عبد الفتاح كيليطو.. خورخي لويس بورخيس من طراز آخر

بين القراءة الكلاسيكية والحداثة

TT

ليس من الغريب أو المفاجئ أن يحس قارئ نصوص الباحث المغربي عبد الفتاح كيليطو بروح الأرجنتيني الكبير خورخي لويس بورخيس تحوم في بعض الأمكنة. ليس المقصود أن ثمة علاقة مباشرة بين الرجلين، ولكن من يقرأ نصوص الاثنين لا بد أن يكتشف نوعا من التشابه أو القرابة. وإذا كنا ننظر إلى الكثير من النصوص الغربية على أنها استفادت من مرجعيات عربية سابقة، ولو من باب التخمين، أحيانا (ابن خلدون - ماركس، وغيره من الأمثلة)، فمن المؤكد أن كيليطو قرأ خورخي لويس بورخيس، وأحس بنوع من الألفة في قراءة نصوصه وكتاباته.

من يقرأ نصوص بورخيس ومحاضراته، وهو يتصنع التواضع الماكر: «أعرف أنكم تعرفون هذه المسألة أكثر مني»، أو «لن أضيف جديدا» وغيرها من التعابير التي يعرف الجميع، من قرائه ومن الذين شهدوا محاضراته، أنها ليست حقيقية، يعرف أن بورخيس يحول، بسحره الخيميائي، كل موضوع تقع عليه عيناه، وقلبه (بعد إصابته بالعمى) إلى موضوع جديد وممتع. وفي المقابل يحس القارئ العربي بمتعة مماثلة وهو يقرأ نصوص كيليطو، ومن هنا سبب انتشار كتب كيليطو والشعبية التي يتمتع بها في الأوساط الأكاديمية العربية والغربية.

أن يقرأ بورخيس حكاية ما ويغير مجراها أو يقترح إضافة عوامل جديدة لها، أو أن يقوم كيليطو باقتراح قراءات جديدة لنص عربي قديم كنا نتصور، بسبب سيادة القراءة التقليدية، أننا فهمناه، مرة واحدة إلى الأبد، أو تخيل حيوات أخرى لمؤلفين وكتاب قدامى (لو عاش ابن بطوطة في القرن الـ19 لما خطر بباله أن يسافر لا إلى بلاد الهند ولا إلى بلاد الصين، ولتوجه حتما إلى أوروبا. «لن تتكلم لغتي»، ص 67)، فهذا لعمري يدل على الجدة التي يأتي بها الكاتبان (أي قراءة النصوص قراءة جديدة أو إعادة قراءتها بطريقة تبين قصور القراءات السابقة!)، وعلى الأصالة التي يمكن أن ننسبها لكيلهما.

يولي بورخيس وكيليطو النصوص الكلاسيكية أهمية مركزية، ربما لأنهما يعتبرانها أكثر أهمية ممَّا هو معاصر وحديث، وربما من هنا نفهم عودة بورخيس إلى اللغات القديمة (الإنجليزية القديمة والسلتية وغيرهما) وتركيز كيليطو على نصوص الأقدمين من كتابنا العرب (الجاحظ، الجرجاني، الهمذاني، وغيرهم).

ولعل تفضيل بورخيس لدراسة الشعر (وقد ألف شعرا) ومقته للرواية، وإقبال كيليطو على الرواية أو السرد (وكتابته لنصوص سردية)، يبقى نقطة الاختلاف المهمة بين الكاتبين.

يتميز بورخيس بكونه يتقن لغات كثيرة، كما أن كيليطو يتقن لغات كثيرة، من بينها: العربية والفرنسية، وإلا فإنه لن يتمكن من الاشتغال العميق على متن عربي. وهذه العلاقة مع اللغات تقودنا إلى مسألة الترجمة وأهميتها.

يكتب عبد الفتاح كيليطو، عن الترجمة: «وقد اكتسحت الترجمة أفقنا بحيث إنها تعمل حتى عندما نقرأ القدماء. نقرأ حي بن يقظان فيشرد ذهننا جهة روبنسون كروزو.. نقرأ المتنبي فيتجه تفكيرنا إلى نيتشه وإرادة القوة.. نقرأ «رسالة الغفران» فإذا بـ«الكوميديا الإلهية» تنبعث أمامنا شئنا أم أبينا.. نقرأ «اللزوميات» على ضوء شوبنهاور أو سيوران.. نقرأ «دلائل الإعجاز» لعبد القاهر الجرجاني فنلتقي فجأة بسوسير.. نقرأ «المنقذ من الضلال» فيطل ديكارت علينا ليخلصنا من حيرتنا. وويل للمؤلفين الذين لا نجد من يقابلهم عند الأوروبيين: «إننا بكل بساطة لا نلتفت إليهم (...) فيقبعون في برزخ مظلم مهجور، برزخ بلا مرايا تعكس ظلهم وتنقذهم من الضياع ومن وحدة تشبه الموت. بالاختصار، نقرأ القدماء استنادا إلى الأدب الأوروبي. وكلما اقترب كتاب عربي من هذا الأدب، تضاعفت حظوظ تثمينه والإعجاب به، وازدادت فرص ترجمته» (لن تتكلم لغتي، دار الطليعة، 2002، ص 26).

هذه المعضلة التي يتحدث عنها كيليطو تؤثر سلبا على نفسياتنا فنتصور أنفسنا سباقين وروادا في المعرفة والاكتشاف. ولعل ثمة ما يبرر الردود القاسية والمتطرفة التي تأتينا، أحيانا، من بعض كتاب الغرب ومفكريه، كما حدث مؤخرا مع «سيلفان غوغنهايم» وكتابه «أرسطو في دير سان ميشال».

من المؤكد أن عبد الفتاح كيليطو استفاد من الغرب كثيرا، فيما يخص التقنيات والمناهج، من بورخيس ومن البنيويين (الأدب والغرابة، دراسات بنيوية في الأدب العربي)، وغيرهم. ولعله آن الأوان لقراءة موضوعية تعيد وضع المساهمات العربية الإسلامية في مكانها الصحيح، من دون إفراط ولا تفريط. وتبدأ في مساءلة تاريخنا الثقافي والأدبي.

ثمة من لا يتوقف عن إبداء الإعجاب بموقف عمرو بن عبيد (المعتزلي) من الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، ورفضه لهداياه (رِشاه)، وتعليق أبي جعفر المنصور على الأمر، شعرا: (كلكم يمشي رويد، كلكم يطلب صيد، غير عمرو بن عبيد)، لكننا قرأنا، ونسينا، ربما، موقفا سباقا مشابها، اتخذه الفيلسوف الإغريقي الكبير ديوجين الكلبي من الإسكندر المقدوني.. ولعله مثال من بين آلاف الأمثلة تنتظر تسليط الضوء عليها: من يستطيع أن يتصدى للأمر غير مثقفين وكتاب من طراز عبد الفتاح كيليطو؟!