تأملات فرنسية في الانتفاضات العربية

عوامل اجتماعية وسياسية كانت تتفاعل تحت السطح من دون أن يراها أحد

غلاف الكتاب
TT

هذا الكتاب صدر في باريس مؤخرا لكي يحلل «على الساخن» انتفاضاتنا العربية المتوالية فصولا حتى الآن من أجل الحقيقة والحرية. وهو من تأليف مؤرخ وصحافي في آن معا؛ الأول هو بنيامين ستورا المختص بشؤون المغرب العربي في الجامعة الفرنسية، والثاني هو أدوي بلينيل الصحافي المعروف في جريدة الـ«لوموند». وكلاهما عاش في الجزائر ردحا من الزمن، بل إن الأول من مواليدها؛ حيث إنه يهودي جزائري. البعض يشبه انتفاضاتنا بالثورة الفرنسية، والبعض الآخر يرى أنها أقرب ما تكون إلى ثورة شعوب أوروبا الشرقية التي أدت إلى سقوط الشيوعية وجدار برلين؛ أي سقوط النظام الحديدي الستاليني للحزب الواحد. فما حقيقة الأمر يا ترى؟ عن هذا السؤال يحاول أن يجيب المؤرخ والصحافي من خلال هذا الحوار التفاعلي الجاري على مدار الكتاب.

التساؤلات التي يطرحها الكتاب هي من النوع التالي: كيف تهاوى النظام العربي الاستبدادي المطلق السابق بمثل هذه السرعة؟ كيف استطاعت هذه الحركات الشعبية أن تفرض نفسها على الساحة دون طليعة تقودها أو أي قائد كاريزمي كما حدث للخميني مع الثورة الإيرانية مثلا؟

يبدو واضحا انبهار المؤلفين بالانتفاضات العربية التي أدهشت العالم وفاجأته وجعلته ينظر إلى العرب بطريقة أخرى أقل احتقارا وازدراء. وهما يحاولان تفسير سرها أو لغزها كما يفعل المثقفون العرب أيضا؛ كل من وجهة نظره. ولذلك يبلوران بعض الأطروحات ويقدمان بعض الفرضيات مسقطين بذلك بعض الأكليشيهات السلبية والأفكار المسبقة السائدة في الغرب عن العالم العربي، وهي أكليشيهات ذات طابع عنصري أو كولونيالي بغيض لا يفصح عن اسمه إلا نادرا.. فالنخب الثقافية والسياسية الغربية كانت قد اختزلت العالم العربي في مجرد عالم يستعصي على الحداثة والديمقراطية لأنه متعلق بالعروبة والإسلام، وسجنته لسنوات طويلة في المعادلة القسرية التالية: إما الأنظمة الاستبدادية الراهنة وإما الحركات الأصولية ولا حل آخر. بما أن المؤلفين مضادان للأطروحات العنصرية والاستعمارية، فإنهما ينقضان هذه الصورة الاحتقارية السائدة عن العرب في الغرب عموما وفرنسا تحديدا.. فالبعبع الأصولي ليس المفتاح الوحيد الذي يفسر كل ظواهر العالم العربي.. هناك عوامل أخرى مهمة ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار. يقول المؤلفان في أطروحتهما المركزية بأن العالم العربي أكثر تعقيدا من ذلك بكثير؛ فديناميكية التحديث الاجتماعي والسياسي كانت شغالة وفعالة تحت السطح ولكن غطت عليها الإشكالية الأصولية المفرقعة وحجبتها.. هذه الديناميكية مع كل المتغيرات المرافقة لها كانت شغالة ولكن لا أحد يراها من شدة التركيز على الإشكالية الأصولية، خاصة بعد «11 سبتمبر». من أهم العوامل التي تفسر اندلاع هذه الانتفاضات نذكر العوامل السوسيولوجية التالية:

تناقص النسل في السنوات الأخيرة؛ فالعائلة العربية لم تعد بطريركية ضخمة تضم عشرة أشخاص وإنما أصبحت ذرية لا تضم أكثر من طفلين أو ثلاثة على أكثر تقدير. هناك أيضا النقمة الاجتماعية على الأنظمة التي حكمت بعد الاستقلال وفشلت في إنجاح التنمية وحل المشكلات. هناك أيضا عدم الاقتناع بالتصويت والامتناع شبه الكلي عن المشاركة في انتخابات مزورة سلفا. نذكر أيضا من بين العوامل الاجتماعية التي أدت إلى اندلاع الانتفاضات ازدياد النخب الحضرية في المدن، ثم تعميم التعليم على أوسع نطاق. وبالتالي، فليست وسائل المعلوماتية الحديثة مثل «فيس بوك» و«تويتر» و«العربية» و«الجزيرة» هي التي أدت إلى اندلاع الانتفاضات العربية، وإنما عوامل اجتماعية وسياسية عميقة كانت تشتغل تحت السطح دون أن يراها أحد. إن الأطروحة الأساسية للمؤلفين تقول بأن المجتمعات العربية كانت تشهد نقلة عميقة باتجاه الحداثة منذ سنوات عديدة، ولكن الغرب كان يعتقد أنها غارقة في الأصولية! وهذه النقلة تتمثل في السياسة العائلية الجديدة، ومكانة الفرد في المجتمع، ودور الشبيبة المتصاعد.. إلخ. وهذه المتغيرات كانت تعني إقامة علاقة جديدة مع العالم مختلفة عن العلاقة التقليدية لجيل الآباء. وفي هذا الصدد، يلوم المؤلفان قادة الغرب، خاصة القادة الفرنسيين على تشبثهم بالأكليشيهات الخاطئة والأحكام المسبقة عن العرب والمسلمين.. فهم يحصرونهم داخل الإشكال الأصولي المضاد للحداثة. وهذا تقييم عنصري في الواقع وليس علميا. ولهذا السبب، فإن الانتفاضات العربية لم تحظ بتعاطف حقيقي من قبل قادة الغرب على الأقل في البداية؛ فقد كذبت تصورهم عن العالم العربي وأجبرتهم على مراجعة أفكارهم. ويرى المؤلفان أن هذه الانتفاضات تجبرنا على تغيير نظرتنا عن عالم العرب والإسلام. فقد كنا نعتقد أنه يستعصي على أفكار الحداثة والتقدم بسبب انغلاقه المزمن داخل أصوليته المقدسة، ولكننا اكتشفنا أنه يتوق إلى الحريات الديمقراطية مثله في ذلك مثل بقية شعوب الأرض، بل واكتشفنا أنه مستعد للتضحية من أجل الحرية والكرامة.

نلاحظ أن بنيامين ستورا يركز على فكرة أساسية وهي: ولادة الفرد في العالم العربي.. في السابق ما كان موجودا إلا من خلال طائفته أو عشيرته، أما اليوم فهو موجود بحد ذاته، ولذاته، ويريد تحقيق رغباته بغض النظر عن الانتماءات الجماعية التي تتجاوزه. إنه مهموم بسعادته الشخصية وتحقيق ذاته على هذه الأرض قبل أي شيء آخر.

والآن نطرح هذا السؤال: بأي شيء تشبه الانتفاضات العربية الثورة الفرنسية؟ بإلحاحها على المساواة والعدالة قبل كل شيء. فكما أن الثورة الفرنسية قضت على نظام الإقطاع والامتيازات التي كانت تتمتع بها طبقة النبلاء والعائلات الشهيرة ويحرم منها الشعب، فإن الانتفاضات العربية تريد القضاء على امتيازات الطبقة الحاكمة وحاشيتهم وعائلاتهم وملياراتهم.

بأي شيء تشبه تلك الثورة التي أطاحت بجدار برلين والشيوعية عام 1989؟ بتعطشها الهائل إلى الحرية. ويرى المؤلفان أن هذه الثورات العربية تدشن حلقة جديدة في تاريخ العالم العربي وربما في تاريخ العالم كله.. إنها ليست مهمة فقط بالنسبة للعرب وإنما أيضا بالنسبة لأوروبا والعالم المتوسطي بمجمله.. إنها تشكل انفتاحا هائلا على آفاق الممكن والمستحيل.

ويرى بنيامين ستورا أن الانتفاضات العربية ليست وليدة «فيس بوك» كما توهم بعضهم، وإن كان قد سهل من حركتها وساهم في تنشيط العملية الانتفاضية أو الثورية، والدليل على ذلك أنه لزم الخروج من العالم الافتراضي والنزول إلى الشارع لكي تحصل الثورة. وبالتالي، فـ«فيس بوك» وحده لا يكفي لصنع ثورة.. إنه مجرد أداة. ويبقى أن صانع الثورة الحقيقي هو الإنسان؛ أي ذلك الشخص الذي قرر النزول إلى الشارع والمغامرة بنفسه وتقديم التضحية العظمى التي لا تضحية بعدها.

أخيرا، على الرغم من أن بنيامين ستورا يشارك الصحافي بلينيل حماسته للثورات العربية، فإنه يظل أكثر حذرا، فهو يتساءل: هل ستتم مصادرة الثورات من قبل الجيش؟ أم من قبل الأصوليين السلفيين؟ أم من قبل طرف آخر؟ لا نعرف. التطورات مفتوحة على الاحتمالات كافة؛ فقد تؤدي هذه الثورات في نهاية المطاف إلى تشكيل نظام ديمقراطي حقيقي في البلدان العربية كما فعلت الثورة الفرنسية عام 1987، أو ثورات بلدان أوروبا الشرقية ضد الشيوعية عام 1989، وقد تجهض عن طريق سطو العسكر أو الأصوليين عليها.. لا نعرف ماذا سيحدث بالضبط. ينبغي أن ننتظر قليلا لكي تنجلي الأمور.

نقطة الخلاف الوحيدة بين الرجلين تتعلق بالمغامرة الليبية لساركوزي؛ فالصحافي بلينيل يشكك في نوايا الرئيس الفرنسي ويرى أن مساعدته لليبيين ليست إلا من قبيل صرف الأنظار عن سياسته العدائية والعنصرية ضد العرب والمسلمين داخل فرنسا ذاتها. وأما ستورا الذي لا يحب ساركوزي أيضا، فإنه يعتقد أنه على الرغم من حقيقة نواياه، فإن عمله كان إيجابيا إذا ما أدى إلى سقوط الطاغية وتحرير الشعب الليبي من براثنه.. ولا يمكن إلا أن نشكره على ذلك.