«كلمات» خالد الفيصل.. ليست كالكلمات

إصدار جديد يقتسم اللغة الشعرية مع الموقف

غلاف الكتاب
TT

صباح الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، كنتُ وبعض الأصدقاء نتجاذب أطراف أحاديث نتجاذب أحاديث شتى، وفجأaة ظهرت إشارة محطة «CNN»، بوضوح على شاشة التلفزيون، فالتفتنا جميعا وإذا بأحد برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك والدخان يتصاعد بكثافة شديدة من فوهته وأركانه، وبالمذيع يعلن أن طائرة صغيرة، اصطدمت بالبرج. واستمرت صورة البرج المحترق لنحو 20 دقيقة مع تدفق المعلومات تباعا حول الحادث، وفجأة. وللمرة الثانية، بوغت المشاهدون بطائرة جديدة تصطدم بالبرج الثاني وتشغله، ثم توالت المشاهد والأخبار، نقلا من نيويورك وواشنطن، والقصة بعد ذلك معروفة. في تلك اللحظة التفت إلى أصحابي قائلا: الآن في هذه الساعة، وُلدَ عالم جديد، وبدأ تاريخ جديد، ورحم الله الأيام الخوالي.

عندما تداعى البرجان في نيويورك بالولايات المتحدة الأميركية، التقط الأمير خالد الفيصل الذي كان وقتها يشغل منصب أمير منطقة عسير، اللحظة التي تنبئ بصناعة التحول الذي سيشهده العالم فيما بعد، ولن يعود بعدها إلى حالته السابقة.

وعلى الرغم من أن هذه الفكرة وردت في مقال للأمير نشره في 20 مايو (أيار) 2002، فإنها جاءت متضمنة في كتابه الجديد «كلمات»، الذي صدر مؤخرا. وفيه يتنقل القارئ في رحلة متناسقة الخطى مع الأمير الشاعر عبر كلمات ألقاها في مناسبات متعددة، امتزجت فيها اللغة الشعرية بالموقف الجريء.

فكلمات الأمير خالد الفيصل، تجمع بين جماليات اللغة التي تقترب من الشعر، وتمتزج بالعاطفة، والأفكار الرصينة التي تقدم رؤية فلسفية وفكرية للأحداث، وتناقش بشجاعة مواطن الخلل في النسيج الاجتماعي، ولديها الجرأة على تشخيص الواقع والإشارة بالبنان إلى مواطن الخلل.

صدّر خالد الفيصل كتابه، بعبارة، تشي بمضمون ما فيه:

«أجمل الكلمات

أقلها حروفا..

وأبلغ الجمل

أقلها كلمات»

وعلى طريقة «السهل الممتنع»، راح الأمير يوزع كلماته بين دفتي الكتاب، التي تقدم للقارئ عصارة التجربة التي خاضها الأمير، الذي عشق الحرف كما عشق الرسم بالفرشاة، ولذلك اتسمت كلماته التي ألقاها في مناسبات كثيرة بشاعرية عذبة، ولغة مترفة، لكنها أيضا تحتوي على توثيق للأحداث التي عاصرها خالد الفيصل.

يقع كتاب «كلمات» في 207 صفحات من الحجم الكبير، ويجمع الكلمات والمقالات والخطب التي ألقاها خالد الفيصل، في مناسبات متعددة، بالإضافة لآراء أدلى بها الأمير في مناسبات متفرقة.

الكتاب يحفل بالنصوص القصيرة والكلمات التي ألقاها الأمير في مناسبات متعددة، ولأن خالد الفيصل يمتلك حسا مرهفا بجمال اللغة، فهو يستخدمها لإثراء النص الذي يقدمه، ولديه القدرة على أن يمتع المستمعين، بلغته الشاعرية التي طالما كسرت صرامة المناسبات الرسمية. ففي كلمة ألقاها في الدمام شرق السعودية في حفل توزيع جائزة الأمير محمد بن فهد بن عبد العزيز، في أبريل (نيسان) 1989، يقدم معزوفة لغوية تقتسم الإيقاع بين جبال عسير وشطآن الخليج.. يقول:

من الجبل الأشم.. إلى الشاطئ الأغر

من عروس المصائف إلى درة الخليج

من سحابة الجبل الحالم.. إلى موجة الشاطئ الناعم

من جبل الورد والكادي.. إلى نسيم الساحل الهادي

جئت أحمل شوقا..

ويفتتح الكتاب، بخطاب أذاعه بصوته عبر برنامج «يا شباب الإسلام» في الإذاعة السعودية في عام 1966، يقول فيه:

«حين ننظر إلى المنجزات التطبيقية في العصر الحديث نصاب بالذهول حقا ونعتقد مخدوعين أن هذا النجاح إنما يقدم برهانا على صحة الأصول العامة للفكر المعاصر، الذي يكتسح عقول الكثير من المجتمعات والأمم الحديثة. إن بريق الحضارة المادية الحديثة يخدع الأبصار خصوصا حين نشاهد منجزات الغرب العلمية، وما استطاعت الوصول إليه في مختلف ميادين الإنتاج المادي».

من غيّب البسمة؟

ويضم الكتاب، بعضا من مواقف خالد الفيصل، التي اتسم بها، وتميز من خلالها بشجاعته في مواجهة التطورات التي عصفت بالبلاد خلال مرحلة ما سمي بـ«الصحوة» وما أعقبها، وخاصة مقاله الشهير «من غيّب البسمة..»، والذي احتد الجدل بشأنه في الساحة الفكرية السعودية، واعتبر وقتها تشخيصا لحقيقة الوضع الذي استشرى فيه التحريم والتكفير حتى كاد يغلق منافذ التفكير والإبداع، وفي هذا المقال مخاطرة خاضها الأمير بالتصدي لتيار شديد المراس، واجه هذا المقال بسيل من الردود الغاضبة.

فبعد أن يستعرض الأمير خالد الفيصل، في مقاله «من غيّب البسمة..»، طبيعة الحياة العفوية الجميلة في جبال وسهول منطقة عسير (جنوب السعودية)، قبل أن يجتاحها التشدد، يتساءل:

«ماذا حدث لهذا الإنسان؟ كيف ذهبت عنه البهجة والفرحة؟ من غيب الابتسامة عن وجهه المشرق؟ من أسدل ستار الكآبة على الوجوه؟ من خوف الأطفال من اللعب والضحك والمرح؟ من خوف الكبار من الحياة؟ من ألغى السعادة ونشر الأحزان؟ من أقنع الأبناء أن يكفروا آباءهم والبنات أن يكفرن أمهاتهن؟.

من علم طفل دار الأيتام أن وطنه الإسلام - وليس السعودية - وأن مهنته المستقبلية هي الجهاد، وأن مشاهدة التلفزيون السعودي حرام لأن فيه موسيقى؟ من حوّل ساحات المدارس والجامعات إلى معسكرات حركية وجهادية؟! من حوّل المخيمات الصيفية إلى معسكرات تدريب على الأسلحة؟ من أقنع الشباب السعودي بأن أقرب طريق للجنة هو الانتحار, وقتل المواطنين والمقيمين ورجال الأمن وتفجير المجمعات السكنية؟ من فعل بنا هذا؟

أعتقد أن كل من في هذه البلاد يعرف الفاعل المسؤول عن كل هذا, وما هي إلا عودة للكتب والمطويات والأشرطة, التي وزعت بمئات الآلاف, في المدارس والجامعات, والمساجد والجمعيات الخيرية, في السنوات العشرين الماضية, لنجد الأسماء مطبوعة عليها بكل وضوح! ومواقع الإنترنت تكشف عن البقية.

ولكن السؤال المهم الآن هو: من يستطيع أن يغير هذا الواقع الجديد المؤلم؟ ومن يعيد إلينا عقول أبنائنا التي اختطفها الضالون المضللون؟».