الثقافة الفرنسية بعيون أميركية

على ضوء قضية السياسي الفرنسي والخادمة الأفريقية

TT

فضيحة اعتداء المدير السابق لصندوق النقد الدولي، دومينيك ستروس - كان على خادمة أفريقية، وما أثارته من ضجيج في أميركا واستهجان واستغراب في فرنسا من الموقف الأميركي، فتحت الباب على مصراعيه لتلمس الفروق بين ثقافتين مختلفتين سواء في النظرة إلى الأخلاق أو في النظر إلى جوهر الحياة. الثقافة الفرنسية.. كيف يراها الأميركيون، هذا هو موضوع التحقيق التالي.

في الأسبوع الماضي، خف الضغط على السياسي الفرنسي الاشتراكي والمرشح لرئاسة الجمهورية والمدير السابق لصندوق النقد الدولي، دومينيك ستروس - كان، لأن الخادمة الأفريقية المسلمة، المهاجرة من غينيا، التي كانت قالت إنه اعتدى عليها جنسيا في فندق في نيويورك، كذبت في أوراق الهجرة إلى الولايات المتحدة، وكذبت في أشياء أخرى.

وهذا مما سيقلل من ثقة المحكمة في أقوالها، وربما سيضطر الاتهام إلى إسقاط كل القضية.

لكن، سواء أدين ستروس - كان أو لم يُدَن، فإن الحادث أجبره على الاستقالة من منصبه. والرجل على أي حال سيئ السمعة، حتى وسط الفرنسيات، لأن صحافية فرنسية رفعت قضية ضده في الأسبوع الماضي، قالت فيها إنه حاول أيضا الاعتداء عليها جنسيا. وهز الحادث سمعة الرجل، كما هز العلاقات الثقافية بين البلدين، أو، في الحقيقة، كشف أن هذه العلاقات فيها اختلافات وتناقضات.

لا يكاد الأميركيون يصدقون أن الفرنسيين غاضبون عليهم لأنهم اعتقلوا رجلا اعتدى جنسيا على امرأة (بصرف النظر عن وظيفته ووظيفتها، ولونه ولونها، ودينه ودينها).

قال الفرنسي أوليفييه بوكزيك إن ما فعله الرجل «مبتذل، لكنه شيء خاص.. لماذا الضجة؟ ليست هناك محرمات هنا. هذا رجل يحب النساء.. لماذا يشوه الأميركيون سمعته؟»، في الجانب الآخر، علق الأميركي هنري ماساجان، مستغربا: «لا أصدق هؤلاء الفرنسيين. يعتدي رجل على امرأة، ويقولون إنه يحب النساء؟!» وكتبت مجلة «نيشن» الليبرالية: «حتى الصحافيون الفرنسيون يبدو أنهم مثل السياسيين والمشاهير لا يكشفون أعمالا هي في الحقيقة جرائم. حتى زوجة ستروس - كان، وهي صحافية مشهورة في فرنسا، قالت إن زوجها سياسي، ولهذا، لا بد أن يفتن النساء».

وأشارت المجلة إلى أن الرئيس السابق، فرانسوا ميتران، احتفظ علنا بعشيقة، وكان له منها طفل، دون أن يكتب الصحافيون الفرنسيون عن ذلك، وقالت المجلة: «الصحافيون الفرنسيون متأخرون عن الصحافيين الأميركيين بنصف قرن. في سنة 1962، كان الرئيس كنيدي يحضر عشيقاته إلى البيت الأبيض في غياب زوجته جاكلين، وكانت صحيفة (واشنطن بوست) تعلم، لكنها لم تكتب حرفا عنه في ذلك الوقت».

صادف الحديث عن التناقضات الثقافية بين الأميركيين والفرنسيين صدور كتاب «لاسيدكسن (الإغراء): كيف يلعب الفرنسيون لعبة الحياة»، كتبته الين سكيولينو، التي كانت لعشر سنوات مديرة مكتب صحيفة «نيويورك تايمز» في باريس، وصارت مؤخرا أستاذة صحافة في جامعة برنستون (ولاية نيوجيرسي).

كتبت في مقدمة الكتاب، الذي صدر قبل فضيحة الفرنسي ستروس - كان، لكن فيه إشارات كثيرة له ولمغامراته: «الأميركيون لا يفهمون فن الإغراء الفرنسي، وذلك لأن كلمة (سيدكشن) (إغراء) في اللغة الفرنسية ليست كلمة سلبية، بل إيجابية. معناها السحر، والإقناع، والجاذبية. وعبارة (لا أوبريتون سيدكشن)، التي يستعملها الدبلوماسيون معناها (هجوم جذاب)، من دولة نحو دولة أخرى لإغرائها وكسبها، لكن من دون معان جنسية».

وجاء في الكتاب أن «المتعة، ممارستها وتوفيرها، هي أسلوب حياة بالنسبة للفرنسيين. ولقرون ظل الفرنسيون يبتكرون أشياء ووسائل لمتعة الطعام والشراب والملبس والرائحة والنظر. قبل نصف قرن تقريبا، عندما اشتهرت الممثلة السينمائية الفرنسية بريجيت باردو، قال الرئيس الفرنسي شارل ديغول: إنها من صادرات فرنسا، وأهم من سيارات (رينو)»، وأضاف الكتاب: «تصف كلمة (إغراء) طريقة الحياة في فرنسا. فالجميع، من سياسيين إلى أطباء أسنان، يحرصون على جذب الناس نحوهم، وهم يريدون تحقيق أهدافهم في الحياة. يريدون تهدئة الشخص، وكسبه، وطمأنته. هذه فلسفة تجعل الحياة سهلة وممتعة. إنها السعادة على الطريقة الفرنسية».

وأضاف الكتاب: «الجنس، طبعا، جزء من هذا الإغراء الفرنسي. يغازل الفرنسي بطريقة عفوية وسهلة، وكأنه لا يفكر في الموضوع، أو كأنها حاسة سابعة. في المكاتب الحكومية، المزاح الجنسي شيء عادي. لكن، هذا لا تقبله الأميركية، ولا يجرؤ عليه الأميركي».

ما السعادة على الطريقة الأميركية؟ قالت مجلة «نيشن» الأميركية الليبرالية في موضوع لا صلة له بالأحداث الأخيرة: «تركنا أوروبا قبل أربعمائة سنة هروبا من سيطرة الملوك والأرستقراطيين على عامة الناس. وليس سرا أن الذي يسيطر هو الذي يفسر. لهذا، تفسير الملوك والأرستقراطيين للسعادة لا بد أن يكون مختلفا جدا عن تفسير عامة الناس». وأضافت المجلة: «سعادتنا في حريتنا، وفرديتنا، وسلامتنا، وقوانيننا، وعملنا الجاد، ومرحنا الجاد. في نفس الوقت، نحن نبحث دائما عن قيم أخلاقية أعلى. وكلما عدنا إلى منازلنا بعد العمل والمرح، يسأل كل واحد منا نفسه قبل النوم: هل نحن أخلاقيون؟ هل أخطأت في حق إنسان؟ هل أخطأ إنسان في حقي؟».

وعلى الرغم من أن كتاب «الإغراء»، فسر فلسفة الحياة الفرنسية، ودافع عنها إلى حد ما، فإنه انتقدها. وقال: «التركيز على السعادة والمتعة، جعل الفرنسيين وكأنهم لا يحبون العمل الجاد، ويفضلون الإجازات (متوسط أيام الإجازة في فرنسا ضعفها في أميركا). استراتيجية السعادة يمكن أن تكون سحرية، لكنها يمكن أن تدل على عدم الكفاءة، وعدم الجدية، وعدم الوضوح».

ربما النكتة الأميركية عن الفرنسيين الأكثر انتشارا هي: «لماذا لم يهاجر الفرنسيون إلى أميركا؟ لأننا منعنا الألمان من أن يهاجروا إلى فرنسا». وتشير هذه الطرفة إلى أنه، خلال الحرب العالمية الثانية (قبل أكثر من نصف قرن) غزت ألمانيا فرنسا، وحشدت الولايات المتحدة قواتها وطردت الألمان. وهناك نكتة أميركية تشير إلى أن الفرنسيين أعلنوا مبادئ الثورة، لكنهم لم يعرفوا كيف ينظمونها، وانتظروا حتى قامت الثورة الأميركية سنة 1776، أي أنهم انتظروا ثلاثة عشر عاما.

لكن، كما قال دونالد موريسون، مراسل مجلة «تايم» الأميركية في باريس، ومؤلف كتاب «ديث أوف فرنش كالشر» (موت الثقافة الفرنسية)، إن النكات لم تأت من فراغ، وإن بين الأميركيين والفرنسيين ما يجمعهم، وبينهم ما يفرقهم. وكتب في الكتاب: «لكل واحد من البلدين ثورة وديمقراطية، إنهما توأمان في مسيرة الحضارة الغربية. الأميركيون مدينون لأفكار التنوير الفرنسية، والفرنسيون مدينون لقوة أميركا العسكرية»، وأشار إلى شخصيتين؛ من جانب: الجنرال الفرنسي غلبيرت لافاييت الذي سافر إلى أميركا، واشترك مع الجنرال جورج واشنطن في قيادة الثورة الأميركية (ضد بريطانيا، عدوة فرنسا التاريخية). ثم عاد إلى فرنسا، واشترك في قيادة الثورة الفرنسية (الميدان الرئيسي في واشنطن أمام البيت الأبيض اسمه ميدان لافاييت).

من جانب آخر: الصحافي الأميركي توماس بين (من الآباء المؤسسين) الذي قضى أكثر من عشر سنوات في فرنسا، وتأثر بالأفكار الاشتراكية، وكتب كتاب «كومون سينس» (إحساس عام)، ويعتبر أبا «الفكر الثوري الأميركي» (الذي لا يبدو أن له أنصارا هذه الأيام).

بعد نجاح الثورتين ظهرت شخصيات أخرى، منها توماس جيفرسون (من الآباء المؤسسين) كاتب الدستور الأميركي، الذي كان أول سفير للولايات المتحدة لدى فرنسا، وبعدها صار وزير خارجية، ثم فاز برئاسة الجمهورية. ولم يخف إعجابه بالثقافة الفرنسية. وكتب: «لكل رجل وطنان: وطنه وفرنسا»، وهناك الكسيس ديتوكفيل، مفكر فرنسي جاء إلى أميركا بعد أكثر من نصف قرن من الثورة الفرنسية (سنة 1856). وتجول في ولايات كثيرة، وكتب كتاب «الديمقراطية في أميركا»، الذي كان دليلا للثورة الفرنسية لتسير على خطى الثورة الأميركية.

وكأن ديتوكفيل يكتب بعد مائة وخمسين سنة، لأن واحدة من أهم ملاحظاته عن الأميركيين هو أنهم «جادون»: في العمل، وفي المرح، وفي تطبيق قيم أخلاقية أعلى. وكتب: «أحسست أن الأميركي، عكس الفرنسي، وربما بسبب تراث الأباطرة والملوك والأرستقراطيين في فرنسا، يكاد الإنسان يعبد فرديته واستقلاليته وكرامته. يكاد يرى الله في أعماقه»، وكتب أنه، على الرغم من أن الثورة الفرنسية كانت أكثر دموية من الثورة الأميركية، توجد اختلافات مثل:

أولا: يفضل الفرنسي الاعتماد على الحكومة، ويفضل الأميركي الاستقلالية، حتى ضد الحكومة.

ثانيا: يبدو الفرنسي وكأنه يخفى شيئا، ويفضل الأميركي الوضوح والمباشرة.

ثالثا: تبدو فرنسا دولة مركزية وبيروقراطية متشددة، وتبدو أميركا دولة واسعة ومشتتة وربما ممزقة.

لكن، من جانب آخر، لاحظ ديتوكفيل، أن الفرنسيين لا يعتبرون سجل الأميركيين نظيفا أخلاقيا، ويشيرون إلى تجارة وامتلاك الرقيق (التي كانت جزءا من الدستور الأميركي، ولم تكن جزءا من أي دستور في أوروبا). وعلى الرغم من إعجاب ديتوكفيل بما سماها «أميركان براكتيكاليتي» (أنهم عمليون)، انتقد تجارة الرقيق، خاصة أنه زار أميركا قبل إعلان الرئيس لينكولن تحرير الزنوج.

وربما هروبا من تجارة الرقيق، ومن التفرقة العنصرية التي استمرت بعد عتق الزنوج، وربما إعجابا بأفكار التنوير الفرنسية، كانت هناك هجرة عكسية. هاجر أميركيون مشاهير إلى فرنسا، منهم جيمس كوبر، الذي كتب رواية «آخر الموهيكان» (عن سوء معاملة الهنود الحمر)، هاريات ستوي، التي كتبت رواية «كوخ العم توم» (عن سوء معاملة الزنوج). صامويل مورس، الذي رسم لوحات عن الجنرال الفرنسي لافاييت. وفي وقت لاحق اكتشف التلغراف، وشفرة «مورس».

عن هؤلاء وآخرين، صدر كتاب «غريت جيرني» (الهجرة العظيمة) للأميركي ديفيد ماكلولين، وكتب فيه: «من جانب، أعجب الأميركيون بأفكار التنوير، واللوحات الفنية الرائعة. وأيضا نالوا نصيبهم من المتعة الفرنسية (فرنسيات، ونبيذا، وجبنا). ومن جانب آخر، استمتع الفرنسيون بتعليم الأميركيين ارتداء بدلات أنيقة، وإعداد أطعمة متحضرة، وأكلها في جو رومانسي».

ولا يقدر الأميركيون (وهم لا يزالون يحسون بذنوب تجارة الرقيق) على إنكار أن الفرنسيين لم يستعبدوا الزنوج. وعلى الرغم من نقد سياسة «اسيميليشن» (استيعاب) في المستعمرات الفرنسية في أفريقيا، لم ينقل الفرنسيون الزنوج في سفن ليعملوا في مزارع فرنسا.

في منتصف القرن التاسع عشر، خلال ازدهار تجارة الرقيق في أميركا، زار باريس السيناتور شارلز سامنار. ولم يصدق عندما شاهد طلابا أفارقة يدرسون في جامعات فرنسية. وعاد إلى أميركا، وصار من قادة الحملة ضد تجارة الرقيق.