هل تنبأ الأعشى وطرفة وعمرو بن كلثوم بالربيع العربي؟

شعراء العرب واجهوا نزق السلطة بحناجر مفتوحة للموت

عرض مسرحي تراثي للسعودي
TT

أعاد واقع الشارع العربي منذ عدة أشهر وإلى اليوم وما شهد من رحيل حكام لفظتهم شعوبهم، وما شهدته هذه الدول من ثورات وانتفاضات شعبية عرفت بـ(الربيع العربي)، أعاد هذا المشهد واقع العرب منذ أكثر من 1500 عام والمصير الذي آلت إليه الشعوب من قبل الحاكم الديكتاتور، وجهود الشعراء الذين يعدون في زمنهم خير من يعبر عن لسان الأمة في تصوير حالة الاحتقان عند الشعوب، وتحريض هؤلاء الشعراء على الثورة، دافعين ثمنا لذلك حياتهم وطارحين الفلسفة الشائعة في زمانهم حول جوهر الاستمرار، والموقف الوجودي من الحياة والعلاقات السياسية بين الحاكم والمحكوم.

ولأن التاريخ لا يكذب، حتى وإن كان يكتبه المنتصرون، فإن هذا التاريخ يقدم لنا نماذج لشعراء في أزمان متقاربة تابعوا الفلسفة الشائعة التي تقف من أحياء الدنيا وأشيائها موقف المتأمل لجوهر الاستمرار، ثم كيف كانت للديكتاتورية في زمانهم صولات وجولات بسطوتهم المرهبة وتحكمهم في أرزاق الناس وأعناقهم، دون احتجاج أو تمرد من قبل الشعب، المنكوب به، والمنكوب أكثر بذله في نفسه، ثم مصير الديكتاتور الذي تنتهي حياته إما بالقتل أو الموت داخل السجن، فالموت هو حاكم الحياة.

الأعشى

ها هو الأعشى صاحب منفوحة، صناجة العرب وكان شخصية صاخبة ضاجة في ديوان الشعر الجاهلي، وكان على الرغم من طبيعة عيشه في الصحراء رحالة بين أطراف الجزيرة العربية، جوالة بين ملوك الغساسنة، والمناذرة واليمن والحبشة، واختلط بالفرس والروم والأحباش وغيرهم من الشعوب المتاخمة للأرض العربية وقال الشعر في قضايا عصره جميعها، لكن لم تبد لديه أي نزعة عقائدية تنعكس على تأملات معينة في الحياة والإنسان، ولعل مرد ذلك أن الأعشى أحد ألمع الوجوه كل عام في سوق عكاظ الشهير كان مشغولا عما وراء الحياة، بالتمتع بظواهر الحياة الحسية المباشرة ببساطة وتلقائية غريبة، وعلى الرغم من كل ذلك فقد نجح الأعشى في إحدى قصائده التي خصصها في مدح المحلق التي انفردت بمضمون فكري، وتعمقها في ذكر خلق الملك النعمان وصولته وجولته الكبرى وسطوته المرهبة وتحكمه في أرزاق الناس وأعناقهم دون احتجاج أو تمرد من قبل المحكومين، لقد عبر عن الظلم وخضوع الشعب البائس.

ولا الملكُ النعمان يوم لَقِيتُه

بإِمَّتِه يعطي القُطُوط ويَأْفِقُ

ويَقْسِمُ أمرَ الناس يوما وليلة

وهم ساكتون والمنية تنطق

لقد كان الملك النعمان الذي التقاه الشاعر له يوم بؤس ويوم نعمى، يوزع عطاياه وهباته على من يلتقيهم، لقد كان يقسم أمر الناس بين السعادة والشقاء والشعب ساكت لا يتكلم ولا يحتج ولا يتذمر ولا يثور، لكن مصير الديكتاتور صاحب الصولة والجولة مات في السجن، سجن ساباط، حيث حبس كسرى النعمان فيه وهو «محزرق» أي مضيق عليه.

فذاك وما أنجى من الموت ربَّه

بساباط حتى مات وهو محزرقُ

ولم ينس الأعشى بعد هذا المقطع الحكمي أن يوحي للمستمع أنه ما دام هكذا حال الدنيا فلا يبقى للمرء إلا تمتعه بحياته إلى أقصى ما يستطيع، وأنه يريد أن ينسى طول يومه بين فتية في اللهو والشراب تحت خبأ أظله رواق مديد.

وقد أقطع اليوم الطويل بفِتْيَةٍ

مَسامِيحَ تُسْقَى والخِباءُ مُرَوَّقُ

طرفة بن العبد

أما طرفة بن العبد فهو «شهيد الشباب» الذي كان موته مقدرا وهو شاب مليء بتحدي الآخرين، حتى الملوك منهم، وعد من الشخصيات الأسطورية في قافلة الشعراء الملحميين الكبار، ووصف بأنه طليق إلى درجة التحدي لتقاليد الآخرين، وكان معتزا بكرامته، لكن ذلك مهد لقتله غدرا من قبل عمرو بن هند الذي أرسله هو وخاله المتلمس إلى عامله في البحرين وحمل كلا منهما رسالة مغلقة أوهمهما أنها تتضمن طلبا للمكافأة، إلا أن المتلمس فض الرسالة وعرف مضمونها ونجا من القتل، في حين أن طرفة الذي رفض فتح الرسالة مضى إلى حتفه فقتله عامل البحرين بناء على أمر الملك، وكانت رغبته الأخيرة أن يشرب الخمر ثم يقطع كاحله ومات دون الثلاثين من عمره.

لقد أطلق طرفة في مقطع نادر صرخة تجلت في نظرته العفوية للحياة، وكشف فيه عن موقف «ميتافيزيقي» إطلاقي وأبرز موقفه الوجودي، حيث رأى أنه متى ما تم له استنفاد حياته بسبل ثلاثة: الفروسية وتساقي الخمر ومعايشة المرأة، فإنه لن يسلم للقبر إلا العظم والجلد، لقد رأى طرفه أنه لا مهرب من الموت، فهو حاكم الحياة، والإنسان المعياش يجب ألا يسلم لهذا الحاكم في النهاية إلا نهايته الأخيرة.

ألا أَيُّهذا الزاجري أَحْضُر الوَغَى

وأن أَشْهَدَ اللذات هل أنت مُخْلِدي؟

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا

ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوَّدِ

عمرو بن كلثوم

لقد كان قتل طرفة محتوما وكأن البيت الأخير خاتمة لمأساته الشخصية، ولعل من حسن أو مساوئ الصدف أن يموت قاتله على يد شاعر، حيث عاجل الشاعر العنجهي عمرو بن كلثوم الملك عمرو بن هند بسيف معلق في رواق الملك وصرعه عندما حاول الملك إذلاله عن طريق إذلال والدة الشاعر من قبل والدة الملك في قصة مشهورة.

بأي مشيئة عمرو بن هند

تطيع بنا الوشاة وتزدرينا

تُهَدِّدُنا وتُوعِدُنا رويدا

متى كنا لأمك مُقْتَوينا

ألا لا يَجْهَلَنَّ أحد علينا

فنَجْهَلُ فوق جهل الجاهلينا

نزار قباني

وفي عصرنا الحديث، لم يكن الشاعر العربي الكبير نزار قباني دقيقا عندما شخص ذات يوم الواقع العربي بل والنفسية العربية عندما وصف العالم العربي بالنعجة المذبوحة والحاكم بالقصاب في بيته الشهير:

والعالم العربي إما نعجة مذبوحة أو حاكم قصاب

فالشاعر لو عاش اليوم بيننا فربما استبدل (نعجة مذبوحة) بـ(أسد يزأر)، ذلك أن بعض الشعوب العربية ضاقت ذرعا بحكامها جراء الظلم والاستبداد طيلة عقود، يحكمهم القصاب بالحديد والنار، لكن الشعوب ثارت على هؤلاء الحكام الذين لم يكونوا سوى (نمور من ورق)، والبعض ما زال يقاتل شعبه ولن يتنازل عن الحكم إلا بالقبض عليه أو قتله بعد أن يكون قد دمر بلده وسار على أشلاء وجثث الثوار إن لم يكن الشعب كله.