).

لكن، بعد عشر سنوات، استقال كاردينال من حكومة «ساندنيستا» بعد أن اختلف مع الرئيس أورتيغا. قال كاردينال إنه استقال لأن أورتيغا صار «شيوعيا ديكتاتورا». وسمى ثورته «ثورة حرامية».

ما هي العقيدة التحررية؟ كتبت عن «العقيدة التحررية» الصحافية الأميركية باني ليرنوكس، في ثلاثة كتب:

أولا: «صراخ الشعوب: نضال حقوق الإنسان في أميركا اللاتينية».

ثانيا: «شعب الله: نضال المسيحيين الكاثوليك في العالم».

ثالثا: «البنوك وحلفاؤهم: المافيا وتجار المخدرات والحكام الديكتاتوريون والسياسيون وبابا الفاتيكان».

باني صحافية أميركية عملت مراسلة لإذاعة «صوت أميركا» في أكثر من عشر دول في أميركا اللاتينية لأكثر من عشرين سنة. كتبت: «العقيدة التحررية عقيدة مسيحية سياسية تقول إن تعاليم عيسى المسيح تتركز على تحرير الإنسان من الظلم. إنها تفسر تعاليم المسيح بأنها نضال من أجل الفقراء والمرضى والمحتاجين، وصغار السن جدا، وكبار السن جدا».

ونفى الكتاب أن تكون هذه النظرية شيوعية، وسأل: «كيف يمكن الجمع بين عيسى المسيح وكارل ماركس؟ بين الإنجيل وكتاب رأس المال؟»، كل ما في الأمر هو أن نضال شعوب العالم الثالث ضد الاستعمار الغربي وضد الرأسمالية الغربية استفاد من تجربتين: التجربة الشيوعية - الاشتراكية والتجربة المسيحية. أضاف الكتاب: لكن «تعمد غربيون استعماريون ورأسماليون تشويه سمعة الكنيسة الكاثوليكية (التي ظلت في قيادة العقيدة التحررية) بربطها بالشيوعية». وظهر هذا التشويه واضحا في أميركا اللاتينية في منتصف القرن الماضي، عندما تمرد قساوسة مسيحيون ضد حكام ديكتاتوريين حلفاء للولايات المتحدة.

ناقشت ندوة جامعة لويولا (ولاية ماريلاند) المواضيع الآتية:

أولا: هل طلب بابا الفاتيكان من كاردينال نيكاراغوا الفصل بين الدين والسياسة؟ أو طلب منه الفصل بين الدين والشيوعية. ألم يكن البابا في ذلك الوقت يرفع راية التمرد ضد الشيوعية، وضد سيطرة الاتحاد السوفياتي على دول شرق أوروبا، وخاصة بولندا (موطن البابا)؟

ثانيا: من مفارقات التاريخ خلال الثلاثين سنة الماضية أن أورتيغا، الشيوعي الذي قاد ثورة نيكاراغوا، تحول من الشيوعية إلى الاشتراكية، ثم زار الفاتيكان واعتذر للبابا، ثم أجرى انتخابات حرة ونزيهة. (خسر ثلاث مرات، لكنه، فاز آخر مرة في سنة 2006، ولا يزال رئيسا، وقد بلغ عمره سبعين سنة).

ثالثا: في الوقت الحاضر، تنمو «العقيدة التحررية» ليس في أميركا اللاتينية (التي تحولت، حقيقة، إلى دول ديمقراطية، تجري فيها انتخابات حرة ونزيهة) ولكن في الولايات المتحدة نفسها.

لعبت الصحافية الأميركية باني ليرنوكس دورا كبيرا في نقل «العقيدة التحررية» من أميركا اللاتينية إلى الولايات المتحدة، بعد أن تركت العمل مراسلة لإذاعة «صوت أميركا» في دول أميركا اللاتينية، عادت إلى وطنها. وتخصصت في كتابة كتب ونشر آراء في صحف أميركية يسارية، مثل مجلة «نيشن»، وصحف مسيحية، مثل «كاثوليك ريبورتر». في كتابها «البنوك وحلفاؤهم» ربطت بين العقيدة التحررية والرأسمالية الأميركية. بدأت بالقول إن عيسى المسيح «طرد تجار المال من المعبد، وقلب موائدهم». وقالت «لو عاد المسيح اليوم، لما صدق أن نسبة واحد في المائة من الأميركيين تملك نسبة خمسة وتسعين في المائة من الثروة الأميركية». وحسب رأيها فإن على المسيحيين الأميركيين، وخاصة الأغنياء منهم، أن يتذكروا أن المسيح قال: «اتركوا أموالكم وعائلاتكم ومزارعكم، واتبعوني». وبالتالي فالمسيح ليس ضد الرأسمالية لأنها «حرية اقتصادية، ولا تقل عن الحرية الفكرية»، لكنه ضد استغلالها لصالح الأغنياء وضد الفقراء. وتضيف: «يعلمنا الإنجيل أن نعمل، والعمل يكون سبب ثروة أكبر. والثروة الأكبر يجب أن تكون سبب ضرائب أكثر».

تعمدت الصحافية أن تدافع عن النظام الرأسمالي الأميركي، رغم أنها تنتقد الظلم الذي صار جزءا منه. وهي فعلت ذلك لأنها كانت اتهمت بأنها شيوعية ويسارية وملحدة (رغم أنها ولدت وتربت كاثوليكية). لكن، لم يقلل ذلك من نقدها.

قبل جامعة لويولا، زار كاردينال جامعة اكسافير (ولاية أوهايو). وهناك، أيضا، جرى نقاش حول «العقيدة التحررية» وتصدى له عدد أكبر من المعارضين.

تتركز المعارضة على النحو التالي:

أولا: يجب عدم تفسير الإنجيل «تفسيرات سياسية». مثل القول بأن عيسى المسيح كان «اشتراكيا» أو «تقدميا».

ثانيا: استعمال كلمات مثل «نضال الطبقة العاملة» يعطي النظرية صورة علمانية. وكان يجب استعمال كلمات دينية، مثل «أمل» و«خلاص» و«حب».

ثالثا: لم تنطلق النظرية من شعوب العالم الثالث ولكن من مثقفين غربيين صدروها إلى شعوب العالم الثالث، ولهذا صارت «إمبريالية ثقافية».

رابعا: بعد فشل الشيوعية، يريد هؤلاء خلق بديل في صورة «العقيدة التحررية».

لكن، لاحظ طالب في جامعة أكسافير أن بابا الفاتيكان أصدر بيانا في الشهر الماضي عن دور المسيحية في المحافظة على نظافة البيئة. وهو البيان الذي جعل صحافيين يسمون البابا «البابا الأخضر» بسبب حرصه الجديد على نظافة البيئة ومواجهة التلوث.

وقال الطالب الجامعي: «نظافة البيئة جزء من العقيدة التحررية. لكن، لماذا يتهرب البابا من دعوة المسيحيين للجهاد لرفع الظلم عن المظلومين». استعمل الطالب كلمة «جهاد» التي صارت تقريبا جزءا من التعبير الأميركي اليومي، بسبب الاهتمام بالإسلام والمسلمين بعد هجوم 11 سبتمبر سنة 2001.

-