معظم الجامعات العربية تعلم الطلاب التفكير الخرافي

خمسون مقالا تبحث في أسباب العجز العربي في كتاب للرميحي

«أولويات العرب.. قراءة في المعكوس» المؤلف: الدكتور محمد الرميحي «الدار العربية للعلوم» بيروت 2010
TT

ما يحوز على اهتمامنا نحن العرب كما يرى الدكتور الرميحي لا يخرج عن ثلاث قضايا تسود دائرة سياساتنا: فلسطين، الحروب الأهلية العربية، العلاقة مع الولايات المتحدة. وهذه القضايا لها علاقة بمعظم ما يواجهنا حيث تتفرع وتفرخ قضايا أخرى لا تقل أهمية عن أصلها، إلاَّ أن حلّها عضال لأننا لا نواجه المشكلة بعد وصفها وتشخيصها وتحديدها، بل أولويات مقلوبة وقراءات معكوسة مما يدمر القدرة على الصمود لأننا لا نفهم طبيعة ما يواجهنا ولا نفقه التحديات المعطلة التي ننميها تحت شعارات مؤامرات الخارج، ونحرفها عن معانيها بحجج واهية لننسى أن العطب في الداخل.

إن المستحقات والتحديات التي نواجهها، من تدمير القدرة على الصمود أمام ما تشكله القضايا العربية الكبرى من تحدٍ، أو ضعف في مواجهتها. ومواجهة العصر بكل ما يعنيه ذلك من مواجهة, تبدأ بالتعليم ولا تنتهي بتمكين المرأة من المشاركة في المجتمع وحقوق الإنسان.

قليلا ما نقرأ عن التربية والتعليم، ومستوى خريجي الجامعات العربية المتدني، وتدني مكانة المرأة ونقص في حقوق الإنسان، وتخلف الرعاية الصحية وغيرها من القضايا التي تندرج في قائمة التنمية. إلاَّ أننا ننصرف بنزق لمناقشة من يلي الأمر وكيف نجدد له وكيف نضمن استمراره في موقعه الذي فشل في بلورة عبقريته فيه سنة بعد سنة وعقدا بعد آخر، فقد اعتدنا مناقشة الشخص لا أفكاره والاهتمام بقضايا هامشية على حساب قضايا اعتبرتها منظمة اليونسكو أساسية ومن أهم التحديات لوقوف شعب على قدميه ومواجهة التحديات هي: التعليم، حقوق الإنسان، التنمية الاقتصادية، تمكين المرأة.

يرى الدكتور الرميحي أن معظم جامعاتنا تقوم بتأهيل طلابنا على نمط «الاستهلاك» لا القدرة على الإنتاج، وعلى التفكير الخرافي لا التفكير العلمي، وهذه المؤسسات تضخ كل عام آلاف الخريجين إلى ساحة البطالة المباشرة أو المقنعة، ليس لأنهم عاجزون أو غير راغبين في العمل بل لأن تأهيلهم لم يصل إلى مستوى تنمية قدراتهم الذاتية، فيخرجون إلى الشارع معرضين للاختطاف من جانب خطاب التطرف، وهو خطاب يستفيد من الجهل ليزيد معدلات الجهل والتخلف والعجز.

ومن أولوياتنا المقلوبة رأسا على عقب منتجنا الثقافي في أفضلية الحياة الأخرى على الحياة الحالية، متناسين الحديث الشريف بأن لا نترك الدنيا إلا بأحسن مما جئنا إليها، وها نحن ننصرف عمّا دعت إليه الرسالات من إحياء الأرض. وانتشال من عليها من التخلف والفقر والحاجة والجهل والمرض والبطالة والحروب. فالفساد ألغى التكافل الاجتماعي فلم يعد للسائل والمحروم حق في مال المسلمين، ولم يعد لابن السبيل سهم ولم يعد للعلم والزكاة والإحسان والكلمة الطيبة صلة بالدين. وحده العنف والموت العشوائي الطريق إلى جنة الخلد. فالفساد عم الحياة الاجتماعية والاقتصادية فقد جاء موقع كثير من الدول العربية في آخر السلم متأخرا عن كثير من الدول صغيرها وكبيرها، وهو أمر يقود إلى الاستنتاج بأن الفساد متفش ومعطل للتنمية ويحول بين العرب والتقدم.

يعرِّف الدكتور الرميحي الفساد بأنه استخدام السلطة للحصول على منفعة، وبمعنى آخر غياب وجود وعمل المؤسسات، وتعطيل المحاسبة.

كما يبدو أيضا أن انقسام العرب في السابق بين معسكرين اشتراكي ورأسمالي، أو تحت مسميات مختلفة كعرب الاعتدال وعرب المقاومة الذي يسود الآن تحت مظلة أخرى وشعار آخر، هناك من هو معلَّق بواشنطن كمخلِّص أوحد، وهناك من يرى أن الارتباط بأوروبا أو الصين هو أفضل الحلول لبقاء الرأس العربي فوق الماء، بل إن البعض يرى في التحالف الإقليمي، مثلا مع إيران، مربط الفرس.

هذه الأطروحات في خطابنا العربي المعاصر هي امتداد لأطروحات ماضية بالرهان على أحصنة جديدة معاصرة. وهذا الانقسام تأكيد على الشرذمة القاتلة التي يدفع الإنسان العربي فاتورتها غاليا، في الوقت الذي تتشكل فيه التكتلات العالمية للدفاع عن مصالحها المشتركة.

يرى المؤلف أن الخيار المنطقي في هذا المقام، هو إيجاد طريق عربي يحمل الحد الأدنى المشترك بين مصالح العرب كأي تجمع عقلاني اقتصادي سياسي في هذا العصر، لكن يبدو أن هناك إصرارا إما على هيمنة وأتباع أو على مراهنات غير مجدية، مع استعداد الطرفين من يريد الهيمنة والمراهن على قوى إقليمية، لتقديم التنازلات المطلوبة للأطراف الغربية أو الإقليمية، في حين أن المنجي من الانزلاق هو أجندة عربية.

الأمثلة كثيرة في هذا المقام، هناك اتفاقات اقتصادية تتم اليوم بين بعض الدول العربية وبين الولايات المتحدة الأميركية مثلا، تقدم فيها تنازلات أكثر مما تقدِّم جارة عربية لجارة قريبة، بل يجري التشدد مع الجار، ويكثر التساهل مع البعيد.

يؤكد الكاتب أن الركود السياسي في بلادنا، يؤدي إلى عدم الاستقرار الداخلي، وتظهر آثاره في أعمال الإرهاب من جانب، أو الهجرة الشابة المتدفقة إلى الغرب من جانب آخر. وعلى رغم بساطة هذه المعادلة ووضوحها، وعلى رغم حقيقتها الساطعة، نجد أن أولويات النقاش العالق في ما بيننا، والتي يعتمدها كثيرون من جهابذة مفكرينا في طرح السؤال الممل: أيجب أن يجري التغيير من الداخل أم من الخارج؟ وكأن الداخل أو الخارج سينتظر إلى أن تحل معضلة جنس الملائكة، في الوقت الذي تفضح عوراتنا تقارير حقوق الإنسان، وتقارير الشفافية، ومؤشرات التنمية، والإنجازات العلمية.

بألم وسخرية مرَّة يعجز المؤلف عن متابعة حرقتها يقول: رغم الزيادة في الوعي العربي نسبيا وازدحام فضائنا بفضائيات عربية تكاد تبلغ نسبة وتناسب محطة واحدة لكل نصف مليون عربي عاطل عن العمل، أو محطة تلفزيونية واحدة لكل مائة سجين سياسي، ومع ذلك يعتقد البعض أن الوعي العربي ما زال مغيبا عن ما يجري في العالم، بل وفي بلده. لكن الكثير من العرب أصبحوا يعرفون أن التنمية ليست فقط دخلا مطردا ومرتفعا عن طريق التشغيل الكامل لكل الراغبين في العمل، بل هي بجانب ذلك البعد المادي الهام لها بعد غير مادي، وهو المساواة وحكم القانون وإطلاق طاقات البشر في بيئة سياسية صحية، تمكن المواطن من المشاركة في عملية إدارة الحكم.

يرى المؤلف أن السر في تجنب النقاش حول الأولويات العربية هو تدني سقف الحريات، فيمكن للعربي أن يناقش في ملفات حول انتخابات الرئاسة الأميركية، وأن يشتم السياسة الأوروبية، ويسب بأبشع النعوت رؤساء آسيا وأفريقيا وروسيا وأميركا. لكن يجب أن يتجنب الحديث عن حديقته الخلفية فدونها أسوار من الترهيب والترغيب.

أولوياتنا ونحن نتصفح «خمسون مقالا لمحمد الرميحي يبحث فيها عن الحقيقة» هي نفسها الأولويات منذ أكثر من نصف قرن تراوح مكانها، وكأن القضايا تعيد تفريخ نفسها. فهي مجموعة من المنقطع المتصل في شؤوننا العربية. والكتاب كما يقول المؤلف ليس إلاَّ محاولة للتذكير لا غير.

يعرض المؤلف في إحدى المقالات الباحثة عن الحقيقة عن المعكوس في مقولتنا السائدة عن الشعب الياباني الذي استطاع أن يدخل العصر الحديث ويحتفظ في الوقت نفسه بثقافته الاجتماعية. فيرشدنا إلى شهادة الياباني «نوبواكي» الذي قضى قرابة أربعين عاما مع العرب يلاحظ الثقافة العربية، ويترجم بعض نتاج الأدب العربي إلى اليابانية. الذي يفصل بين الشكل الخارجي للثقافة كالمأكل والملبس، وبين العمق الثقافي كالسلوك السياسي وبناء المؤسسات.

يلاحظ الكاتب الياباني التوتر في الشارع العربي الناتج عن الاضطهاد، فالناس تمشي وكأن عينا تطاردهم، فالناس صامتون لكننا نسمع صرخة من خلال هذا الصمت الخانق. وسبب هذا التوتر هو اختراق القوانين وهو الشيء الوحيد الذي لا يحتاج إلى برهان. فالحاكم رغم القانون يحكم مدى الحياة، والصحف تمنع من بلد إلى بلد، والكتب تعرض على الرقابة، والسلطة والشخص شيء واحد، والمعيار الوحيد لكرامة المواطن ولائه للحاكم. وبسبب غياب العدالة تغيب المسؤولية العامة، فالأملاك العامة يدمرها الناس اعتقادا منهم أنها ملك الحكومة. والعربي يتناول أفكاره من خارجه ومن خارج زمنه فيما الياباني يستنتج أفكاره من وقائع حياته.

في الخلاصة أن هناك نظاما من القيم العربية تستحق المراجعة، لكن علينا أن نقرأ أفكارنا بالذات أولا.

وفي مقالة الرؤية والفرية، يرى المؤلف أننا في عصر الجمهور، إمَّا أن تقوده النخبة وإمَّا أن تنقاد له.

أكبر بلاد من حولنا يقودها الجمهور هي إيران، وعلى الرغم من الحكمة الفارسية والثقافة الزرادشتية التي تأصلت مع مرور آلاف السنين، والتي قادت فارس التاريخية للتكيف بنجاح مع المتغيرات العديدة التي مرَّت بها، فإن إيران اليوم تكاد ترتكب نفس الخطأ الذي قام به صدّام حسين مع فارق الزمن. فطريق صدام الذي قاده إلى التهلكة وقاد شعب العراق إلى التمزق يكاد يتكرر من جديد في إيران. فالرعونة والتعنت والمكابرة والإصرار على الذهاب إلى آخر الطريق في الموضوع النووي. تقول المصادر الإيرانية إن اتهامها هو فرية ولكنها لا تقدم رؤية يقبلها العالم الغربي للتحقق من أن الاتهامات باطلة. فركوب السلبية والممانعة والتسويف والضبابية تحت مظلة إرضاء الجمهور لن يزيد الموقف العالمي إلا تصلبا. وقد صار من المعروف أن اثنين من كل ثلاثة مشاريع حصار دولي بعد الحرب العالمية انتهيا بحرب ساخنة.

ولا يفوت الكاتب في أولوياته أن يفرد مقالا لجامعة الدول العربية مقترحا تحويلها لجامعة للإنسان العربي. ويمر على نظرية المؤامرة التي ترسخت في أولوياتنا فوقفت على رأسها ويحاول الدكتور الرميحي أن يضعها في وضعها السليم لكنها تفشل لإصابتها بعاهة المعكوس.

لا يمكننا أن نلم بهذه العجالة بكل ما يقف على رأسه في عالمنا العربي والذي أورده الدكتور الرميحي، لكننا نعطي أمثلة للتذكير، فما كتب على مراحل يؤكد أن المنقطع متصل ولا يزال صالحا للإصلاح.