ثيمة الزواج كمدخل لفضح خطاب العنصرية

التعبير عنها سرديا يستعيد تمثيل الوقائع لكشف إشكالاتها من داخل البنية الاجتماعية

TT

لقد وجدت الرواية السعودية في العنصرية مادة مغرية بالتناول، غير أن معظمها اتخذ من ثيمة الزواج مدخلا ملائما لتناول معضلات العنصرية. ومثلما تباينت الروايات في التناول، تباينت في موقفها من المشكلة. وفي ما يلي، عرض ومناقشة لبعض الروايات التي لامست ثيمة العنصرية بوصفها ممارسة اجتماعية ترد في بعض الروايات عرضا، وفي بعضها بوصفها ثيمة أساسية.

العنصرية في سياق السرد:

التعبير عن العنصرية سرديا يستعيد تمثيل الوقائع الاجتماعية لكشف إشكالاتها من داخل البنية الاجتماعية. فالسرديات عموما، والرواية خاصة، تصوغ خطابها على إمكانات موجودة، وفواعل اجتماعية حية، فلا افتراض، ولا مبالغة. وما يتبقى للرواية هو ترتيب السياقات، وتأكيد سلطة الخطاب واستلاب الشخصيات أم فاجعة العنصرية.

ولا تفرق الرواية بين الرجل والمرأة في الوقوع تحت طائلة التمييز العنصري. فقد نجحت الرواية في التنويع في تقديم أشكال الخطاب المختلفة. فأظهرت تحيز المجتمع ضد الفرد. فالمجتمع، سواء في شكله القبلي أو العشائري أو العائلي، أو الطائفي أو المذهبي، هو الذي يمارس التمييز بسلطة الأعراف والتقاليد والمعتقدات التي لا تخلو من تحيز مطلق ضد الفرد. كما أن الفرد الذي يخرج عن هذه الأنساق يخرج بوصفه متمردا، لا صاحب رأي مستقل. من هنا يستوجب الأمر مقاطعته وحرمانه من حقوق الجماعة؛ ففي رواية «أنثى تشطر القبيلة» لإبراهيم شحبي، يواجه شاهر والد تغريد، الذي قرر أن يزوجها لفرد من خارج القبيلة، الإقصاء ومقاطعة القبيلة.

وتطرح رواية «بنات الرياض» لرجاء الصانع فرضية ضعف الرجل أمام التمييز. ففيصل الذي وقع في حب ميشيل أو مشاعل، يفشل في إقناع أمه بالزواج من ميشيل. إن مشكلة فيصل تبدو مزدوجة، فالرفض لم يكن من ذي سلطة ذكورية، بل من امرأة هي ذاتها تعاني من التمييز والإقصاء. أمه، بطريقة تبدو ساخرة، تلعب دور حارس الأعراف القبلية؛ فقد استنكرت عائلة ميشيل، ولم تجد لعائلتها (العبد الرحمن) أي نسب بين عائلات الرياض الكبرى. فيصل تقهره امرأة، وتحرمه من امرأة، بدوافع قبلية ترفع وتخفض في مراتب الأشخاص.

وفي رواية «القارورة» ليوسف المحيميد يتصعد الموقف العنصري بشكل أكثر بشاعة ولا إنسانية. ففي عمق الأزمة الأخلاقية التي تواجهها فاطمة يناقش المحيميد أزمة التمييز العنصري، مؤكدا بانحياز مطلق فكرة استحالة اجتثاث هذا السلوك البغيض من ثقافة المجتمع. فعندما تتعرف فاطمة على من اغتصبها تبحث عن خلاصها، راجية أن يتزوجها. وهذا الموقف يحمل إذلالا للمرأة، حين تطلب من الذي أجرم بحقها أن يعيد إليها شرعية وجودها بالزواج منها، ولو لأسبوع واحد فقط. ويبدو هذا الموقف، الذي تشترك فيه الجهات المسؤولة مع فاطمة منعا للفضيحة، إنسانيا، على الرغم من المفارقة الصارخة، غير أن المفاجأة أن المغتصب يستنكف من الارتباط بها، لا لشيء إلا لأنها من منطقة أخرى غير منطقته، حيث يقول: «ما بقي إلا أتزوج حساوية».

هذه النظرة الدونية يقابلها تساهل في العقاب، حيث يحكم عليه بالسجن أربعة أشهر فقط، في إشارة صارخة إلى غياب الردع الحقيقي لهذا النوع من الجرائم، بل إن عقاب فاطمة كان أقسى، حيث صدر الحكم بتغريبها سنة كاملة، خفف إلى تسعة أشهر نظرا «لأخلاقها وسلوكها الحسن».

وفي رواية «ستر» لرجاء عالم إشارات متعددة ومختلفة في الموقف من الآخر. غير أن ما يعنينا في هذا السياق، هو الموقف من الآخر المحلي. ففي إشارة تهكمية دالة على الرفض المقنع، تضع الراوية زواج فهد ابن الشيوخ من طفول الجداوية موضوع التساؤل. فرغم قبول الزواج ومباركته من قبل الشيخ بندر والد فهد، فإنه موقف أقرب للتفضل بالمباركة أكثر من كونه قناعة خالصة. وقد أكد ذلك رفضه المشاركة في حفل الزواج، وانتظار طفول لتمثل بين يديه في قصره. كما أن إشارة بنات عمومة فهد تؤكد النظرة الدونية لطفول، سواء بدافع الغيرة أم بدافع الشعور بعلو المنزلة.

ولعل رواية «أبو شلاخ البرمائي» لغازي القصيبي، وهي رواية ساخرة بطبيعتها، سمت الأشياء بأسمائها. فالتقابلات التي تنهض عليها العنصرية لخصتها في أوصاف دائمة التداول في السياق الاجتماعي المحلي. فالقبلي يقابله الخضيري، والسني يقابله الشيعي، والنجدي يقابله الحجازي. هذه البنية الثقافية الراسخة بمدلولاتها الاجتماعية والمذهبية تغذي شعور العداء المتأصل بين الجماعات، على الرغم من قواسم الانتماء الوطني الواحد.

في واحدة من أبلغ المداخلات المشهدية السردية، يتقدم أبو شلاخ البرمائي لخطبة الفتاة التي يحبها، وضحا. ووفقا لثقافة التمييز يتم رفضه دون مراعاة لأي مشاعر يمكن أن تكون حاضرة في علاقة الطرفين. فالأهلية القبلية شرط مقدم على ما سواه.

لقد اختبرت الرواية باستقصاء دقيق إشكالية المرجعية القبلية، والتعلق بالأنساب. وبسخرية حارقة يتعمد أبو شلاخ أن يختم نسبه الطويل بابن خضير. عندها يصرخ والد وضحا: «خضيري وجاي تخطب بنتي. قم ما أنت من مواخيذنا».

وتصل رواية «جاهلية» لليلى الجهني إلى ذروة التعبير عن أزمة التمييز العنصري ومن زاوية غير مسبوقة من قبل. منذ البدء تحدد الرواية موقفها. فالعنوان دال على التخلف وإرث ما قبل الإسلام، اختبرت الرواية إشكالية التمييز على أساس اللون؛ الأسود في مقابل الأبيض. وعلى الرغم من معرفة النتائج سلفا، فإن الأهم هو الأزمة الإنسانية التي تمس فردين يؤمنان بالحب، ولا يستطيعان هدم العوازل الاجتماعية الصلبة. تقف الفتاة، لين، بلونها الأبيض، متسائلة: «هل أخطأت عندما أحببت رجلا أسود».

هذه مقاربة أولية لقضية ذات حساسية اجتماعية كبيرة، استقصتها الرواية بوعي مجبول على الرفض، بعضه مسبق التكوين، وبعضه منبثق بوعي روائي من داخل نسيج الرواية، كما في رواية «القارورة» و«أبو شلاخ البرمائي». لقد كانت الرواية من أجرأ الخطابات في مناهضة أشكال التمييز والتصنيفات القبلية والمذهبية المختلفة، وهذا دور تنويري يذكر للرواية دون غيرها من الوسائل الأخرى، في ظل تراجع القصة القصيرة، وانصراف الشعر لذاتيته، والإعلام بقضاياه الدعائية والنفعية.

هذه بعض الروايات التي لامست أزمة الخطاب التصنيفي تؤكد دور الفن في استقراء كافة الخطابات، من أجل خلق فضاء غير معهود، للحديث عما تواطأ المجتمع على ممارسته بطرق حدت من التقارب الإنساني، ولا أقول النفعي، بين أبناء المجتمع الواحد.

* مقتطفات من دراسة أعدها الكاتب