مئوية نجيب محفوظ ضحية الثورة المصرية

«عبث الأقدار» يلاحق صاحب نوبل

TT

* بينما تحتفل أبوظبي والأكاديمية السويدية لجائزة نوبل بمرور مائة سنة على ولادة نجيب محفوظ، تبدو مصر غارقة في ثورتها، وكأنها نسيت ابنها صاحب نوبل، أو أنها تؤجل ذكراه إلى وقت لاحق. الأمر لم ينقض في القاهرة، والمحاولات لاستنهاض الذاكرة مستمرة، والاقتراحات لتعويض ما فات تتدفق. فثمة من يلفت النظر اليوم إلى أن نجيب محفوظ ليس مجرد ذكرى، إنه كنز للثورة لا بد لها أن تنهل من عطاءاته.

هل فعلا حصد نجيب محفوظ جائزة نوبل في الآداب عام 1988، مسطرا للعرب سبقا تاريخيا في سجل هذه الجائزة العالمية العريقة؟ وهل حقا حلت مائة عام على ميلاد عميد الرواية العربية، الذي هلّ على دنيانا في 11 ديسمبر (كانون الأول) 1911؟! هذه الأسئلة وغيرها، حقائق يعرفها التاريخ، ويسجلها بأحرف من نور في متونه وهوامشه، لكنني أضعها هنا على هذا الورق ليس من باب السخرية أو التهكم، وإنما من باب الاستهجان والحسرة على حائط الثقافة المائل، ودروبها المعوجة، والتي تاهت في ظلالها طقوس ومراسم الاحتفال بمئوية محفوظ، بعد أن تم تأجيلها من العام الماضي إلى هذا العام، تحت ملابسات ثورة «25 يناير». وكأن كل ما أبدعه محفوظ، الذي يعد توثيقا لمراحل ناصعة من النضال الثوري المصري ضد القهر والظلم والعدوان لا علاقة له بالثورة، من قريب أو بعيد.

ففي محفل دولي اسمه «مهرجان الإسكندرية السينمائي» الذي انتهت فعالياته قبل أيام. كان المشهد مزريا. قاعة فارغة انصرف عنها الجمهور، ونقاد غائبون، عن ندوة احتفائية بمناسبة مرور مائة عام على مولده حملت عنوان «الإسكندرية في سينما نجيب محفوظ». وهي المدينة التي انطبعت على كورنيشها وشوارعها ومقاهيها خطى محفوظ وكانت مسرحا لعدد من أهم رواياته، «السمان والخريف» و«ميرامار» و«الطريق».. وغيرها.. ولم يجد مسؤولو المهرجان حلا للخروج من هذا المأزق المحرج سوى إلغاء الندوة، والاعتذار لبضعة أفراد لم يتجاوزوا أصابع اليد الواحدة.

في عمق هذا المشهد، يطل محفوظ من ثنايا روايته الشهيرة المبكرة «عبث الأقدار»، ويطلق ضحكته المجلجلة، قائلا «ألم أقل لكم في رواية (أولاد حارتنا) التي لا تزال تثير الجدل.. آفة حارتنا النسيان».

وبعين الإسكندراني القحة يرصد الروائي إدوار الخراط صورة محفوظ السكندرية، حيث كان يقضي بها معظم أشهر الصيف قائلا «كان يحب المشي على الكورنيش، وفي شوارع منطقة محطة الرمل، وعلاوة على مقهاه الشهير حيث كان يلتقي أصدقاءه من الكتاب والشعراء والفنانين، كثيرا ما كان يتسلل إلى المقاهي الشعبية، يتحدث مع الناس البسطاء، ويتفرس في ملامحهم، ويتعرف على همومهم عن قرب. محفوظ كان يحب أن يكون موجودا وسط كتلة من البشر، لذلك كان يفضل الترام في تنقلاته على التاكسي».

رؤية الخراط يكملها عدد كبير من كتاب الإسكندرية يحتفظون بذكريات خاصة مع محفوظ، فقد كانت «عروس المتوسط» بالنسبة له، ورحمه الروائي الثاني بعد القاهرة. من هؤلاء الكتاب الروائي محمد الجمل الذي أصدر كتابا شيقا في هذا السياق بعنوان «نجيب محفوظ في ليالي سان ستيفانو»، وهو فندق شهير بالإسكندرية. وللكاتب سعيد سالم بالمطبعة كتاب يروي فيه ملامح من جلسات وذكريات وحكايات نجيب محفوظ في الإسكندرية.

وعلى النقيض من واقعة مهرجان الإسكندرية المخجلة يحتفي «مهرجان أبوظبي السينمائي الدولي الخامس»، المنعقد حاليا في الفترة من 13 إلى 22 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي بمئوية ميلاد محفوظ، في احتفالية كبرى يشرف عليها الخبير العراقي «إنتشال التميمي»، وتتضمن عرض مجموعة من الأفلام، المأخوذة عن أعمال لمحفوظ، وإصدار كتاب عنه بالعربية والإنجليزية، وإقامة ندوة موسعة عن أدبه، كما تتضمن الاحتفالية معرضا لملصقات الأفلام المأخوذة عن أعماله.

احتفاء مهرجان أبوظبي بمحفوظ يعلق عليه الناقد السينمائي سمير فريد في مقال له قائلا «في أي بلد من بلاد العالم تملك كاتبا مثل (محفوظ)، وتدرك قيمته، يتم الاستعداد لعام المئوية قبلها بسنوات، وتشكل لجنة للاحتفال، برئاسة رئيس مجلس الوزراء، أو رئيس الجمهورية، ويطلق اسم الكاتب على مؤسسة كبيرة، مثل معهد جوته في ألمانيا، أو جائزة سيرفانتس في إسبانيا، وهل هناك اسم أعظم من شكسبير في بريطانيا».

وحول تأجيل الاحتفالية من العام الماضي إلى العام الحالي يتابع فريد بقوله: «إذا كانت مصر قبل ثورة يناير لم تدرك قيمة محفوظ، ولم تستعد للاحتفال بمئويته، فمصر بعد ثورة شعبها العظيمة لا بد أن تدرك تلك القيمة، ولهذا أقترح على الدكتور عصام شرف، رئيس مجلس وزراء حكومة الثورة، أن يقدم دليلا جديدا على نجاحها بتشكيل لجنة برئاسته للاحتفال، تضع خطة المئوية، وترصد لتنفيذ الخطة ما لا يقل عن عشرة ملايين دولار أميركي، من أموال الشعب المصري، واسأل أي مواطن في الطريق العام سوف يقول لك إن هذا أقل الواجب في مثل هذه المناسبة التي لا تتكرر إلا كل مائة عام».

وينتقد فريد من يتحججون بعدم ملاءمة الظرف الراهن للبلاد للاحتفالية، وما تستلزمه من نفقات مادية قائلا «وحتى الذين يتصورون أن هذه الاحتفالية (جاتوه) في وقت يحتاج فيه الشعب إلى (الخبز)، لا يعلمون أن مردود ما ينفق عليها يغطي التكلفة ويزيد، إذا اتبعت مصر ما تتبعه الدول الحديثة في هذا الشأن، فضلا عن المردود الحضاري الذي لا يقدر بمال، كانت الثورة التي فجرها وقادها الشباب عبر وسائل ما بعد الحداثة، قفزة تاريخية تفتح الطريق لمصر لكي تواكب التقدم الإنساني في العالم. وسيكون الاحتفال بمئوية (محفوظ) من نتائج الثورة، ودليلا على معنى الثورة في نفس الوقت».

منذ عام والكلام يتردد في أوساط المثقفين، عن استعدادات كبرى للاحتفال بمئوية محفوظ، وأنها ستنطلق من اتجاهات عدة، من بينها مكتبة الإسكندرية، وهيئات وزارة الثقافة، والمراكز الثقافية الأجنبية في مصر، وأنها ستشمل افتتاح متحف محفوظ بمسقط رأسه بحي الجمالية بالقاهرة، ومعرضا عنه يطوف عددا من الدول الأوروبية، وأن ثمة لجنة علمية بالوزارة ستشرف على هذا العمل، حتى يخرج بالشكل اللائق بقيمة محفوظ. لكن، لم يصدر عن هذه اللجنة حتى الآن خطة عمل توضح كيف سيتم الاحتفال بمئوية محفوظ، وما هي مقوماتها الثقافية والإعلامية، خاصة أن الوزارة رفعت شعار أن العام المقبل 2012 هو «عام محفوظ»، ما يعني أننا سنتحلق حول مائدة محفوظ على مدار عام، نسائله ويسائلنا، ونفيد منه، ونعيد اكتشاف واقعنا الأدبي في إبداعه الرائد.

يتحفظ سمير فريد على هذه اللجنة، ويعلق في مقاله قائلا «لا نريدها لجنة بيروقراطية عقيمة ذات ميزانية مدرسية تافهة، وإنما لجنة من الكبار في كل المجالات، كل منهم بمثابة رئيس مجلس وزراء في مجاله، وخبراء في هذا النوع من الاحتفالات الوطنية الكبرى، فهل يتحقق هذا الأمل، وتشكل هذه اللجنة اليوم قبل غد».

من جهتهم دعا مؤسسو جمعية أصدقاء نجيب محفوظ إلى تكريمه شعبيا في ميدان التحرير مسرح عمليات الثورة بقلب القاهرة احتفالا بمئويته، وبرروا ذلك بأنه بمثابة تعويض لجمهوره العريض الذي لم يستطع المشاركة في وداعه إلى مثواه الأخير، حيث تمت الجنازة بشكل رسمي بحت، وتصدرها الرئيس المصري السابق وكوكبة من رجال نظامه.

وقال الفنان التشكيلي محمد حسن الشربيني، أحد مؤسسي الجمعية، إنهم يشعرون بالأسى، فحتى الآن لم يتم الإعلان بعد عن أي تحركات رسمية من قبل وزارة الثقافة المعنية بشؤون الثقافة والمثقفين من أجل الاحتفال بنجيب محفوظ، هذا الروائي الفذ الذي دافع عن قيم الحرية والحق والعدالة في كل كتاباته وهي نفس القيم التي رفت شعاراتها وطالبت بها ثورة «25 يناير».

وكشف الشربيني عن اجتماع تم نهاية العام الماضي بين أعضاء الجمعية والدكتور عماد الدين أبو غازي وزير الثقافة الحالي، الذي كان حينها أمينا للمجلس الأعلى للثقافة للاتفاق على ملامح الاحتفال بمئوية محفوظ، التي أجلت بسبب الظروف التي واكبت الثورة.

وانتقد الشربيني عدم وجود الحد الأدنى من الاهتمام وإعطاء محفوظ حقه باحتفال لائق، لافتا إلى أن هناك نشاطات عدة يمكن القيام بها دون الحاجة لتحضير وميزانيات كبيرة مراعاة لظروف البلد الحالية. منها على سبيل المثال أن تضع القنوات المصرية لوغو (شعارا) للمئوية لفترة محددة لتذكير الجمهور بها، وإصدار طوابع بريد تذكارية عليها صورة محفوظ. وإصدار طبعات شعبية من أعماله.

لكن كيف يتحول الاحتفال بمئوية محفوظ إلى عرس شعبي، يتخطى نطاق العاصمة والأطر الرسمية، ليصل إلى البسطاء في القرى والنجوع؟ يجيب الشاعر الكاتب عفيفي أسامة عفيفي: هذا مهم، خاصة أن أدب محفوظ مليء بالقيم البصرية والجمالية والشعبية. ومن ثم، فمهم جدا أن تخلق هذه الاحتفالية حوارا مجتمعيا حول أدب محفوظ، ومن الممكن أن يتم ذلك بأشياء بسيطة، منها على سبيل المثال لا الحصر، عرض مختارات من الأفلام السينمائية المأخوذة عن أعماله على شاشة عرض بسيطة في القرى والنجوع، أيضا عقد ورش أدبية في قصور وبيوت الثقافة تناقش أدب محفوظ، وكذلك تخصيص يوم باسمه «يوم محفوظ» في المدارس والجامعات، يتم من خلاله إلقاء الضوء على مسيرة محفوظ الأدبية، ومن الممكن أن يشارك في كل هذه النشاطات فريق من الكتاب والنقاد والمثقفين.

واستبقت سفارة السويد بالقاهرة الاحتفال بمئوية محفوظ بمحاضرتين حول «جائزة نوبل ونجيب محفوظ». ألقاهما في مكتبة الإسكندرية والجامعة الأميركية بالقاهرة البروفسور السويدي، ستور آلين، الذي كان السكرتير الدائم للأكاديمية السويدية، عضو اللجنة الأدبية لجائزة نوبل عام 1988. وهو الذي حصل فيه محفوظ على الجائزة. كما زار آلين أسرة نجيب محفوظ، واصطحبه الروائي جمال الغيطاني في زيارة إلى قلب القاهرة القديمة وحي الجمالية، اللذين كانا مصدر إلهام لمعظم روايات نجيب محفوظ.

ويكشف الروائي يوسف القعيد، في مقال له الكثير من الحقائق الملتبسة حول الاحتفالية، مشيرا إلى أنه كانت هناك خطط ومشاريع وأحلام كثيرة للاحتفال بهذه المناسبة، ولكن التطورات التي عرفتها مصر لم تمكن أحدا من تنفيذ ما كنا نحلم به. يقول القعيد: «أتصور أنه علينا الانتهاء من البكاء على اللبن المسكوب وعلى السنة التي مضت دون إنجاز شيء والتخطيط الدقيق للسنة التي لم تبدأ بعد، لماذا لا نفكر على هذا النحو؟ ونقول لأنفسنا وللآخرين إن هذه السنة يمكن أن تبدأ في ديسمبر الآتي وتنتهي في ديسمبر بعد القادم».

ويحدد القعيد مجموعة من الركائز الأساسية للاحتفالية، يرى أنها قابلة للتنفيذ، منها أولا: متحف نجيب محفوظ، وقد استقر الرأي على أن يقام في وكالة محمد بك أبو الدهب، وإجراءات تخصيص المكان قائمة ومدير المتحف المخرج الكبير توفيق صالح يعمل، والمهم أن يتم افتتاحه عبر السنة التي تبدأ في ديسمبر المقبل، بوضع حجر الأساس في عيد ميلاده القادم، على أن يصبح متحفا لنجيب محفوظ ومختبرا للسرديات العربية تصدر عنه دورية تبدأ من الاهتمام بنجيب محفوظ وتصل إلى كل أشكال السرد المصري والعربي والعالمي.

أما الركيزة الثانية بحسب القعيد، فهي مشروع المزارات المحفوظية، ويذكر أن محافظي القاهرة السابق والحالي متحمسان له، مشيرا إلى أن خرائط ورسومات الأماكن التي عاش فيها نجيب محفوظ وكتب عنها وارتبطت باسمه موجودة لدى المحافظة منذ أن أعدها الصديق جمال الغيطاني للبدء في العمل الذي ما زال حتى الآن حبرا على ورق.

وهنا يبدي القعيد اندهاشه من تقاعس أصحاب المقاهي التي تعود نجيب محفوظ أن يجلس عليها، وله ذكريات فيها، لافتا إلى أن محاولة تذكره من قبل أصحاب هذه المقاهي، خاصة في سياق الاحتفالية يمكن أن يكون لها عائد مادي ضخم بالنسبة لهم، لكن لم يتحرك أحد منهم لا بمفرده ولا بالتعاون مع الآخرين.

أما الركيزة الثالثة التي يتحدث عنها القعيد فهي مؤتمر دولي كبير يليق بالمناسبة يقيمه المجلس الأعلى للثقافة. ويذكر القعيد هنا مشروع صالون نجيب محفوظ بالمجلس الذي دشنته لجنة القصة خلال رئاسة الراحل خيري شلبي وقد عقد بعض ندواته وكان آخرها ندوة عن سينما نجيب محفوظ، خططت لها وأدارتها الدكتورة أماني فؤاد وشهدت حضورا كثيفا لم تشهده ندوة من ندوات المجلس من قبل.

لكن، على ضوء هذا كله، يبقى السؤال مفتوحا أمام المسؤولين بوزارة الثقافة، وأمام المثقفين أنفسهم وهو: كيف نجعل من الاحتفال بمئوية محفوظ عرسا ثقافيا، نعيد فيه القراءة والتأمل وطرح الأسئلة حول واقع ثقافي أصبح في واد، ورياح الثورة في واد آخر؟! من أجل أن نحفظ عميد الرواية العربية من ملاحقة «عبث الأقدار».