حلقة جهنمية من الدوران حول النفس

هل السبب الحرب العالمية الأولى أم سيطرة العسكر؟

غلاف الكتاب
TT

يتساءل المؤلف محمد الرميحي، في كتابه الجديد «اضطراب قرب آبار النفط»، عن نقطة البداية التي تتحرك منها الصيرورة العربية في حلقة مفرغة من العمل السياسي والتنموي، باحثا في إطار الدائرة. يضع افتراضات متعددة وكثيرة، عساه يعثر على نقطة النهاية لهذه المعضلة التي ما زلنا ندور في حلقتها الفارغة.

هل البداية ما حدث بعد الحرب العالمية الأولى من سيطرة أجنبية على مقدرات العرب بعد أن ناضلت نخبتهم للتخلص من الهيمنة العثمانية، ووقوعهم جميعا مسلوبي الإرادة في ما رسم لهم من أوطان؟..

هل هي تسلط العسكر ذوي الثقافة المحدودة، بعد ذلك، على مقدرات السياسة العربية، بعد ضعف نسبي أصاب السيطرة الغربية بُعيد الحرب العالمية الثانية؟..

هل بسبب الانتكاسات الكثيرة أمام الصهيونية بكل أشكالها، وخسارة الحروب التي خيضت بكل مسمياتها، يمكن أن تكون نقاط البداية في الدوران في المكان؟

من وجهة نظر المؤلف، لقد ابتليت منطقتنا العربية المشرقية بعاملين اثنين، الأول أنها أنيط بها حل مشكلة عَجَز الغرب عن حلها، وهو ما عُرف عندهم بـ«المسألة اليهودية»، حيث أنشئت دولة إسرائيل فأصابت المجتمعات العربية باختلالات عميقة. والثاني أننا كُتب علينا نتيجة صدفة الجغرافيا، أن نغذي العالم الصناعي الكبير بالطاقة، وبالتالي تصبح أرضنا ميدان صراعاته، وبؤرة مصالحه، وسوق بضاعته.

هذه البلوى الثنائية وقعت على مجتمعات قبلية زراعية بسيطة التكوين الاجتماعي، لم يتح لها أن تهضم واقعها، وأن تخطط لمستقبلها، وأن تستفيد من تجربة ماضيها.. مجتمعات خالية الوفاض من المعرفة ركنها التاريخ لقرون خارج حركته لا تملك من المناعة الداخلية ما يساعدها على مقاومة التمزق الداخلي.

التحدي ضخم، الاستجابة عفوية وساذجة، فلم نعرف كيف نحارب ولا كيف نسالم. لم نعرف كيف نطور التعليم فازدادت الخرافة، ولا كيف نبني المجتمع المدني فازدادت السجون حتى أصبحت الأوطان سجونا كبيرة بعد أن صادرنا الصوت والحنجرة والحق في النقد، وحق المرأة في المشاركة في الرأي والحياة. وانعكست ثروة النفط على ثقافتنا فأصبحنا نفاخر بالاستهلاك بدل الابتكار والإنتاج، والنظر إلى الخلف دون الالتفات إلى الأمام، فصارت معظم معاركنا الاجتماعية من الماضي.

مرت شعوب قبلنا بمراحل تاريخية من القمع والتحدي والإقطاع والاستغلال، ففي التاريخ الحديث حلت نكبة الفاشية والنازية بإيطاليا وألمانيا، وحلت الديكتاتوريات بأشكال مختلفة بشعوب أخرى، لكن معظمها وصل إلى حريته وإلى شاطئ الأمان بصرف النظر عن الطرق التي سلكها لأنه سبر غور مشكلته واستطاع أن يضع إصبعه على نقطة البداية، فاستطاع بالتالي الوصول إلى النتائج المرتدة لمعالجتها، في الوقت الذي ما زلنا نمعن فيه في السير حول الذات في نقطة لا نعرف مكانها من الدائرة. محور هذه المقالات التي ترصد أحداثا سابقة ما زالت تجلياتها قائمة بيننا، ودروسها تتكرر، هو ما يؤكد الحلقة الدائرية للأحداث، التي لا تكاد تجد لها مخرجا، تتحرر من خلاله من تلك الحلقة في سبيل التدرج صعودا إلى الأفضل، تنمويا وسياسيا، كأن الزمن لا يمر بنا.

هذا المحور يملك ثلاثة أضلاع جلية وضلعا رابعا خفيا. الأضلاع الثلاثة أولها عرب المشرق (فلسطين، لبنان، العراق، مصر). والضلع الثاني هو الولايات المتحدة الأميركية كعنصر فاعل في المتغيرات، أو مراوحة المتغيرات في فضائنا. الضلع الثالث دول الخليج، مصدر الطاقة في الأغلب. أما الضلع الرابع الخفي والمؤثر، فهو معطيات الدفع التي خلقتها ثورة إيران الإسلامية، إضافة إلى تلك الأضلاع الثلاثة. وعندما أتحدث عن العنصر الخفي، فإني أعني «السياسة الإيرانية» وتجلياتها من تعاون منضبط مع الجوار العربي تحت حكم معتدلين إلى تناقض واضح يرمي إلى تصدير الثورة تحت حكم متشددين في صيرورة الدولة - الثورة. ولا يخفى على القارئ أن بعض السمات بين المعتدلين والمتشددين الإيرانيين هي سمات مشتركة أيضا. الضلع الرابع أسهم إلى حد ما في زيادة تفاعل الأضلاع الثلاثة الأخرى.

ضمور التنمية أو ندرتها تزيد من جهة الشعوب في الإغراق في دائرة الفقر والقهر، وثروة النفط من جهة أخرى تزيد من الإنفاق الباذخ دون توجه تنموي. وينتهي الأمر إلى إحداث تأثيرات فكرية واجتماعية وسياسية سلبية، يُستقطب من خلالها الفقراء إلى أشكال من الآيديولوجيات المتعصبة والكارهة والثأرية تزيد من حدة الاستقطاب، وتفاقم الفرقة بين مجتمعاتنا العربية وفي داخلها، ومن ثم ضياع التنمية. وفي الحالتين الفقر المدقع والغنى النسبي، نجد أن هناك فرصا ضائعة في هذه المنطقة من العالم، نتيجة الدوران حول النفس، وهي تزداد ضياعا، وتخلق مشكلات تتضاعف مع الزمن.

لم تفاجئنا الانتفاضات العربية بدءا من ديسمبر (كانون الثاني) 2010، ونحن نراوح في المكان والزمان، كان لا بد للدوار أن يصيب الدوران وأن يستجيب المطالبون للمطالب الاحتجاجية قبل أن تتفاقم. فمن تونس إلى اليمن إلى ليبيا إلى مصر إلى سوريا، وقد تمتد إلى مناطق أخرى لأن الظروف نفسها تعيشها بقية البلاد العربية. ومع تفجر هذه الانتفاضات تتفجر أيضا ردود الفعل المختلفة. الشرق الأوسط جراء ذلك في مرحلة تكاد تتصف بالفوضى. يمكن تحريك الجماهير وإطاحة النظم، تبين أن ذلك ليس صعبا، لكن الصعب هو بناء الدولة الحديثة ذات المؤسسات. وهذا لن يتحقق في المدى القصير أو ربما المتوسط. سوف تغرق دول الانتفاضات العربية في ترتيب بيتها الداخلي لفترة طويلة. وليس من المستبعد أن تفيض تلك الانتفاضات إلى الجوار، كأن تفيض سوريا على الأردن، أو اليمن على الخليج، أو ليبيا على الجزائر. هناك ترحيب واسع من البعض على أنه «ربيع العرب»، لكن هذا الاستبشار هو من قبيل المرغوب فيه، ولكن ليس من المحتمل تحققه، بمعنى الوصول إلى دولة حديثة مدنية وديمقراطية. قد تتطور الأمور في السنوات القليلة المقبلة إلى أشكال من التوجهات السياسية الصراعية في أساسها في الداخل الوطني أو في الجوار الإقليمي، وقد تنتعش الأصولية السياسية باتجاه البدء من جديد من الصفر. يرى المؤلف أن رد فعل مجلس التعاون الخليجي، الذي كان مفاجئا في محاولة البدء بتوسيع نظام التعاون بإدخال الأردن والمغرب، هو رد فعل أقل ما يقال فيه إنه محاولة لتفادي الأسوأ. فالاضطراب في الجوار العربي مقلق، كما أن إيران تطور سياساتها باتجاه المخاطرة وبجانبها دول صغيرة.

إيران تتسلح بسرعة بكل أنواع الأسلحة التقليدية وربما غير التقليدية، والسلاح في حد ذاته في حال تراكمه يغري بالتوسع، هذا هو درس التاريخ. إذا اجتمعت طموحات إقليمية وحكومة مركزية ذات صبغة شمولية وتكدّس السلاح، فإن تلك وصفة للتوسع. قلق دول الخليج الصغيرة من التوسع الإيراني جعلها تنظر إلى الجوار العربي الأكثر انسجاما سياسيا معها، الأردن والمغرب. إلا أن ما يقلق الخليج فوق ذاك، هو التردد الممكن من الدول الكبرى: الولايات المتحدة الأميركية بعد الأزمة المالية وحربي العراق وأفغانستان ليست لديها الرغبة ولا حتى القدرة على الدخول في نزاعات كبرى، أوروبا مشغولة بالأزمة الاقتصادية في دائرة اليورو التي تعاني إخفاقات اضطرت دولها إلى خفض الإنفاق العسكري، اليابان مشغولة بقضايا اقتصادية وسياسية في الداخل. لم تعد أي من هذه الدول راغبة أو قادرة في دورة أخرى من رفع الأثقال الدولية.

من هنا فإن دول مجلس التعاون، مع كل المخاطر المحيطة، لجأت إلى أن تقلع شوكها بيدها، فسارت إلى توسيع مجلس التعاون، الذي قد يتمخض عنه تساند اقتصادي في مقابل تساند عسكري محتمل بين الدول الست زائد الدولتين المغرب والأردن.

إلا أن الأهم هو مطالب الإصلاحات الداخلية التي نمت في دول الخليج جراء وضع داخلي طبيعي بعد اتساع الطبقة الوسطى وشيوع التعليم، وأيضا تأثير رياح الانتفاضات العربية المحيطة، خاصة الإصلاحات السياسية والاجتماعية، وهي مدخل إن تعطل كثيرا، فقد تجد فيه إيران مسربا لتدخلات للإخلال بالتوازن الخليجي الداخلي، وربما في حال تسارع الأمور قد يؤدي إلى حروب صغيرة أو كبيرة بعد شبه السيطرة الإيرانية سياسيا على العراق.

يربط الكتاب الأحداث بعضها ببعض لتتكامل الرؤية، وليكون دليلا للإنسان العربي العادي الخاسر الأكبر الذي يؤخذ يمنة ويسرة في صحراء الاضطراب، ويغذى بشعارات تتغير في الشكل وتحافظ على المضمون، لأنها شعارات تهدف إلى الحشد الجماهيري والتجهيل من دون أن تخضع للمناقشة العقلية من جهة أو تقدم حلولا معقولة للناس من جهة أخرى، تساعد على فك هذه الحلقة الجهنمية من الدوران حول النفس.

«اضطراب قرب آبار النفط»

المؤلف: محمد الرميحي

الناشر: دار «الساقي» - بيروت 2011