رواية غسان كنفاني «عائد إلى حيفا» تسبب انقساما وسط يهود أميركا

تبناها مقهى «السلام» الذي وصفته صحيفة «واشنطن بوست» بأنه «مقهى التقدميين في واشنطن»

مقهى «السلام» في العاصمة الاميركية
TT

بعد ما يقارب أربعين سنة على اغتياله من قبل إسرائيل، لا يزال غسان كنفاني وهو ميت يغضب المنظمات اليهودية في أميركا ويقض مضاجعها. ما حدث مؤخرا في واشنطن من ضغوطات هائلة لوقف مسرحيته «عائد إلى حيفا» يؤكد أن الأدب مرعب أحيانا، وخاصة عندما يخرج من قلم حاد وحاذق مثل قلم غسان كنفاني.

قال اندي شلال، وهو أميركي عراقي لـ«الشرق الأوسط»: «مؤسف ما حدث. كان تعاونا طيبا، لكنني لم أفقد الأمل بعد. سيعود المقهى». هذه إشارة إلى «بيس كافي» (مقهى السلام) الذي يديره شلال وعدد من قادة اليهود الشباب في واشنطن، وهم من المعتدلين والتقدميين. كان المقهى جزءا من مقهى كبير يملكه شلال، وهو «بسبويز آند بويتز» (جرسونات وشعراء)، وواحدا من أهم المقاهي الليبرالية والتقدمية في واشنطن. إنه مقهى عملاق، فيه أكل وشراب وفيه أيضا مسرح، تقدم فيه مسرحيات ومحاضرات. ووصفت صحيفة «واشنطن بوست» المقهى بأنه «مقهى التقدميين في واشنطن».

وأضاف شلال: «في البداية، وكمسلم عراقي، لم يكن سهلا علي هذا النوع من التعاون مع اليهود. أنا تربيت في بيئة تعادي اليهود. لكن، بدت التجربة مفيدة للتقريب بين الناس هنا، بمختلف اتجاهاتهم، على أمل أن ينعكس ذلك على الناس في الشرق الأوسط، ويتحقق السلام العادل هناك، بدلا من استنزاف الدم المستمر».لكن، فجأة، وقبل شهور، قالت أرنا ميكلسون، مديرة المركز اليهودي الذي كان يتعاون مع شلال في «مقهى السلام»، إنها مضطرة إلى أن توقف هذا التعاون المسرحي والثقافي. وقالت إن ضغوطا هائلة من منظمات يهودية قوية ورئيسية في واشنطن أجبرتهم على هذا «الطلاق».

وكتبت صحيفة «واشنطن بوست» أن «الحادث كان دليلا إضافيا على أن الحوارات السياسية والفنية في واشنطن، وغيرها، صارت تتأثر بالمسائل المتصلة بإسرائيل. وصار هذا واضحا في الآونة الأخيرة في كل الولايات المتحدة. وخاصة بالنسبة إلى المؤسسات اليهودية». وأضافت الصحيفة: «في الآونة الأخيرة، صار هذا الصراع يغلي ساخنا بسبب تصلب الآراء حول سياسة الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية. صار المؤيدون الأميركيون لحزب الليكود المحافظ في إسرائيل يسيطرون على هذه الحوارات، ليست السياسية فقط، ولكن أيضا الفنية. إذ شنوا هجوما على الفنانين والمسرحيين الذين يعتبرونهم معادين لأفكارهم اليمينية». وأضافت الصحيفة: «زاد قلق اليمينيين لأن هناك حملة من المدافعين عن حقوق الإنسان، والمعارضين لحكومة الليكود في إسرائيل، حملة ترفع شعار المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل، وتنتقد الاستثمارات الأميركية في إسرائيل، وتأمل في فرض التغيير السياسي من خلال الضغوط الاقتصادية على إسرائيل».

وقال مراقبون في واشنطن إنه، قبل مشكلة «مقهى السلام»، ظهرت بوادر الضغوط لمنع التعاون بين التقدميين والليبراليين العرب واليهود في الولايات المتحدة. وإنه، في بداية هذه السنة، منع الكاتب المسرحي اليهودي الحائز على جائزة «بوليتزر»، توني كوشنر، من تلقي درجة فخرية من جامعة في نيويورك، وذلك بعد أن اعترض يهود يمينيون بسبب ما قالوا إنها مواقف كوشنر المعادية لسياسات إسرائيل في الضفة الغربية وقطاع غزة.

وفي بداية هذه السنة أيضا، وفي سان فرانسيسكو، حدثت مشكلة مماثلة بعد عرض مجموعة يهودية ليبرالية فيلما وثائقيا عن راشيل كوري، الناشطة الأميركية التي ذهبت، قبل أربع سنوات، إلى غزة للدفاع عن حقوق الفلسطينيين، وقتلتها جرافة إسرائيلية. بعد عرض الفيلم الوثائقي، أمر الاتحاد الاجتماعي اليهودي في سان فرانسيسكو بوقف الدعم المادي للمجموعة اليهودية، ولأي مجموعة يهودية تنتقد سياسة بناء المستوطنات اليهودية في الضفة. وفي مدن مثل نيويورك وواشنطن، شكلت جماعات مراقبة يهودية لوقف تمويل الجماعات الليبرالية والتقدمية اليهودية التي يرونها تنتقد إسرائيل، وخاصة بناء المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية. وفي واشنطن، انعكس ذلك على «مقهى السلام» وعلى التحالف العربي - اليهودي التقدمي لأنه قدم مسرحية «عائد إلى حيفا» التي كتبها المناضل الفلسطيني الراحل غسان كنفاني. في الحقيقة، لم يقدم «مقهى السلام» مسرحية كنفاني. قدم مسرحية اليهودي بويز جائون، وهو واحد من أشهر الروائيين والمسرحيين في إسرائيل، التي اعتمد فيها على رواية كنفاني، وأعطاها نفس الاسم «عائد إلى حيفا». وقال الروائي اليهودي إن هدفه هو الجمع بين الكوارث التي حدثت لليهود، عبر تاريخهم، والكوارث التي حدثت للفلسطينيين.

لكن، في بداية السنة، وبعد عرض المسرحية، أرسلت جماعات يهودية خطابات مشتركة إلى الاتحاد اليهودي لمنطقة واشنطن، وقالت الخطابات إن المسرحية «شوهت التاريخ» لأنها قارنت وفاة طفل يهودي في المحرقة الهتلرية الألمانية بقصة طفل عربي «يزعم أن والديه تخليا عنه عندما فرا من حيفا عام 1948». ودعت الخطابات لوقف تمويل مثل هذا النوع من المسرحيات.

من هو كنفاني؟

ولد غسان كنفاني في سنة 1936 في عكا. واغتيل في بيروت في سنة 1972، حيث كان كاتبا فلسطينيا، وعضوا بارزا في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. اغتيل في انفجار سيارة مفخخة يعتقد أن الاستخبارات الإسرائيلية هي التي وضعتها. واعتمد في روايته «عائد إلى حيفا» على ما حدث لعائلته. كان والده محاميا، وأرسل غسان إلى المدرسة التبشيرية الفرنسية في حيفا. لكن، خلال الحرب العربية - الإسرائيلية في سنة 1948، اضطر كنفاني الأب وعائلته إلى الهجرة إلى المنفى في سوريا، وصارت حيفا جزءا من إسرائيل.

أكمل الصبي كنفاني تعليمه الثانوي في دمشق. ثم التحق بقسم الآداب العربية في جامعة دمشق، وبعدها بدأ التدريس في مدارس هيئة إغاثة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة (أونروا) في مخيمات اللاجئين.

لكن، قبل أن يكمل دراسته، طرد من الجامعة ونفي إلى الكويت بسبب انتماءاته السياسية، وخاصة لتورطه في حركات القومية العربية، وخاصة حركات يسارية بعد أن كان قد انضم إلى الدكتور جورج حبش إثر لقاء جمعهما في عام 1953.

في عام 1960، ذهب إلى بيروت، حيث زاد من نشاطاته السياسية، وعمل في منظمات وصحف ناصرية ويسارية، وصار عضوا فاعلا في سنة 1967 في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومن ثم المتحدث باسمها. وفي عام 1969، صاغ برنامج الجبهة الشعبية ذا الميول الماركسية اللينينية. عمل في صحف مثل «الحرية» و«الأنوار». ثم ترأس تحرير صحيفة «الهدف»، واشتهر بالكتابات السياسية والثقافية والمقالات التاريخية.

وفي 8 يوليو (تموز) سنة 1972، اغتيل غسان كنفاني في انفجار قنبلة زرعت في سيارته في بيروت. وكتبت صحيفة «نيويورك تايمز» في اليوم التالي خبرا عنوانه «انفجار في بيروت يقتل زعيم الميليشيات».

وكان كنفاني نشر روايته الأولى «رجال في الشمس» في بيروت في عام 1962، ثم بحثا علميا في الأدب الصهيوني، وبعدها دراسة كاملة عام 1967 «في الأدبيات الصهيونية». وكثيرا ما تطرق إلى تجربته الخاصة كلاجئ، وكان، كما جورج حبش، ماركسيا يعتقد أن الصراع الطبقي داخل المجتمع الفلسطيني والعربي له ارتباط جوهري بالنضال ضد الصهيونية ومن أجل قيام دولة فلسطينية. وطبعا، هو كاتب «عائد إلى حيفا»، التي تعتبر إحدى أبرز وأهم روايات الأدب الفلسطيني.

وتدور أحداث الرواية حول عائلة فلسطينية من حيفا، فقدت ابنها عندما أجبرتها القوات اليهودية على الرحيل مع تأسيس دولة إسرائيل سنة 1947 واضطرت إلى ترك طفلها بسبب غموض ظروف رحيلهم. خلال الرحيل، كررت العائلة محاولات العودة إلى حيفا للبحث عن الطفل، لكنها واجهت صواريخ وقنابل اليهود، إلى أن فقدت الأمل. وبعد عشرين سنه رجعت العائلة ووجدت الابن وقد ربته عائلة يهودية قادمة من بولندا، استحوذت أيضا على بيت الأسرة الفلسطينية وسكنته. وجدت العائلة الابن إذن، وقد أصبح يهوديا، ويذهب إلى معابد يهودية، ويصلي صلوات يهودية، ويلبس شال اليهود الديني. بل وجدته وقد انضم إلى جيش الدفاع اليهودي. غير أن الروائي اليهودي أدخل على القصة تعديلات بهدف التوفيق بين المأساة الفلسطينية وما حدث لليهود في ألمانيا الهتلرية.

وبينما كانت الرواية التي كتبها اليهودي بويز جائون تقدم كمسرحية في إسرائيل باللغة العبرية، كانت تقدم أيضا في واشنطن باللغتين العبرية والعربية، وذلك بهدف تشجيع الأميركيين العرب على مشاهدتها. عبرية أو عربية أو إنجليزية، الرواية الأصلية أو الرواية اليهودية، لقيت مسرحية «عائد إلى حيفا» عداء عنيفا من جانب المنظمات اليهودية التقليدية. لكن اندي شلال، العراقي الأميركي المسلم، قال لـ«الشرق الأوسط» إنه سيبقى متفائلا على المدى البعيد.