هل بدأ أدب الثورة في مصر؟!

عشرات الإصدارات خرجت من عباءة 25 يناير

TT

الكلام عن «أدب الثورة» في مصر بدأ. وثمة شعر يكتب، ويوميات تدبج، وسير تنشر، هناك من يعتبرونها مجرد إرهاصات لما سيأتي، وغيرهم يصفها بأنها أدب ثوري حقيقي. والسؤال: هل بدأ أدب الثورة في التبلور.. أم أن علينا أن ننتظر طويلا كي نقرأ بعمق ما حدث منذ 25 يناير (كانون الثاني)؟

هل بدأ أدب الثورة في مصر؟ وهل تكفي ستة أشهر مرت على اندلاعها لكي نتحسس ملامح أو إرهاصات أولى - على الأقل - لهذا الأدب؟ يجمع معظم الكتاب والشعراء على أن فعل الثورة لم ينضج بشكل كامل، وأنها لا تزال في طور التشكل والنمو، خاصة أن مرحلة تنقية الأرض من الشوائب والأعشاب السامة وحرثها من جديد ستحتاج إلى المزيد من الوقت والجهد، ناهيك عن أن مشهد الثورة المتقلب سياسيا واجتماعيا وثقافيا، يصعب هضمه وتمثله الآن بشكل واضح. ويرى هؤلاء أنه حين يتم ذلك يمكن أن نتحدث عن إبداع الثورة بالمعنى الصحيح.

على الجانب الآخر، شهدت الساحة الثقافية عشرات الإصدارات، يرى أصحابها أنها خرجت من عباءة الثورة، وعزفت على أوتارها، سواء بالشعر أو القصة أو الخواطر والتأملات الأدبية، أو أدب السيرة اليومي، كما برز بشكل لافت الكثير من معارض الفن التشكيلي، التي اتخذت من أجواء الثورة مقوما جماليا لفضائها الفني، وهو ما يعتبره البعض بمثابة نقطة تماس أولى بين الفنون والثورة.

حول هذه القضية استطلعت «الشرق الأوسط» في هذا التحقيق آراء كوكبة من الكتاب والشعراء، جلهم عايشوا الثورة وشاركوا في مظاهراتها التي أطاحت بنظام الحكم السابق، ولا يزالون يرون تحولاتها بعين طفل ونزق فنان.

الروائي خيري شلبي يرى أن الكلام عن ثقافة الثورة في غير أوانه حاليا، ويقول «لا بد أن يمر وقت طويل حتى تستتب الأمور، وننظر لمنجزات هذه الثورة وتفاصيلها ورجالها وكل شيء يتعلق بها من قريب أو بعيد. ثورة يناير لم تكتمل بعد، وسيحدث هذا عندما يدير الثوار مناحي الحياة والمواقع الحيوية. هي مسألة وقت حتى تنضج الثورة، وتظهر الصورة كاملة، التي تمكن من العطاء الثوري الحقيقي».

يتابع شلبي «من الممكن أن يكون الإنتاج الموجود حاليا نوعا من أنواع الكتابات الصحافية، التي تواكب حركة الثورة، كتابات نثرية أشبه باليوميات، أو التأملات الأدبية التي لا يمكن إدخالها في إطار الأدب، الذي يتطلب بناء واقع فني متكامل الأركان والرؤية، مدروس الجودة. ويجب أن تتكون لدى الكاتب رؤية ما سواء كان من أبناء الثورة أو من أجيال سابقة». ويتابع شلبي «في اعتقادي أن الأدب الحقيقي سيعبر عنه أبناء هذه الثورة، ومن نعموا بخيراتها، وبما حققته لهم من حرية، وربما يكون من بين الثوار من لديه موهبة أدبية ويكتب تجربته».

ويؤكد شلبي على أن «الثورة ستغير الواقع بكامله، ستخلق لغة وحساسيات ورؤى جديدة، كما ستخلق مذاقا آخر للأشياء، وسيشهد المجتمع المصري تحولات جوهرية في طرق الكتابة والتعبير».

ويرصد الشاعر فارس خضر، رئيس تحرير مجلة «الشعر»، ملمحا آخر في هذه القضية، لافتا إلى أن «الثورة لن تجعل من محدودي الموهبة المتنطعين على الأدب أدباء لمجرد أن صوتهم مرتفع. الثورة حدث عظيم سيزلزل كثيرا من الأشياء. وما يحدث الآن ليس بأي حال مقياسا لأدب الثورة. فالموهوب سيكون موهوبا قبل وبعد الثورة. هناك حالة من الفوران أراها طبيعية، الكثير منها فج والقليل جدا جيد. في كل لحظة يتم تنصيب أشخاص على أنهم شعراء الثورة، وهم ليست لهم أي علاقة بالشعر، مع كل احترامي للثورة، وليس مزايدة أننا شاركنا بها، ولجلال الثورة لن نقبل أي شخص يقول الغث من القول لمجرد أنه يدغدغ مشاعر الناس».

ويخلص خضر إلى أن ما ينشر الآن من كتابات عبارة عن «تيك أواي»، وهذا لا ينفي أن شعراء كبارا مثل الأبنودي، وبعض شعراء السبعينيات، قدموا قصائد جيدة، وكذلك شعراء التسعينات حيث يتكئون على اللحظي والمعيشي «لكن بشكل عام لم أر نصوصا جديدة ومغايرة، تنطوي على فعل ثوري حقيقي. إذا كانت ثمة فتن، فهناك فتنة أيضا في الأعمال التي تتكلم عن الثورة، وأكثر من 95 في المائة من الأعمال التي كتبت عن الثورة إلى زوال. صلاح جاهين لم يكتب عن ثورة يوليو (تموز) إلا بعد مرور أربع سنوات، والمبدع المتصالح مع ذاته هكذا يفعل».

ويقول الشاعر الناقد الأدبي شعبان يوسف، المشرف على ورشة الزيتون الأدبية، إنه مطمئن إلى الأدب المكتوب قبل الثورة، مثل ديوان «عاش النشيد» لحسن طلب، وسيد حجاب كتب في عام 2009 ديوان «قبل الطوفان الجاي»، فالكتابة تعمل عمل الشاحن للطاقات الكامنة والمنتظرة، ثم كانت قصيدة «الطغاة» لأحمد عبد المعطي حجازي، وقصيدة «الميدان» لفاروق جويدة، وقصائد لعبد الناصر علام، وفاطمة المرسي، ومحمد الشماع، وهناك كتب مثل «100 خطوة من الثورة» للكاتب أحمد زغلول الشيطي. ويرى شعبان أن المطلوب في هذه المرحلة أن تعبر الأعمال عن اللحظة بشكل عاجل وسريع، ومن الممكن أن بعض من كتبوا عن الثورة كانوا محتشدين لها وانفجرت أعمالهم في اللحظة المنتظرة. ويضيف «أتفق أن هناك سيلا من الأعمال ليست كلها سطحية، لكن كثيرا منها عميق، ولا بد أن نحكّم ضمائرنا. وفي وسط هذا السيل هناك مجلة (الكتابة الأخرى)، التي قدمت عددا من الشهادات عن الثورة معظمها مهم. وقدمت ديوانا للشاعر كريم عبد السلام، لا ننكر عليه قيمته الجمالية، كما أن به نبض الثورة».

أما عن أدب ثورة 1952 فيقول يوسف «إن التعبير المباشر ورواية القصة ليست تعبيرا عن أدب الثورة، بل الكتابة عن الحرية والعدالة الاجتماعية وتجاوز أشكال الفقر، من منظور فني جديد ومغاير، هو ما يمكن أن يعبر عن ذلك بشكل صحيح. إن الإبداع لا ينشأ من فراغ، جيل الستينات في مصر كله يعتبر نتاجه أدبا لثورة يوليو 1952، يحيى الطاهر عبد الله، إبراهيم أصلان، يوسف القعيد، إلى آخر الأسماء، أما نجيب محفوظ فهو من جيل أسبق، جيل الأربعينات».

وفي المشهد نفسه يعتبر القاص سعيد الكفراوي أن ما جري تحت عنوان ثورة 25 يناير فعل هائل نحو التغيير، لافتا إلى أن هناك نظاما ثابتا استمر 60 عاما، وكان غير فاعل، وحركته في التاريخ هي خروج مصر من دورها العظيم. وجاءت ثورة 25 يناير لتحرك القوى الكامنة في الضمير المصري، وتعيد له إمكانية صناعة حياة أخرى، وترسي قوانين ودستورا ومجتمعا مدنيا تتعدد أحزابه، ويسود العدل فيه، والكشف عن الطاقة الحقيقية لهذا الوطن الكريم. ويلفت الكفراوي إلى أن حالة بهذا الشكل المتفجر، لا يمكن التعبير عنها بالعمق الكافي، وبالرؤية الإبداعية الشاملة، وبالكشف عن أبعادها النفسية والروحية والتاريخية، حتى يمضي كثير من الزمن ويأتي المبدعون والمؤرخون والفنانون ليعطوا هذا الحدث حقه من التعبير والبناء الفني والشعر والتشكيل والسينما. أما ما صدر حتى الآن في رأيه «فهو السريع السهل الذي ينظر إلى السوق، فيه المتأمل الهادئ، لكنه في النهاية تعبير مباشر عن الحدث. ثورة مثل 25 يناير اقتلعت زمنا من الفساد، وذهبت بالعديد من البشر الفاسدين إلى مزبلة التاريخ، واستعادت الروح المصرية التي كان أصابها الوهن، لذا هي في حاجة إلى تأمل ورؤية ومعرفة حتى يمكن إنتاج النص الذي يليق بها».

ويشير الكفراوي إلى أن من الأعمال التي لها قيمة في هذه الإصدارات كتابا للروائي إبراهيم عبد المجيد «لكل أرض ميلاد.. أيام التحرير». وهو، في رأي الكفراوي، «تجربة تعبر عن وجودنا نحن كمبدعين طوال 18 يوما، هي الأيام الأولى الحاسمة من عمر الثورة، حيث كنا نرى ونسجل ونشارك». ويضيف «الكتاب كأنه سيرة ذاتية للكاتب في الميدان، ويركز على الروح الساخرة للثورة، مع تقديم النماذج التي رآها إبراهيم للبشر الذين يبكون من الفرح، والمتألمين الذين يبحثون عن أنفسهم، واختلاط أصوات الغناء بأغاني عبد الحليم، والشيخ إمام بأصوات الهتافات، وكذلك تسجيل أكثر الشعارات فاعلية، وتأكيد وجود الناس في الميدان، كل هذا ضمه الكتاب».

ويذكر الكفراوي أن «الحرب والسلام» كتبها توليستوي بعد سنوات طويلة من الحرب، وكذلك فعل ارنست همنغواي. «الثورات الحقيقية مادة خصبة للكتابة عبر التاريخ، وربما يكتب أحدهم بعد 3000 سنة من تاريخ الثورة، كما نكتب نحن الآن عن مصر القديمة مثلا، وليس من الضرورة أن تكتب عن وقائع الثورة بشكل مباشر، بل قد تكون الكتابة عن المجتمع في تلك الفترة مثلما فعل نجيب محفوظ عندما كتب الرواية الرائعة «السمان والخريف»، بعد فترة استمرت نحو سبع سنوات لم يستطع فيها الكتابة، فكتب عن حركة المجتمعات وما أفرزته ثورة يوليو من نماذج، بالإضافة لعلاقة الفرد بالحاكم، وجيل الستينات كله كان في جدل مع ثورة يوليو».

ويخلص الكفراوي إلى ملاحظة مهمة فحسبما يقول «لا توجد نقلة في الرؤية، أو في الشكل الفني أو الأسلوب منذ اندلاع الثورة إلى اليوم. أنت غيرت بالثورة، وكذلك تغيرت الثورة بك. التغيير سيأخذ بعض الوقت، وأنا من جيل الستينات. وهو جيل أزعم أنه ليس مؤهلا ليكتب عن الثورة، إنما الأكثر تأهيلا أجيال أصغر سنا، عاشت التجربة بحيوية، لكن يحتاج الأمر لبعض التأمل والخبرة. ونرجع إلى نموذج نجيب محفوظ، فهو لم يكتب فور حدوث الثورة، والحلم بالعدل، والديمقراطية. وعندما لم يجد هذه القيم من حوله، كتب بعد فترة طويلة «السمان والخريف»، «ميرامار»، «الشحات»، «الكرنك»، وكلها تتكلم على تأثير الثورة في المجتمع.

ومن شباب الشعراء الذين واكبوا الثورة الشاعر أحمد سراج الذي يقول «لم أتصور أن أعود لكتابة الشعر بهذه الطريقة المتدفقة، ظللت مدة تزيد على 14 سنة أكتب قصيدة أو اثنتين كل عام، حتى في المسرح تفصل ما بين مسرحيتي الأولى والثانية نحو ست سنوات، لكن الثورة أعطتني روحا جديدة، بل كأنها غيرتني، وأنا لم أقصد الكتابة بل جاء الأمر بالمصادفة». ويوضح سراج «المسرح فن عقلي مركب يحتاج إلى تحضير وإعداد ومدة زمنية. ورغم أن مشروعي المسرحي عموما يرتكز على أطماع الحكام في أزمان مختلفة، لكن في الثورة التي عشتها كان سيد اللحظة الأولى هو الشعر. الشعر أقرب إلى النفس وأسرع، فطبيعة الشاعر متقدة. وأنا أتصور أنه خلال الفترة القادمة ستكون هناك قصص وروايات، ومسرح، وذلك لأن القصة تحتاج إلى تركيز شديد أثناء اختيار اللقطة. أما الرواية فهي تبني تحولا يظل يتنامى ويصعد حتى الذروة، بينما يرصد المسرح هذا التحول. أثق بأن الثورة ستنتج لنا أعظم ما أنتجته الثورات من فن وأدب».