بشار الأسد ليس عاجزا عن الإصلاح فحسب بل لا يريده أيضا

كتاب صدر قبل ثلاث سنوات متوقعا ما يحدث الآن في سوريا

TT

سبقت رؤية الباحث «كارستين ويلاند» الأوضاع الكامنة في سوريا، فكشف المستقبل محللا ما سيؤول إليه الوضع قبل حدوثه بنحو ثلاث سنوات، رغم التماسك الظاهري والنظام الحديدي والالتفاف الشعبي والنجاح الإعلامي الذي تضخه المرئيات والجرائد والجدران والصور والشعارات التي تؤكد قيادة الأسد إلى الأبد.

كما نجح في اختراق السور الإعلامي في عام 2009 لكشف الرماد عن جمر مشتعل تغطيه قشرة زائفة خطابية لا تحتاج لتأجيجها سوى مناسبة، فكان التمرد العربي في أكثر من دولة الشرارة التي حققت التوقعات. فرؤية الكتاب تصلح ورقة عمل متفهمة لأكثر بلدان العالم غموضا.

بداية، أعلن بشار الأسد صراحة، وبخلاف أي قائد عربي آخر، معارضته لحرب العراق، مما منحه شعبية في الشارع، وقاده في الآن نفسه إلى مواجهة مفتوحة مع الولايات المتحدة. ولفترة من الوقت بدا أن الولايات المتحدة سوف تغزو أو تدمر النظام، أو تشرع في نظام قاتل من العقوبات. وجاء اغتيال الشهيد رفيق الحريري ليجعل الأمور أسوأ، وذلك بتوجيه أصابع الاتهام إلى دمشق. وأجبرت القوات السورية على الانسحاب من لبنان بعدما بقيت فيه ما يقارب ثلاثة عقود. ويواجه بشار الأسد اليوم التحدي الأكبر بين أجهزته والمعارضة المتزايدة. ويعتبر مصير أكثر من 20 مليونا من الشعب السوري متعلقا بقرار التنحي أو الإصلاح، الفوضى والعنف أو التعددية والتقدم.

يرى المؤلف أن سوريا فقدت معظم نفوذها بعد موت حافظ الأسد عام 2000، مما دفعها إلى مواقف إشكالية سيكون من الصعب إصلاحها:

1–على الرغم من وجهة نظر جزء كبير من النخب السياسية والاجتماعية، عززت سوريا علاقاتها الاستراتيجية مع إيران، ونظام ولاية الفقيه الشيعي الذي لا يوجد أي مشترك بينه وبين المذهب البعثي العلماني.

2–احتياج سوريا لحزب الله في مجابهة وسيطة مع إسرائيل، مما جعل العلاقة ثلاثية وغير الأدوار. فيما احتاج حزب الله إلى سوريا في زمن حافظ الأسد. اليوم سوريا التي أصبحت أضعف بحاجة أكبر إلى حزب الله الذي أصبح أقوى.

3–التعاون مع موسكو، حليفتها السابقة في الحرب الباردة. ومع تصلب العلاقات بين روسيا والغرب فإن هذا التوازن لمصالح سوريا الوطنية بين روسيا والغرب يمكن أن يكون له تأثير سلبي، باعتبار موقع سوريا الجغرافي الاستراتيجي في النقاش حول دروع الدفاع الصاروخية الأميركية في أوروبا والإجراءات المضادة لها.

4–لا يستطيع النظام السوري في أوقاته العصيبة تحمل المعارك على جبهات عدة في الوقت نفسه.

5–ردود فعل الشعب بفئاته المختلفة وضعت النظام السوري في حالة من التوتر والإرباك والضعف، مما دفع النظام إلى وضع بعض أفضل مثقفيه والناشطين العلمانيين خلف القضبان أو دفعهم للخروج من البلاد، وبذلك ليس هناك مجتمع مدني له وجهة نظر علمانية معتدلة قادر على أن يعبر عنها، كما تعكس محاولات الإصلاح نظرة جامدة لعصرنة الإدارة والاقتصاد لأنها تستند إلى هيكل سياسي جامد. فالنتيجة النهائية ستعتمد على الفكر السياسي وليس على التوصيات التكنوقراطية للحكومة.

ومن المتغيرات الرئيسية، بالطبع، علاقة سوريا مع إسرائيل، والغرب عموما. إن استمرار الإشاعات والتضاربات والجدال حول المفاوضات سيبقي الرهانات والتوترات مفتوحة، فمن الصعب تخيل أي مستجدات حول هذه القضايا كمرتفعات الجولان، أو ضمان الأمن، أو طلب تقديم فهم أمن سوريا استنكار الإرهاب. إن كلا من الحكومتين الإسرائيلية والسورية في الوقت الحاضر، ولأسباب مختلفة، ضعيفة ومهددة نسبيا من الخصوم المحليين، فيما محادثات السلام بحاجة إلى حكومات قوية تستطيع أن تفي بوعودها وتقنع شعبها بقبول القرارات الصعبة.

كانت أولوية حماية النظام من التيارات المعارضة لحزب البعث، سواء أكانوا من العلمانيين أو الإسلاميين المعتدلين أو الإسلامويين، هي مشكلة السلطة فانشغلت عن المشكلات القديمة المتراكمة والمشكلات المستجدة كقضية اللاجئين العراقيين وما بذله المجتمع السوري من جهد لإسكان هؤلاء وتقديم الرعاية الصحية والغذائية والتعليم المجاني لهم، كما أن اتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء تفاقم في الوقت الذي نضبت فيه احتياطيات النفط السورية، مما استنزف الميزانية العامة وضيق فرص الإعانات المالية.

يصف المؤلف الحركة السياسية في سوريا اليوم بأنها «طبخة بحص» قد تضاف إليها التوابل لصنع رائحة لذيذة، لكن الحجارة تبقى حجارة. وقبل أن يقدم الحلول يستعرض علاقات الداخل السوري بقراءة تاريخ المستقبل بالإضاءة إلى تاريخ الأفكار، هذا التاريخ الذي يحصل في هذه اللحظات الحاسمة يستطيع أن يخدم دليلا لأحداث قادمة، لأن هناك أكثر من مجرد أحجار يجري طبخها.

يقوم الحكم في سوريا على التوازن السلبي، ويواجه نظام البعث أزمة متنامية في مشروعيته. أما الأسباب فهي بنيوية في طبيعتها وتتعلق بالاقتصاد والسياسات الداخلية التي سبقت حرب العراق بوقت طويل، ولم يكن الضغط الدولي هو أول ما أدى إلى الكشف عنها.

في يونيو (حزيران) عام 2000 أعلن بشار بوضوح «لا يمكننا تطبيق ديمقراطية الآخرين على أنفسنا، يجب أن تكون لدينا تجربتنا الديمقراطية الخاصة بنا وتكون استجابة إلى حاجات مجتمعنا ومتطلبات واقعنا». إن هذا يعني ببساطة احتفاظ حزب البعث بالقيادة السياسية. كما أجاب لاحقا بالقول «يجب أن يكون هناك اتصال بين البرنامج السياسي والبنية الاجتماعية». مما يعني التحرر الاقتصادي من دون الإصلاح السياسي الداخلي، أو الخبز قبل الحرية. ويعلق ميشال كيلو على ذلك بالقول «إن بشار ليس عاجزا عن التصرف فحسب، بل إنه لا يريد ذلك أيضا. وكل ما يريده إصلاح السلطة فقط وليس النظام».

لقد جرب بشار الكثير من السيناريوهات بهدف الخروج من مأزق الإصلاح من دون أن يدمر حكمه لكنه فشل. ففي أحسن الأحوال لو جرت انتخابات حرة تحت إشراف الأمم المتحدة فإنه سيعترف بأن السنوات الثلاثين التي مضت كانت غير شرعية، وأن أعضاء حزب البعث في مجلس الشعب سيهبطون بالتأكيد إلى ما دون الخمسين في المائة.. وهذا ما يفلت المارد من القمقم.

لقد حاول بشار إصلاح المؤسسات وطرح مفاهيم جديدة للإدارة، وبعدما ثبت أن ذلك أصعب بكثير مما كان يتوقع، راح يركز على إصلاح الحزب، وكانت هذه هي الخطوة الأخيرة التي تبقيه في السلطة لكنها تقصيه عن أن يكون جزءا من الحل. وقد عبرت عن ذلك بثينة شعبان بالقول «عندما تكون المؤسسة برمتها فاسدة فلا يمكنك فعل شيء حيالها، عليك أن تعيد بناء المؤسسة. وبالتأكيد إعادة البناء تتطلب تنظيف المكان المزمع البناء عليه».

لا يزال بشار يقدم نفسه على أنه الرجل الطيب بين الأشرار، لكن مراسيمه تميل إلى جمع الغبار وليس إلى التطبيق، وحقيقة أنه يضرب رأسه في حائط آلة الحكومة التي تضر بصدقيته. يشبه بشار إشارات المرور في هذه البلاد، فاستخدام الأبواق ممنوع من حيث المبدأ، لكن الضجيج في كل مكان.

إن الأفعال تفقد قيمتها عندما تنجز في اللحظة الأخيرة أو تحت الضغط. والمؤلف على يقين بأن بشار لا يملك أجندة بل تقوده الأحداث إلى حال لا يمكنه تجنبه. أما مدى قدرة بشار على طرح هذه الملفات بنفسه للمداولة، فهذا سر قد يقود السيد الرئيس إلى خسارة كل شيء وإلى خسارة سوريا.

وفي باب التوازن السلبي يتطرق المؤلف إلى القنبلة الاقتصادية الموقوتة، فيتهم الحكومة بشراء رجال الأعمال وشرائح من الطبقة الوسطى بصفتهما بديلا للإصلاح. وهو بالضبط السبب الكامن وراء حاجة الحكم إلى العراق ولبنان كمصدر للأموال.

كان الأسد الأب يطبق سياسة خارجية ذكية تضمن الموارد المالية، بينما يحاول الابن متابعته في خطاه، لكن قدم الابن ليست بمقاس قدم الأب. لقد تلقت سوريا أموالا من الدول العربية عام 1967 وعام 1973 وعام 1976 وعام 1982. كما أعفي إعفاء شاملا من ديونه للاتحاد السوفياتي لقاء تأييده للاحتلال الروسي لأفغانستان. وفي حرب الخليج 1991 قبل مساعدة مالية من دول الخليج ومن الكويت بشكل رئيسي لدعمه قوات التحالف ضد العراق، وتدفقت الأموال من بغداد بعد شهر عسل غير متوقع بعد عام 1997. ويختم المؤلف «إن أفضل منتج للتصدير لدى سوريا هو سياستها الخارجية». وهذا ما يفسر إمكانية أن يعمل الموظف السوري سبعا وثلاثين دقيقة في اليوم الواحد فقط، ويتمتع مع ذلك برعاية صحية مجانية ونظام تعليم مجاني. إن نظام الرفاه السياسي هو الأداة الرئيسية للتهدئة الاجتماعية. وتمثل إعادة التوزيع وليس الإنتاج، أولوية الحكومة السورية. إن نظام الفساد هو نظام سياسي قائم على الولاء.

استراتيجية الباب الخلفي في السياسة الخارجية قللت الحاجة للضغط الاقتصادي لتنفيذ إصلاحات مؤلمة. لكنها أفرزت نظام المحسوبية حيث تذهب العقود المهمة إلى كبرى العائلات الموالية للنظام، أو إلى أعضاء في عشيرة الرئيس. ومن الأمثلة البارزة على ذلك تراخيص شبكات الهاتف النقال، ووكالات السيارات الأجنبية التي يحتكرها رامي مخلوف ابن خال الرئيس الأسد إلى جانب ميناء اللاذقية، وعددا كبيرا من الفنادق والمدارس والمعامل الرئيسية والمتاجر المعفاة من الضرائب حتى بلغ دخله اليومي مليون دولار أميركي.

إن أولئك المدعوين «متعهدون» مرتبطون كليا بالنظام، وتنتهي الأموال في جيوبهم وليس في دورة اقتصادية يعاد ضخها في استثمارات جديدة. لذا فإن رجال الأعمال يبقون محافظين سياسيا ويسعون للحصول على حماية النظام.

يعم الفساد كل مناحي الحياة العامة، إذ يعمل نظام المحسوبية البعثي بمثابة إطار عمل عريض يعيث في ظله الفساد. وتعد الأجور المنخفضة للموظفين الحكوميين سببا آخر. ويمكن للطلاب شراء درجاتهم في الجامعات، مما يحبط الكثير من الشباب. وتوظيف النخبة مشوّه على نحو يجعل الكثير من الشباب السوري لا يرى المستقبل إلا في الخارج.

كانت لبشار صورة السيد النظيف عند تسلمه منصبه، وقد وضع محاربة الفساد على أجندته، لكن المقاومة المتأصلة في النظام أثبتت أنها أقوى بكثير. فبعد حرب العراق دُعي مجموعة من الخبراء الفرنسيين إلى سوريا لتفحص النظام ووضع اقتراحات لتحسينه. لقد كان ثمة أمل ضعيف بأن تثمر هذه المحاولة. لكنه تم تعيين رئيس مجلس إدارة معهد التنمية الإدارية الذي عليه أن يطبق التوصيات، أحد أكثر المسؤولين فسادا في الدولة السورية ويحمل شهادة مزورة ولديه سجل حافل بالاختلاسات.

لم تعد تنفع البهارات والمطيبات في طبخة البحص، فعلى بشار أن يضع على النار شيئا يؤكل.