ملتقى «الشعر من أجل التعايش السلمي»: هل يصلح الشعراء ما أفسدته السياسة؟

شعراء العالم في دبي يتحدثون لغة شعرية واحدة في ملتقى البابطين

جانب من جلسات ملتقى «الشعر من أجل التعايش السلمي» الذي نظمته مؤسسة البابطين في دبي الأسبوع الماضي «الشرق الأوسط»
TT

بعد أن عجزت السياسة أن تخلق جسورا للحوار الإنساني بين البشر، وبعد أن أخفقت المحاولات الأممية في التقريب بين الحضارات، وإطلاق حوار يعزز قيم التسامح والتعايش السلمي بين الأجناس والأعراق والشعوب، بقي أن يلقي المثقفون والشعراء بدلوهم من أجل تحقيق السلام العالمي، في وقت تشتد فيه الأزمات المحلية والإقليمية والعالمية.

أكثر من 300 مشارك من المفكرين والأدباء والشعراء من قارات العالم اجتمعوا في دبي، الأسبوع الماضي، تحت مظلة مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين، في ملتقى «الشعر من أجل التعايش السلمي»، ليبحثوا عن القواسم المشتركة التي توحد البشرية وتربط أجزاءها، وتشد أواصر التعارف الإنساني بين أبنائها.

وعلى مدى ثلاث جلسات فكرية ونقدية، ضمت باحثين من العالم العربي وأوروبا لاستعراض دراسات تتحدث عن صورة الآخر في الأدب والشعر، ومدى قدرة الشعراء قديما وحديثا على مد الجسور نحو الضفة الأخرى، وإمكانية العبور فوق تلك الجسور على الرغم من السنين، وعلى الرغم من العواصف للوصول لمعرفة أفضل وفهم أعمق وتعاون من أجل السلام.

وإلى جانب الندوات، كانت الأمسيات الشعرية، والموسيقى تشد أواصر الأبجديات باختلاف ألسنتها وألوانها، وتضفي على القاعة المكتظة بالحماس جوا من المشاعر التي توحد الأمم، وتعطي صورة رمزية لقدرة الإنسان على الترفع عن تابوهاته الضيقة للتواصل نحو العمق الإنساني الأوسع انتشارا.

وقد فرض الملتقى بأيامه الثلاثة تحديا حقيقيا أمام المثقفين والشعراء، الذين ينظر لهم على أنهم هامشيون في المشهد العام، الذي تتغول فيه السياسة، على أنهم قادرون على تحويل الكلمات الرومانسية إلى «مدماك» حقيقي للتعايش السلمي بين الحضارات.

توزعت الجلسات البحثية في الملتقى على أربعة محاور. الجلسة الأولى: صورة الآخر في الشعر العربي القديم، الجلسة الثانية: صورة الشرق في الشعر العالمي، الجلسة الثالثة: صورة الآخر في الشعر العربي الحديث، الجلسة الرابعة: آفاق التواصل.

* الآخر.. في الشعر العربي القديم

* حملت الجلسة الأولى من ملتقى «الشعر من أجل التعايش السلمي» عنوان «صورة الآخر في الشعر العربي القديم»، ضمت ثلاث أوراق: الباحث السوري الدكتور أحمد فوزي الهيب، قدم ورقة بعنوان «الشعر في ظلال الحروب الصليبية»، والباحث المصري الدكتور عبد الله التطاوي، ورقة تحت عنوان «حضور الآخر في الشعر العباسي»، في حين جاءت الورقة الثالثة للباحث الأردني، الدكتور عبد الرزاق حسين، الذي يعمل أستاذا للغة العربية في جامعة الملك فهد بالظهران، السعودية، تحت عنوان «الآخر في الشعر الأندلسي والصقلي».

الدكتور أحمد فوزي الهيب استعرض بداية ظهور مصطلح الحروب الصليبية التي بدأت عام 1095، وهو المصطلح الذي أخفى بين طياته أطماعا دنيوية مسعورة تحت شعار القدسية الدينية. وفي مجال الشعر، يرى الهيب، أن الشعر العربي أدى دوره كاملا في الحروب الصليبية زمن الزنكيين والأيوبيين ثم المماليك، فنبّه بمخاطر تلك الحروب، ودعا إلى الجهاد وتوحيد البلاد.

بينما حرص الدكتور عبد الرزاق حسين على التذكير بقصة امرئ القيس الذي لجأ لملك الروم مستغيثا وطالبا إعادة ملكه الذي خلع منه، ليقرر أن الاتصال بالآخر المسيحي قديم في الشعر العربي قِدم الشعر نفسه.

ويرى حسين أن هذا الاتصال المبكر، وكذلك عمل بعض الشعراء المترجمين في بلاط كسرى مثل عدي بن زيد العبادي، ولقيط بن يعمر الإيادي، يبرز هذا الاتصال من خلال أشعارهم التي تنبئ عن الآخر، وتتحدث عن نواياه في غزو بلاد العرب.

أما الدكتور عبد الله التطاوي فحاول تتبع صور «الآخر» في الشعر العباسي، من خلال عدة أبعاد وقسمات وملامح يمكن رصدها في مساق الحضور السياسي والاجتماعي والثقافي والفكري والأخلاقي والديني للآخر، لافتا إلى أن حوار الشعراء حول مفهوم ذلك «الآخر» ظل متواصلا حتى مع تحولات الأمور في عصور الفساد السياسي أواخر الدولة العباسية، داعيا إلى إعادة قراءة التراث والمشترك الإنساني والحوار مع الذات قبل فتح أبواب هذا الحوار مع الآخر.

* صورة الشرق في الشعر العالمي

* الجلسة الثانية لملتقى «الشعر من أجل التعايش السلمي»، حملت عنوان: «صورة الشرق في الشعر العالمي»، وشارك فيها عدد من المفكرين والنقاد الأجانب، بينهم الباحث البريطاني الدكتور جيم وات، الذي قدم ورقة بعنوان: «حضور الشرق في الشعر الإنجليزي»، والناقد الفرنسي «جان كلود فيللان» بورقة عنوانها «العرب، والمشرق في الشعر الفرنسي»، والدكتور خوان بدرو سالا، من جامعة قرطبة في إسبانيا، وقدم دراسة بعنوان «حضور الشرق في الشعر الإسباني»، والباحثة الفنلندية ناتاليا كيلمانين، التي قدمت ورقة بعنوان «صورة الآخر في الشعر الروسي»، وكذلك الدكتورة بربارا ميخالاك من بولندا، التي قدمت بحثا بعنوان «الإبداعات الأدبية العربية كمصدر إلهام للشعراء البولنديين»، وخلال هذه الجلسة ألقى كذلك الباحث السوري وضاح الخطيب دراسة بعنوان «على خطى الأجداد الشعراء العرب المسيحيون المحدثون والإسلام».

* الآخر في الشعر العربي الحديث

* في ندوة «صورة الآخر في الشعر العربي الحديث» التي أدارتها الباحثة الإماراتية الدكتورة رفيعة غباش، تحدثت فيها الأكاديمية الكويتية الدكتورة سعاد عبد الوهاب، وفخري صالح إلى جانب الدكتور يوسف نوفل.

جاءت ورقة الدكتور سعاد عبد الوهاب بعنوان «حضور الآخر في الشعر العربي الحديث - المدينة» لاحظت فيها أن رؤية الشعراء للمدينة في الكويت تختلف كما في غيرها تبعا لعصر الشاعر، وموقعه من المدينة. ولتدلل على أن ظاهرة قصائد المدينة لدى شعراء الكويت ذات امتدادات خاصة، فقد قدمت الباحثة تحاول صورة بانورامية إحصائية، لكل ما نظم شعراء الكويت عن المدينة، من خلال قراءة «60 قصيدة» نظمها «19 شاعرا» بينهم الشاعر «علي السبتي»، وتقول: «أوصلنا الرصد الدقيق للقصائد إلى أن شاعرا مثل علي السبتي، في ديوانه الأول (بيت من نجوم الصيف) هو الأسبق زمنيا، وتنوعا في موضوع المدينة، وكذلك برز إبداع الشاعرات وقدرتهن على تنويع الرؤية داخل الموضوع، نذكر منهن: غنيمة زيد الحرب، ونجمة إدريس، وجنة القريني، وسعدية مفرح».

وتقول: «أما الشعراء فهم أكثر عددا، وربما أطول نفسا، وأوسع مدى في ذكر أسماء المدن العربية وغير العربية، ومن أهم الشعراء: علي السبتي، وأحمد العدواني، وخليفة الوقيان، ومحمد الفايز، وعبد الله سنان، وأحمد السقاف»، وتضيف: «على مستوى الدراسة النقدية، يمكن (بوجه عام) أن نحدد أربعة أنواع من المدن تراءت لشعراء الكويت: خاطبوها، وتحببوا إليها، أو نابذوها ولعنوا مساوئها. هذه الأنواع من المدن هي: المدينة الأمة، والمدينة المتعة، والمدينة الحلم، والمدينة الكابوس. وهذه الصور الأربعة (تشير إلى ثراء ظاهرة شعر المدينة في الكويت)».

* الاغتراب والانتماء

* في ورقته، تحدث فحري صالح عن «الاغتراب والانتماء في الشعر المهاجر الأميركي»، حيث درس تأثير حالات الهجرة السورية واللبنانية المبكرة للولايات المتحدة والغرب بشكل عام في حركة الشعر والأدب المهجريين، التي أنتجت التيارين الممثلين في الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية، اللذين أثرا تأثيرا واضحا في تطوير القصيدة العربية الحديثة، وحملا إلى الشعر العربي في القرن العشرين تأثيرات الرومانطيقية الإنجليزية والأميركية. وعلى الرغم من ذلك فإن شعراء هذين التيارين ظلوا على تواصل مع مسقط رأسهم بالفكر والرؤية الثقافية والشعرية، على الرغم من انفصالهم عنه بالجسد.

وقال إن الشعراء المهجريين العرب عانوا «في وطنهم الجديد من تجارب قاسية وعانوا من الشوق والحنين إلى الوطن وواجهوا عالما مختلفا كل الاختلاف، فأحسوا بالحاجة إلى التعبير عن عالمهم الداخلي». وقال: «يمكن القول إن شعر المهاجر قد انشغل في معظمه بعلاقة الشاعر المهاجر بالوطن الأم من جهة، والمهجر أو الوطن الجديد المتبنى من جهة ثانية لصالح الوطن الأم».

* الحس الإنساني لا يعرف الحدود

* أما الدكتور يوسف نوفل، فجاءت ورقته بعنوان: «رؤية الآخر في مرآة الشخصيات والنماذج الإنسانية العالمية في الشعر العربي الحديث»، تناول فيها المفهوم المعاصر «للآخر» تجاه «الأنا» في جدلية العلاقة بين طرفين تتنوع مصالح أفراد كل منهما، لكنها قد تلتقي في مواقع متعددة الوجوه، حيث تكون «الأنا» بمثابة «الآخر» في دلالات تتعدد بين المشاركة الإنسانية، والانضواء تحت الهم الإنساني.

نوفل، وفي نماذج لاستلهام النموذج الإنساني العالمي، على مستوى الأديب، أو الفنان، أو الموسيقار، أو المفكر، وانعكاسه على المثقف العربي، استحضر شخصية الشاعر الإنجليزي ويليام شكسبير، الذي خصص له أحمد شوقي قصيدته «في ذكرى شكسبير»، منوها بقيمة آثاره الأدبية. وفي الزمن نفسه كان العنوان ذاته الذي اختاره حافظ إبراهيم. وكذلك لافونتين، الذي يسافر إليه إبداع خليل مطران في بيتين مستوحيا فيهما «الآخر» في نقد الفساد.. ووجه عبد الوهاب البياتي خطابه إلى ألبير كامي، ولوركا، وناظم حكمت، وكذلك إلى همنغواي، بقصيدته المعنونة «إلى إرنست همنجواي»، ناعيا الشاعر في كل عصر، مسقطا واقعه على مضامين إنتاج أولئك الأدباء. ولحسن فتح الباب قصيدة أيضا بعنوان «وداع.. إلى همنغواي». ويحضر أيضا فيكتور هوغو، الذي كتب فيه مطران أبياتا مقدمة لأحد الكتب، منوها بدور الكلمة والرأي، وجعله حافظ إبراهيم عنوانا لقصيدته، منوها بقيمته الأدبية والإنسانية. أما لوركا، الشاعر الإسباني، فقد جذب كثيرا من الشعراء العرب الذين استوحوا دلالات شعره وحياته، إذ عنون عبد الوهاب البياتي إحدى قصائده بـ«إلى لوركا»، مجسدا الغربة والإحساس بالقيد، لتتضافر مفرداته وتراكيبه في توصيل تلك الدلالات. وأفرد البياتي لناظم حكمت نصا مطولا كتبه سنة 1962 بعنوان «مرثية إلى ناظم حكمت»، يتصدره نص مواز، كذلك فعل حسن فتح الباب في قصيدة «مرثية إلى ناظم حكمت». أما كافافيس فقد استحضره ديوان «أحلام.. عانسات! بكائية.. عند قبر.. كافافيس» لعلي الباز.

أما استلهام نماذج المقاومة والبحث عن الحرية والتحرر، فهو كثير، ومنه نماذج عالمية أمثال «جيفارا»،الذي يعنون به فتح الباب قصيدته، مستهلا خطابه الشعري المازج بين الخاص والعام، المفتوح على أفق إنساني شامل، مسقطا كفاح «جيفارا» على الكفاح في فلسطين.

* البيان الختامي: حرية الإنسان من حرية الأوطان

* في لفتة بارزة، جاء البيان الختامي لملتقى «الشعر من أجل التعايش السلمي»، الذي اختتم مساء الثلاثاء في دبي، ونظمته مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين، مواكبا للحراك الشعبي الذي تشهده بعض الدول العربية، إذ جاء في البيان أنه بعد تدارس الأوضاع الإقليمية والعالمية، لاحظ المجتمعون أن العالم يمر بمرحلة صعبة من التغيير تتجلى مظاهره في الحراك الشعبي العربي الكبير وفي الأزمات الدولية المتفجرة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، وأن مثل هذه الأزمات تأتي، كما هو متوقع، بتوترات هيكلية قد تقود إلى ما لا تحمد عقباه، من اندلاع نزاعات عنيفة بين البشر. وهم يؤكدون أن البشرية لا يمكن أن تتقدم إلا بإعلاء السلام العادل والمحبة والتآلف بين الشعوب، وإقامة الحوار البناء، وهو أمر يدعو إليه الشعر العربي والعالمي قاطبة.

وتابع: «حوار الحضارات والثقافات وتفهم الآخر والتوزيع السليم والعادل للقوة الاقتصادية والسياسية بين الشعوب هو مخرج أساسي في سبيل تخطي هذه العقبات التي تواجه البشرية اليوم».

وأضاف: «من هنا فإن المجتمعين في ملتقى الشعر من أجل التعايش السلمي قد اجتمعت رؤاهم على أهمية السلام العادل والتعاون والتآزر بين الشعوب، وأهمية الحوار البناء الذي يقود إلى حل الأزمات الهيكلية التي تواجه بني البشر في مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، وهو تعاون يأخذ بالحسبان مصالح الشعوب وتطلعاتها، كما يأخذ بالحسبان البعد الإنساني الذي تدعو إليه الرسالات السماوية ويدعو إليه الدين الإسلامي الحنيف دون تهميش أو ضيم».

ودعا البيان القيادات السياسية وقيادات المجتمع المدني والشباب (أمل المستقبل) أن يكون السلم والتعاون وفهم الآخر دستور العمل العام لدى هذه الجماعات والمجتمعات، من أجل تجنيب الإنسانية الشرور المحدقة المتمثلة في اللجوء إلى العنف لحل المشكلات العالقة؛ سواء على المستوى الوطني أو الإقليمي أو العالمي، مؤكدا أن «حرية الإنسان هي جزء لا يتجزأ من حرية الأوطان، فكلاهما مكمل للآخر، ولا تنتعش الحرية إلا باحترام الآخر وتفهم مطالبه الحقة، وكلما اتسع نطاق الحرية اتسع نطاق العدل وتحقق للإنسان الرفاه».