تحولات الشرق الأوسط العاصفة

حكام أبقوا مجتمعاتهم تحت السيطرة باسم مقاومة العدو الخارجي

غلاف الكتاب
TT

يبحث كتاب «الأبواب المائة لـلشرق الأوسط» لمؤلفيه ألان غريش ودومينيك فيدال، وهما صحفيان في «لوموند دبلوماتيك»، في التحولات الجذرية التي عصفت بالشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية، وفي الانعطافات التي وطدت نفوذ التيارات الدينية المتطرفة، مما يعكس رغبة عميقة في تغيير المعتقدات والقناعات. ويشير في آن إلى تناقضات الاستراتيجية الأميركية في هذه المنطقة من العالم. لذا من غير الممكن، عمليا، فهم تقدم الإسلاميين دون الرجوع إلى تطورات سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والخليج منذ نهاية الحرب الباردة.

يعرف هذا البحث الضخم الأحزاب والتنظيمات والشخصيات والقوميات والأعراق والأسر والدول وفق ترتيب قاموسي، لتشكل في مجموعها مائة مدخل لإضاءة ما جرى وما يجري، والاحتمالات المستقبلية لما يمكن أن يحصل في هذه المنطقة المتفجرة، ليلتفت بعد ذلك إلى الأماكن والأحداث، مدعما بخرائط توضيحية ملونة تجعل المادة في متناول المختصين والمستجدين وطالبي المعرفة.

ومن اللافت أن الكتاب بحسه الصحافي التحليلي يستخدم المعطيات لتشكيل رؤى تنبؤية مستقبلية، أتاحت له وفق معادلات رياضية أن يرسم صورة امتدادية لبعض الحكام والقوى المتجذرة التي لم نتوقع يوما قرب نهايتها كالنظام المصري والليبي والسوري وغيرها، فالقراءة الاستطلاعية شكلت رادارا فاعلا لالتقاط إشارات بينة للقادر على قراءة لغة تلك الإشارات والتعمق في ماضيها ويومياتها وطرق تفكيرها لمعرفة مستقبلها.

يرى المؤلفان أن حرب الخليج التي قادها بوش الأب والثانية التي فرضها بوش الابن، بعد 12 سنة، هي حرب واحدة بفاصل زمني تهدف إلى غاية واحد: تثبيت زعامة الولايات المتحدة في العالم، وفرض سيطرتها على الشرق الأوسط، وحماية مصالحها النفطية، وتلقين العراق درسا يتعظ به كل من تسول له نفسه تحدي واشنطن. وعلى الرغم من أن سيناريو 2002-2003 يشبه في جوانب منه سيناريو 1990-1991 فإن فوارق كبرى تميز بينهما.

الفارق الأول: ذريعة الحرب. في الحرب الأولى كان احتلال الكويت الدولة العضو في الأمم المتحدة السبب الرئيسي. أما في عام 2003 فقد كانت التهمة ملفقة وهي تصنيع أسلحة دمار شامل، الأمر الذي لم يجد له أثرا خبراء الأمم المتحدة.

الفارق الثاني: الهدف المعلن. في حرب 1991، كان الهدف تحرير الكويت وهو هدف جليل. بعد ذلك وقفت الولايات المتحدة محايدة أمام مشهد الحرس الجمهوري وهو يخوض في دم العراقيين. أما في عام 2003 فإن بوش الابن أعلن بوضوح إرادته في إسقاط سلطة صدام حسين لوضع حجر الأساس لإعادة تموضع سياساته في الشرقين الأدنى والأوسط، في إطار مشبع بآيديولوجية المحافظين الجدد.

الفارق الثالث: الدول المشاركة في العملية. لقد توصلت الولايات المتحدة في الحرب الأولى إلى إقامة تحالف واسع، على أساس قرارات الأمم المتحدة، اشتركت فيه دول عربية. أما في عام 2003، فما من حكومة في المنطقة، قبلت المشاركة. في الوقت الذي أعربت باريس وبرلين عن رفضهما الحاسم للحرب، وانضمت إليهما الصين وروسيا. وفي معظم بلدان الاتحاد الأوروبي وبلدان العالم الثالث بما في ذلك في بريطانيا، كان رافضو الحرب يشكلون ثلاثة أرباع المستطلعين. وفي 15 فبراير (شباط)، خرج ملايين المتظاهرين من 600 مدينة في القارات الخمس، ضد الحرب، في أول مظاهرة ذات طابع معولم في التاريخ.

عبرت هذه الفوارق وغيرها عن نزعة متزايدة ومتطرفة لمزيد من الهيمنة الأحادية، ولم يستطع الزمن المستقطع بولاية كلينتون، بين بوش الأب وبوش الابن، أن يحد من جموح الفردية، على الرغم من أن البعض اعتبر «النظام العالمي الجديد» دعوة إلى إدارة متعددة القطب للعالم يأخذ في اعتباره مصالح الجنوب والشمال، لكن هذا التفاؤل كان سرابا. سياسة الأب التي أعلن عنها على لسان وزير خارجيته جيمس بيكر: «على أميركا أن تقود وعلى شعبنا أن يتفهم ذلك». استمرت بشكل أوضح وأعنف مع بوش الابن، فشهوة الأحادية وجموح التسلط أفقد أميركا قوة توازنها، ووصل إلى مستويات غير مسبوقة، ظهر في احتقار صريح للتعددية، إلى درجة التنظير للحروب الوقائية والاستباقية وغيرها من المفاهيم التي لم يعرفها العالم من قبل أو تجاوزها.

لكن ثمة بعدا بين الحلم والواقع، يشير المؤلفان، إلى أن الحرب في أفغانستان لم تواجه، في البداية، مقاومة ثابتة، وأقيمت سلطة سياسية تتراوح بين النجاح والفشل، إلا أن الأمن لا يزال بعيد المنال. وفي العراق، لم تنجح الولايات المتحدة في القضاء على المقاومة والإرهاب، سواء أكانا من فلول جيش صدام حسين، أو من حزب البعث، ومن الجماعات الإسلامية المرتبطة بـ«القاعدة» أم المستقلة عنها. والانتخابات عجزت عن تغطية فشل جورج بوش. فالسلام لم يتحقق في العراق وآفاقه تبدو بعيدة، فتوازن القوى الجديد المضطرب بفعل الصراع المتمادي يهدد العراق بتقسيمه إلى ثلاث وحدات، مما يعيد الدور للدول الإقليمية للتدخل، سواء بنية الاستقرار المطلوب أو الشهية المفتوحة.

كان يمكن الاعتقاد بأن الأميركيين سيعدلون بصورة ملموسة استراتيجيتهم في الشرق الأوسط، لكن موقفهم من القضية الفلسطينية أكد استحالة ذلك. فعندما شن شارون هجومه الواسع لدفن اتفاقات أوسلو، وأعاد احتلال الضفة الغربية، وتدمير السلطة الفلسطينية وبناها التحتية، وجد كل الدعم من الرئيس الأميركي، فرغم بدئه بالكلام عن «دولة فلسطين» أظهر المعركة على السلطة بوصفها واحدة من جبهات الغرب العالمية على الإرهاب. وكان بإمكان الإدارة الأميركية أن تلعب دورا في تحريك عملية السلام وتنتهز فرصة وفاة عرفات وانتخاب محمود عباس خلفا له، والتهدئة التي نجح هذا الأخير في الاستحصال عليها من الفصائل الفلسطينية المسلحة وما ساد بعد ذلك من استقرار نسبي. لكن «خطة الطريق» التي صاغتها اللجنة الرباعية (الأمم المتحدة، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وروسيا) والتي تنص على وقف العنف والاستيطان - كان من الممكن أن تنجح لو تسنى لها النوايا الحسنة، والجهود الخيرة ولو بقدر احترام الحبر الذي كتب بها.

ولم تكن المملكة العربية السعودية خارج الجهود المبذولة لإحلال السلام العادل، مما يشكل رافعة للمساهمين في ذلك، فمبادرة الملك عبد الله (الأمير حينذاك) التي أطلقها في قمة بيروت 2002 لم يستفد منها المعنيون ليحققوا مكاسب لأنفسهم وبلادهم ولازدهار العالم وإطفاء فتيل الحروب. بل ما جرى عكس الأمر وقادنا إلى مزيد من الحروب والدمار.

على صعيد آخر، يبحث المؤلفان عن أسباب التخلف في العالم العربي على ركيزة تقرير برنامج الأمم المتحدة الذي رسم صورة سوداء عن الأوضاع: تطور اقتصادي ضعيف، تخلف مهم في قطاع التربية، والثقافة والبحث العلمي إلخ.. وذلك على الرغم من الموارد النفطية والطبيعية الأخرى، ويستنتجان أن عوامل عديدة ساهمت في التخلف. وفي المقدمة الحرب التي لا يشار إليها إطلاقا، أو بالأحرى الحروب. لقد عرف العالم العربي بعض الحروب الفتاكة كحرب اليمن، والنزاعات بين اليمنيين، والحرب الأهلية اللبنانية عام 1958، والأخرى الأكثر فظاعة 1975-1989، كما كان الشرق الأوسط مسرحا لخمسة حروب عربية - إسرائيلية، والحرب بين العراق وإيران، وحرب الخليج الأولى، وغزو العراق الثاني. إن هذه النزاعات ذات الأبعاد العالمية كانت شديدة الوطأة، فقد استهلكت ثروات المنطقة، وشرَّعت تدخل الدول الكبرى، وأدت إلى عسكرة الأنظمة، وسخرت لها كل موارد المجتمع وطاقاته.

هذه الحروب لم تكن وليدة ظروف داخلية أو إقليمية بل نجد جذورها في السيطرة الغربية الطويلة وقد فاقمتها العولمة. فأنصار صدام الحضارات يحفزون للفوضى البناءة التي نادى بها المحافظون الجدد، وقد عبر عن ذلك «روبير ساتلوف» المدير التنفيذي لمؤسسة «واشنطن لسياسة الشرق الأدنى» في قوله: «إن السعي إلى الاستقرار كان سمة مميزة لسياسة الولايات المتحدة في الشرق، كان الاستراتيجيون الأميركيون يتداولون جدوى الاستقرار، إلا أن جورج بوش كان أول رئيس يعتبر أن الاستقرار بذاته يشكل عائقا أمام تقدم المصالح الأميركية. وقد استخدمت الولايات المتحدة مروحة من التدابير من استخدام القوة العسكرية إلى سياسة العصا والجزرة.

إلا أن هذه السياسة تبدو، كما في العراق، عرضة للوصول إلى فوضى مدمرة، يعززها استمرار النزف الفلسطيني.

يقول الكتاب إن الشرق الأدنى يبدو متحجرا، فالتخلف يسود قطاع التربية، والتطور الاقتصادي ضعيف، وقطاعا الثقافة والبحث العلمي معدوم، وبقية القطاعات هزيلة يضخ فيها دم فاسد، فما سبب هذا التخلف؟ يجيب الكتاب بعد استفاضة في «الحروب الصغيرة» التي استهلكت ثروات المنطقة، وشرعت تدخل الدول الكبرى، وعسكرة الأنظمة.

تمكن قسم الحكام العرب، بفعل استمرار حالة الحرب هذه، من إبقاء مجتمعاتهم تحت السيطرة باسم مقاومة العدو الخارجي. ومن المفارقات أنهم استفادوا من حالة عدم الاستقرار هذه للحصول على دعم واشنطن المهتمة بأخذ نفط المنطقة بأرخص الأسعار. فاللعنة الأخرى بعد لعنة الحروب هي لعنة الذهب الأسود الذي أمن لأنظمة عديدة الموارد اللازمة للبقاء في السلطة على الرغم من فشل سياساتها التنموية.

لذلك، لا يمكن إعفاء النظم العربية من المسؤولية عن هذا الوضع. لكن ما دام النزاع الإسرائيلي العربي قائما فإنه من المستبعد أن ينعم الشرق الأوسط بالاستقرار والديمقراطية، فالكلام عن ربيع عربي ينطلق من حقيقة لا جدال حولها: تعاظم طموح الشعوب العربية إلى حرية تمت مصادرتها منذ عشرات السنين.

كتاب «الأبواب المائة للشرق الأوسط» جدير بالقراءة، ليس بوصفه كتابا بل لكونه موسوعة مكانية وزمانية تغطي المستقبل، كما كشفت ألغاز الماضي.