مفكرو النهضة العربية في قراءة حديثة

إبراهيم العريس يستعيد أدوارهم وسيرهم وتأثيراتهم اللاحقة

غلاف الكتاب
TT

«وجوه من زمن النهضة»، لمؤلفه الناقد السينمائي والصحافي إبراهيم العريس هو الكتاب السادس في سلسلة كتب «معارف»، التي تصدرها «مؤسسة الفكر العربي». وهو الكتاب الثاني الذي يتناول فيه المؤلف قضايا النهضة الفكرية العربية؛ فكتابه الأول «حوارات النهضة الثانية» الذي قصره على حوارات مع مفكرين عرب مخضرمين بين القرنين العشرين والحادي والعشرين، لم يتناول فيه أيا من مفكري النهضة الأولى (بين القرنين التاسع عشر والعشرين). وعلى الرغم من أن كتاب إبراهيم العريس الجديد الذي يجمع سير عدد من أولئك المفكرين، وهم سبعة عشر مفكرا صنعوا ما عرف بـ«فكر النهضة العربية»، يشبه كتب السيرة التي تتناول حياة أي كاتب أو أديب أو فنان.. فإنه يتميز عنها بنفسه النقدي لتلك السير، فهو لا يكتفي بما ورد عن حياة هؤلاء المفكرين في مؤلفات ودراسات ومذكرات ووثائق سبق أن تناولت سير حياتهم، بل يعمل فيها أيضا التحليل والمقارنة والتساؤل والاستنتاج، وكأن كتاب العريس قراءة حرة في كتب رجال النهضة العربية ورحلة استطلاع في نتاجاتهم الفكرية وجوانب حياتهم، لاستكشاف زوايا ما زالت مبهمة أو على الأقل معتمة، ليلقي عليها الضوء، فجاءت عناوين الفصول التي يتألف منها الكتاب موزعة بين تلخيص مكثف لنتاج المفكر النهضوي الذي يتناول سيرته، أو تساؤل يلخص إشكالية يطرحها العريس بعد استخلاصها وأحكام صوغها من جملة نتاج ذلك المفكر النهضوي، أو حكم قد يبدو للقارئ غير مألوف ومخالفا لما هو معروف عنه في كتابات جامعي سيرته.

لذا تحمل عناوين الفصول التي تتناول المفكرين النهضويين، علاوة على اسم المفكر، خلاصة قراءة العريس لفكره، فجاءت عناوين الفصول على النحو التالي: «نجيب محفوظ ذكريات شخصية ومحاولة أولية لإعادة قراءة أعماله»، «يحيى حقي عين ترصد التخلف وعين تواكب السير إلى الأمام»، «روز اليوسف اسمها الأصلي فاطمة اليوسف.. ابنة طرابلس اليتيمة التي أسست مسرحا وصالة»؛ «توفيق الحكيم مسار متألق بين روح تعود ووعي مفقود»، «عباس محمود العقاد ساخر موسوعي صنع نفسه بنفسه»، «طه حسين البحث عن نهضة تستوعب العصر وتهضم الأصالة»، «محمد كرد علي الانفتاح على العالم دواء لجمودنا وتخلفنا»، «جبران خليل حبران أحلى الحقائق تكون أكثر جمالا وفائدة حين لا تقال»، «أمين الريحاني أديب شاعر مؤرخ أم مبعوث أميركي إلى المنطقة؟»، «شكيب أرسلان نحو حل أمثل لمشكلة العلاقة بين العروبة والإسلام»، «جورجي زيدان الإسلام ضرورة عربية والأديب كاتب عمومي»، «محمد رشيد رضا عودة إلى الجذور على أن ندرس علوم الغرب وتقنياته»، «عبد الرحمن الكواكبي بين حب القاهرة واستبداد إسطنبول ولدت الفكرة العربية»، «جمال الدين الأفغاني ألغاز في الحياة وفي الممات»، «رفاعة رافع الطهطاوي عين ترصد وعقل ضد الانغلاق على الذات».

يعرف المؤلف الفكر النهضوي فيقول في مقدمة كتابه: «لو تحرينا خلاصة ما جاء به الفكر النهضوي العربي، لوجدناها متحلقة حول هذه الكلمات الثلاث: العقل، التسامح، الواقعية. فالفكر النهضوي العربي هو في حقيقته بحث متعدد الأصوات حول العقل والتسامح والواقعية». وما هو زمن النهضة التي اصطلح على تسميتها بـ«النهضة العربية»؟ هو تلك الفترة الزمنية التي امتدت بين أواسط القرن التاسع عشر وأواخر الربع الأول من القرن العشرين؛ ففي تلك الفترة التي تميزت ببداية انحدار السلطنة العثمانية وريثة الحضارة العربية الإسلامية والمسهمة في إغنائها، ونهاية تلك السلطنة، برزت نزعات فكرية حرصت على الاستفادة من التقدم الغربي الذي انبهرت بتقدمه وقدراته وغلبته وفكره، من جهة أولى، وعلى الحفاظ على الجوانب المشرقة في الفكر الإسلامي، من جهة ثانية. فعُرِف هذا الفكر العربي التجديدي بأنه فكر نهضوي أو إصلاحي إسلامي أو عصر تنوير عربي، بما في ذلك من لعب باشتقاق الكلام من بعضه بعضا، فإذا كان القرن الثامن عشر الذي عرف في أوروبا باسم عصر النهضة الأوروبي، قد أطلق عليه تسمية «عصر الأنوار»، فإن حركة الفكر العربي التي سعت إلى المزاوجة بين الفكر الغربي النهضوي أو فكر الأنوار، وبين الفكر الإسلامي، حرصت على أن تنفض الغبار عن هذا الفكر وأن تطعمه بمستجدات الفكر الغربي، فأطلق عليها من باب التيمن باسم «الأنوار» الأوروبية اسم الفكر «المستنير»، أي المستفيد من فكر النهضة الأوروبي، من دون التخلي عن الفكر الإسلامي ومبادئه. لذا فإن تلك الحركة التي سادت الحياة الثقافية العربية في الفترة الزمنية التي أشرنا إليها، سميت أيضا عصر التنوير العربي أو الحركة الإصلاحية الإسلامية.

في مقدمة الكتاب يقول المؤلف أيضا: «كان الإسلام أول دين سماوي يطرح العقل وسيلة لوصول الإنسان إلى ربه وإلى إنسانيته. وكان العقل واتباع سبيله في تاريخ الإسلام واحدة من مفاخر هذه الأمة وهذا الشعب. وكان عصر النهضة، وفي وسط الظلمة التي قام فيها، إطارا يبعث أنوار ذلك الماضي المشع. وفي يقيننا أن اكتشاف مفكرينا المحدثين لعصر النهضة، هو الطريقة الفضلى للعودة إلى اكتشاف التراث والتاريخ الإسلاميين.. واكتشاف تراثنا وتاريخنا عبر الفكر النهضوي هو الوسيلة الفضلى التي تمكننا من إدراك حقيقة هذا الدين العظيم، هذا الدين الذي لا يزال يشع بأنوار العقل حتى يومنا هذا».

في الفصل الذي يتناول سيرة جبران خليل جبران يقول المؤلف: «إذا تبحر المرء في عشرات الكتب ومئات الدراسات التي وضعت عن جبران، في لبنان وخارجه، سوف يجدها منقسمة إلى قسمين؛ قسم حافل بالتقريظ والمديح، يضع جبران في مكانة أنصاف الآلهة، ودائما عبر كلام مسهب، ولا يعني شيئا حول (عبقريته الأدبية)، وكلام مفخم كذلك لا يعني شيئا في حقيقة الأمر، حول تفاصيل حياته؛ وقسم ثان يبدو في نهاية الأمر أكثر جدية وتحليلا، يفضح مجرات تلك الحياة ويخضع الرجل إلى ما يبدو شطحيا نوعا من التحليل النفساني.. ولكن دائما من دون إطلالة حقيقية على أدبه وكتاباته».

يتساءل المؤلف هل هناك، في الأصل، جبران حقيقي؟ ويبدأ الإجابة عن هذا السؤال بما يلي: «هناك جبران أعاد اختراعه أول الأمر، جبران نفسه.. ذلك أن هذا الكاتب الذي لا شك في شدة ذكائه عرف دائما كيف يبني سيرة جبرانية تطل برأسها من خلف السيرة الأخرى التي يكاد لا يعرف حقيقتها أحد..».

يشكك المؤلف في أن يكون جبران قد تعلم حقا الإنجليزية في تلك الفترة اليسيرة (التي قضاها في أميركا)، بحيث بات قادرا على أن يؤلف ثمانية كتب فيها». ويتساءل: «لماذا كل ذلك التفاوت، لغة ومعنى وأسلوبا، بين كتاب (النبي) كنص كتبه جبران بالإنجليزية خلال فترة علاقته لماري هاسكل، وبين نص عادي عاد وكتبه بعد انفراط علاقته بها، بعنوان (حديقة النبي)، فكان من آخر ما كتب وتميز بهشاشة وسذاجة ملفتة؟». ولا يخفي إبراهيم العريس أنه «حاول قراءة كتاب (النبي) مرات عدة، لكنه أبدا لم يحب الكتاب، حتى إنه لم يستطع استكمال قراءته حتى النهاية، متسائلا: ترى كيف كان يمكن لمفكر خلال سنوات الحداثة المطلقة والإبداع العاصف خلال الربع الأول من القرن العشرين، أن يكتب ذلك الإنشاء، ويقنع الملايين بأنه نص أساسي؟

أما الفصل الذي يتناول سيرة عباس محمود العقاد، فيستهله المؤلف بمقولة شهيرة للعقاد نفسه، فيجعلها مدخلا لسيرة حياته: «من أجل حماية الدستور يجب أن يسحق أكبر رأس في مصر». تجاوز عدد مؤلفات العقاد «أربعين كتابا وصلت الأصالة بالمعاصرة، والعلم بالفن، والمعلومات العامة بالتحليل الشخصي». ومن تلك الكتب: «النازية والأديان»، «الشيوعية والإسلام»، «عبقرية محمد»، «الحكم المطلق في القرن العشرين»، «هتلر في الميزان».. إلخ. «في هذه السلسلة من الكتب أراد العقاد أن يكشف عن دور الفرد في صناعة التاريخ. والفرد، في نظره، هو ذلك الإنسان المتميز، القائد الفاعل في مجتمعه، لا من خلال السيف فقط، بل من خلال الفكر والأخلاق والمثابرة».