من يملك حق إعادة إنتاج الحياة الثقافية؟

عجزت الدول والمؤسسات عن وضع القوانين الثقافية الحامية

«الملكية الفكرية بين التنمية والسوق» المؤلف: حسين قاسم دياب.- دار «نلسن» - بيروت 2011.
TT

أدى نظام العولمة إلى الاختراق الثقافي محل الصراع الآيديولوجي، وأصبح النظام الرأسمالي في خدمة البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، وخضع كل نتاج لمنطق العرض والطلب ونظام السوق، فلا عجب في ظل هذا المناخ أن نرى الملكية الفكرية سلعة تهمش إن لم تخدم السوق، أو تتعرض للقرصنة بمختلف الأساليب التكنولوجية إذا كانت ذات فائدة اقتصادية، ويوضع مالكوها في صراع يائس في وجه نظام عالمي يخلخل الثقافات، فكيف بالأفراد؟

انطلاقا من هذه القناعة عالج حسين قاسم دياب الموضوع في كتابه «الملكية الفكرية بين التنمية والسوق.. الثقافة نموذجا»، من محاور عدة في إطار دراسة منهجية تاريخية وقانونية واجتماعية تفتح الطريق لمفاهيم تؤثر على علاقتنا بالعلم والثقافة والاقتصاد والمجتمع وخصوصا التنمية الثقافية.

مشكلة الملكية الفكرية كما يرى المؤلف تُختصر بأحقية إعادة إنتاج الحياة الثقافية، لمن؟ فما هو اجتماعي يكشف عنه المشروع التنموي، فالموضوع الاجتماعي حديث، ينتج عنه مفاهيم كثيرة، من أهمها التنمية الاجتماعية والتنمية البشرية وحديثا التنمية الثقافية، حيث إن هذه الأخيرة تغير الواقع من الأسفل إلى الأعلى، وهذه المفاهيم نتجت عن حاجة وبعد سجال، لأن كل سجال على موضوع يخلق مفاهيمه، لذا فالحقوق كمفهوم محكوم عليها بالسيطرة منذ ولادتها، إلا أن آلية استبدال الحق المادي بالحق المعنوي، وإلقاء الإنتاج الذهني في سلة رأس المال الثقافي لجناح العولمة بعد تجويفه من مضامينه ليضفي خدمة للمركز وضربة للأطراف، أثار مسألة لاقت اهتمام الباحثين في هذا المضمار، لأن اقتحام آليات السوق للفكر، وإخضاع هذه الملكية للتداول بعد أن كانت عصية على السوق بسبب تكوينها، لكن لمشكلة الموقع الرجراج الذي يحتل مكانته في الملكية الفكرية، حيث في حمايتها تتحقق فعاليتها التنموية كاملة، وفي نشرها على الكافة تضعف حماية مبتكرها، كان لا بد من إيجاد مفهوم متوسط وهو مفهوم الاعتبار بحسب المواضعات، أي يتم مقتضى الشيء بحسب أهدافه ومواضعاته، وهذا ما يراه المؤلف الطريق الأقوم للاستفادة والحماية.

فالحق في سبيل تأمين العيش هو حق من حقوق الإنسان، أما مفهوم التكاملية بين الحقوق المعنوية والمادية فله منافذ كثيرة عبر المفهوم القانوني والتشريعات والحماية من القرصنة، وحماية المجتمع المدني وحتى النقابات والجمعيات، على غرار ما هو حاصل في الغرب، حيث الفرد، سواء كان كاتبا أم غير كاتب، سبيل عيشه مؤمن ومحمي بشرعة حقوق الإنسان، وحقوقه مصانة بموجب القوانين والتشريعات والجمعيات.

الواقع أن ثقافتنا لم تكن مستهدفة في مرحلة الدولة الراعية، بل كان هناك تناغم بين الدولة والسياسة والآلية الاجتماعية، ذلك أن الأهداف الاختراقية لم تكن واضحة المعالم بعد، الأمر الذي كان يخدم الثقافة القومية. أما التغيير فقد حصل ببزوغ فجر العولمة الذي حمل المخاطر التي تهدد منظومتنا التراثية والمعاصرة من خلال البث الفضائي والإعلام والإنترنت، وخصوصا في ظل عدم الالتزام بالمواثيق الدولية وفي ظل الانتهاكات المتواصلة من جانب الدول الكبرى للمواثيق الدولية المتعلقة بكيفية التوفيق بين الحقوق الثقافية والاتصالية.

إن الشعوب العربية أول الواقعين في الحقل الاختراقي وفي دائرة الاستهلاك، وذلك لأنهم لم يخبروا بالدرجة الكافية الإعلام الإبهاري، ولم يتخذوا منه بُعدا ناقدا. وقد عجزت نخبنا ومؤسساتنا أن تكون مشاركة في وضع القوانين الثقافية الحامية، بل باتت أرضا خصبة للتبعية ومركز استقطاب للثقافة الوافدة، حيث أصبح من الصعب الفصل بين مشاريع السيطرة العسكرية والاقتصادية، والاختراق الثقافي. فهذه الآيديولوجية رسخت التفوق ومفهوم التبعية الفكرية، وتحولت التكنولوجيا المتقدمة إلى نمط استهلاكي وثقافتنا إلى التفتيت وعرضة لهيمنة آليات العولمة الثقافية التي تضرب كل طريق يؤدي إلى تراكم معارفنا تكامليا أو وضعيا أو تطوريا كما حصل لاقتصادنا وسياستنا وثقافتنا.

فالاقتصاد معرفة، والمعرفة اقتصاد، وكلاهما ثقافة اجتماعية في ظل دولة تحمي مجتمعها ولا تدعه عرضة للتفتيت والتبعية. والاقتصاد بمقاييسه ومؤشراته العلمية يجب إعادة تحديده بأهداف وغايات نطمح إليها، بزيادة بند الثقافة كمؤشر أساسي للمؤشرات الاقتصادية، وهذا ما يظهر فجوة لا يمكن تجاهلها بين الطموح والواقع.

على مستوى الطموح: هناك هدف نبتغيه لاقتصاد أصبح النهوض به ضرورة ملحة، عبر اقتصاد معرفي وعلمي، وتطور تكنولوجي يكون أساسا لتطور القطاعات الأخرى.

وعلى مستوى الواقع: هناك واقع أليم نتشربه، وهو استعمار ثقافي نتلقف منه كل منتج غربي غير آبهين لتأثيراته ومتجاهلين أهدافه، ومحافظين على دور المراوحة.

هذا التجاذب بين قطبي الطموح والواقع يدفعنا لإنتاج تصورات تتراوح بين إفراط في التفاؤل لتحقيق الطموح، وسوداوية مفتوحة على مستقبل ضبابي تخلقه المراوحة وتغذيه التبعية.

أما الإطار العملاني الذي يتطلب توضيحه تفصيلا للمشكلة من خلال مقاربة القوانين نصا وإجراء، ودور الدولة في الحماية والتشريع، ودور هيئات المجتمع المدني وأصحاب الحقوق، وتعدد المفاهيم الأكثر جوهرية بارتباطها بالموضوع. يجد المؤلف أن التنمية الثقافية شرط أساسي للتنمية الشاملة، فالمرء لا يستطيع أن يتصور نموذجا للتنمية خارج النموذج الذي يستقي مقوماته من آليات الحضارة الحديثة، الأمر الذي يجعل من التنمية عملية تستهدف الانخراط الفاعل في هذه الحضارة. وبعبارة أخرى لا يمكن فصل التنمية عن التحديث، لنؤكد أن التنمية البشرية لا تكتسب معناها الحقيقي إلا إذا نظر إليها من خلال بُعدها الثقافي الذي يجعل منها محصلة التداخل والتكامل بين التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية، أي بين ما هو أصيل متجدد وما هو حديث يتأصل في كل مجالات الحياة.

يعود المؤلف إلى تاريخ التشريعات الدولية للملكية الفكرية منذ اتفاقية «الويبو» عام 1886، وهي المنظمة التي تهدف إلى تقديم المساعدة من أجل ضمان حماية حقوق المبدعين في جميع أنحاء العالم والاعتراف بالمخترعين والمؤلفين ومكافآتهم على إبداعاتهم. والتي أصبحت إحدى الوكالات الدولية المتخصصة التابعة للأمم المتحدة ونقل مقرها إلى جنيف سنة 1960 لكي تكون على مقربة من سائر المنظمات الدولية. وقد أبرم اتفاق بينها وبين منظمة التجارة العالمية سنة 1996 وقعت عليه 171 دولة بسطت بموجبه الدور المنوط بها وأثبتت أهمية حقوق الملكية الفكرية. إلا أن تباين الآراء حول الملكية الفكرية أبقى الوضع الاجتهادي والجدلي مفتوحا، فالرأي القائل بأن هذه الملكية تشبه ملكية العقار ويتمتع صاحب الحق الفكري بنفس الحقوق المقررة لملكية العقار، إلا أن نقل ملكية العمل الذهني يبقى مقيدا بما تفرضه المصلحة الجماعية لأن استهلاكه يؤثر على وعي وثقافة المجتمع.

وقد ذهب رأي ثانٍ للقول بأن الأشياء غير المادية كالآثار الأدبية والفنية أشياء غير مادية، ولا تخضع للحس، وإنما يدركها الإنسان بالتصور، وبالتالي فالمتلقي يشارك بها وهو من يعطيها قيمتها. إذا لا يحق التصرف بها لأنها لا تعتبر في عداد المنقول والمحسوس.

وقد نادى رأي ثالث باعتبار حق المؤلف وحق ملكية الفكرية حق ملكية من نوع خاص، لأن الحقوق المعنوية تشترك جميعا في أمور ثلاثة:

- أنها لا تخضع لتغير الثمن عند زيادة العرض أو الطلب.

- أن هذا النتاج يكون ثمرة عمل صاحب الحق الذهني بحيث ينسب إليه بصورة خالصة لأنه يمثل جزءا من كينونته.

- أنها تخول صاحبها احتكار استغلال ذلك الإنتاج بالانتفاع أو التصرف دون سواه لخصوصية هذا الإنتاج.

حالت التباينات في وجهات النظر والاجتهادات دون التوصل إلى تشريع متفق عليه حول الملكية الفكرية، فإعطاء المؤلف سلطة واسعة في استغلال المصنف لمنفعته الخاصة يؤدي إلى عدم الالتفات إلى الصالح العام، والمعضلة تكمن في تأمين معيشة المؤلف الذي قد يحجم عن العطاء، ولعل هذا التوازن لن يتحقق إلا عن طريق الخدمة الاجتماعية أو الأجر الاجتماعي ومساعي الدولة في تفعيلهما.

كما ترى «الويبو» أن قوانينها لحماية الملكية الفكرية تشجع الحركة الفكرية والعلمية والفنية، وما يترتب عليها من فوائد تؤثر على تطور المجتمعات وتقدمها. لذلك ميزت بين الحقوق المادية والحقوق الأدبية، فالمادية هي بمثابة حق غير دائم يخضع لأحكام القانون ويسري عليها صفات الملكية للأشياء المادية رغم أنه ليس له وجود مادي. أما الأدبي فهو حق مؤبد لمنتجه ولا يتحدد بمدد لانقضائه، فهو ليس بمقابل وليس دون مقابل.

يفرد المؤلف فصلا لحق الملكية في العالم العربي، فيرى أن هذه الملكية تمر بظروف سيئة نتيجة لازدياد نشاط القرصنة، إذ وصلت نسبة الكتب الورقية المزورة إلى 70% من حجم التعامل، بينما تبلغ النسبة 90% في حالة البرامج الإلكترونية المستنسخة، الأمر الذي يشكل جريمة في حق الناشرين والمنتجين من أصحاب الحقوق. وقد يؤدي الوضع إلى تراجع حركة دور النشر وشركات الإنتاج، وهذا ما يدفع إلى هروب المبدعين والمبتكرين إلى الغرب بحثا عن مناخ من الحرية واحترام الحقوق والحماية. فحماية الحق مسألة أخلاقية، لا يمكن لأكثر القوانين تشددا فرضها على مجتمع لا يؤمن بها، ولم تترسخ في ثقافته بوصفها حقا طبيعيا، فيدرج مشروعيتها في عداد السرقة والاعتداء عليها ومن ثم إدخالها أو تحويلها إلى أرقام لتشكل جزءا من السوق التجارية. فالتزوير والقرصنة يؤديان إلى حرمان الدخل القومي من إمكانياته التنافسية وموارده التي هي ثروة قومية، وإلى هبوط الإنتاج وجودته لأن الغرض الربحي سوف يدفع إلى الصدارة الأقل جودة لتحقيق الربح السريع.

يخلص المؤلف إلى القول إن هناك تجافيا بين القانون وتطبيقه، وبين الدولة ومجتمعها، حيث نجد انهيارا أو تهاويا لنظام ثقافي يؤسس لتآكل شروط بقائه. وقوانينه تفترش أدراج ناظميها من ناحية، ومن ناحية أخرى نجد اختراقات ثقافية تسيطر على الإدراكات وتمتلك قوة المعرفة وتجعلها بنائية تجدد نفسها، لا عقائدية تدور على نفسها في فراغ. فالتشريعات حول الملكية الفكرية كثيرة وقد تلونت وتعدلت بحسب أهداف ناظميها، فظلت بعيدة عن المفهوم الصحيح، لأن الفكر لا يحمي فكرا آخر، والثقافة لا تحمي ثقافة أخرى، بل تسعى لتهميشها والسيطرة عليها.

المطلوب كثير، لكن الأهم عدم التهاون بذاكرتنا الثقافية، واعتبارها ركيزة أساسية يؤسس عليها، فلا طلل نبكيه ولا تطور نتجاهله. واستثمار الرأسمال الثقافي بإدخال الثقافة في رأس المال الجمعي العام ومحاربة الثقافة الجارفة بالتثاقف، وإعلان عيوب الإعلام، وتطبيق قوانين الحماية المادية لمن سرق حقه المادي، والحماية المعنوية لمن سرق إنتاجه الذهني فتكتمل بذلك حماية الملكية الفكرية ويصبح هذا الكتاب من التاريخ ولزوم ما لا يلزم.