معهد العالم العربي.. هل كان في مستوى ربيع العرب؟

«قنطرة» مجلة استشراقية جديدة.. و«خميس المعهد» يجاهد ليسمع صوتا خافتا

جانب من مكتبة معهد العالم العربي
TT

لا أحد يدري على وجه الدقة ما الذي خامر عقول المؤسسين الأوائل لهذا الصرح الثقافي، أو الذين أرادوا له أن يكون «صرحا»، ونقصد به «معهد العالم العربي» في باريس. وقد كان اختيار باريس موفقا، بطبيعة الحال، لأن فرنسا الرسمية والشعبية، تؤمن بـ«الاستثناء الثقافي»، (لعلها فرصة ثقافتنا، نحن كعرب، أن تحيا في ظل عولمة وأمركة شرستين وكاسحتين)، ولأن باريس تظل عاصمة للنور والثقافة في حين أن عواصم أوروبية أخرى تتجه نحو المال وغير ذلك.

ولكن هذا المعهد الذي شيد منذ أكثر من عشرين سنة، في مكان جميل مطل على نهر السين، لا يزال ظلا لنفسه، ولعل الأسباب، حتى وإن أردنا تعدادها، لن تتم الإحاطة بها، نظرا لتشعبها وتزايدها المتصاعد.

فهذا المعهد الذي تتقاسم مسؤوليته الإدارية والمالية، الدولة الفرنسية ومجلس السفراء العرب في باريس، أصبح وكأنه يمثل عبئا على الطرفين، (لا تخفي دوائر فرنسية الرغبة في تغيير منحاه ووظيفته)، إن بسبب تدخل السياسي، بشكل فاضح في القرارات، وبالتالي في الحصيلة الثقافية التي تثير الخيبة والأسى، وإن بسبب الأزمة المالية التي تنخره، فيتم من حين لآخر الإعلان عن تسريح للموظفين وبالتالي تدهور الخدمات فيه.

فالرؤساء، وهم فرنسيون، بالضرورة، لا يستخدمون هذا المنصب إلا باعتباره محطة مؤقتة من أجل القفز إلى منصب سياسي آخر، بينما السياسات التي تنخر الأنظمة العربية، والتي تعبر عنها الجامعة العربية وفروعها، شبه الجامدة، فيتم إسقاطها على المعهد، ومن نتائجها تقاعس بعض الدول العربية الأعضاء عن تسديد حصصها المالية، مما تضطر معه دول عربية أخرى، من حين لآخر، إلى تقديم معونات وهبات مالية، منعا للإفلاس التام.

وحتى إن اقتصرت الرؤية فقط على الجانب الثقافي، وأسقطنا، جانبا، السياسة وألاعيبها وتقلباتها، فإن الوضع يقترب من المأساة أو الملهاة أو منهما معا.

فلا يمكن للمراقب المحايد أن يتلمس وجود سياسة ثقافية واضحة المعالم، ونبدأ في طرح الأسئلة الضرورية: لم تأسس المعهد؟ وما هو الفارق بينه وبين المراكز الثقافية التابعة للدول العربية؟ وهل يجوز أم لا يجوز تحقيق الأرباح، من خلال معارض أو من خلال المتحف مثلا؟

لا نتصور أن بإمكاننا، فعلا، العثور على جواب شاف عن هذه الأسئلة البسيطة والمشروعة؟

لا يمكن أن يوجد المعهد في باريس، مقابل كنيسة «نوتردام» الشهيرة، ولا يتمتع بأجواء باريس؟ سواء كان من ناحية الانفتاح على ما هو حداثي نبيل، أم من ناحية الانفتاح على أصوات الداخل العربي ونقل صداها إلى فرنسا وأوروبا، إن ثقافة أو تطلعا إلى الحرية والكرامة.

ولا يبدو أن معهد العالم العربي يتصدى لهذه المسائل. فقد أصيبت المعارض بنوع من الضحالة، وانكفأ المعهد إلى مكتبة للقراءة لا بأس بها، وإلى مكتبة لبيع الكتب في الطابق الأرضي (يبدو أنها الوحيدة التي تنشط على مدار السنة!)، ولولا أن «خميس المعهد» يواصل مسيرته، رغم الصعوبات المالية الكثيرة، لكانت الثقافة مقفرة في معهد يوجد في عاصمة الثقافة العالمية.

لا يزال «خميس المعهد» يكافح، على قلة إمكانياته، في مساءلة الثقافة الفرنسية وفي الانفتاح على حراك الداخل العربي، وفي خلق روابط وقنوات مع طاقات شابة أوروبية من أصول عربية وإسلامية. ولعل إطلالة سريعة على برنامج «خميس المعهد» للأشهر الثلاثة المتبقية من سنة 2011 تمنحنا بعض الاطمئنان من خلال لقاءات وندوات تخص باسكال بونيفاس وكتابه المثير عن اللوبي الصهيوني وإيمانويل تود حول السلطة والأنظمة العائلية، وعن مظاهرات الجزائريين في 17 أكتوبر (تشرين الأول) 1961 في باريس، والتي انتهت بمجزرة. كما أن الثورة الليبية حاضرة في «خميس المعهد» من خلال ندوة بعنوان «إلى أين تذهب ليبيا؟»، بالإضافة إلى ندوة حول الكتابة في زمن الثورات. لا ينسى «خميس المعهد» الشاعرة الكبيرة إيتيل عدنان. ويستضيف «خميس المعهد» الصحافية والكاتبة الفرنسية دانييل ساليفان، كما لا ينسى تكريم الراحل كريستيان بوشي، المتخصص الكبير في الموسيقى العربية، والذي غادرنا سنة 2010، وتنتهي سنة 2011 بندوة عن المناضل الكبير فرانز فانون الجزائري المارتينيكي، بمناسبة مرور خمسين سنة على وفاته (يقول التقديم: إن الكثير من مفكري ما بعد الكولونيالية، مثل إدوارد سعيد، يعترفون بالسير في أثره).

أين هي منشورات المعهد؟

كان للمعهد مجلتان، واحدة فكرية والأخرى ثقافية، قبرت الأولى، وظلت الثانية، «قنطرة» لا تحمل سوى اسمها. والسبب الرئيسي يمكن في أنها أدخلت نفسها في سياسة استشراقية جديدة. والمطلع على أعدادها يتصور أنها كتبت أو تكتب من زمن غابر، كان فيه الرحالة الغربيون، يدبجون نصوصا عن قصور ألف ليلة وليلة وعن المرأة العربية المثيرة والشهوانية، ومن حين لآخر كانوا يشيرون إلى أذان الفجر، دليلا على أنهم يكتبون عن/ من أرض الإسلام.

لا تعير مجلة «قنطرة» وهي تصدر باللغة الفرنسية، أي اهتمام لأشكال الحراك الثقافي الذي ينتجه أبناء الجيل الثالث من الهجرة، ولا تنقل للآخر الفرنسي والغربي ما يموج في العالم العربي الكبير من كتابة وتجريبية وأحلام. تكتفي المجلة بمحاكاة أدب الرحلات القديم وبترجمة نصوص لكتاب شاخوا في بلدانهم ونضب إبداعهم. وهذا ما يفسر ضعف توزيعها، بل وجهل الكثيرين بوجودها، أصلا.