«كتّاب أشباح» أبدعوا ثلث المؤلفات الفرنسية

فضيحه تطال حتى موليير وألكسندر دوما

TT

موليير خدع قراءه واستعان بكاتب آخر ليؤلف نيابة عنه بعض كتبه، ألكسندر دوما استخدم الأسلوب نفسه. المؤلفون الجدد ليسوا أكثر نزاهة. 80 في المائة من مشاهير السياسيين الفرنسيين لم يكتبوا مؤلفاتهم بأنفسهم، وغالبية الفنانين يفعلون الشيء نفسه. المال يكفي لإسكات الكاتب «النغر» أو الكاتب الحقيقي، كي يسكت على الغش والتزييف، فضيحة تكتّم عليها كل المتواطئين المنتفعين وأدخلت لدور النشر كنوزا. اليوم يكشف الغطاء، وتظهر الحقيقة فاضحة.

نحو ثلث الكتب المنشورة في فرنسا لا تحمل توقيع مؤلفيها الحقيقيين. هذه الأرقام المذهلة كشف عنها تحقيق صحافي لصاحبته أرمال بروسك بعنوان «لي نغر: الكتابة في الخفاء». التحقيق سلط الضوء على مهنة منتشرة بكثرة في كواليس الوسط الأدبي لكنها مجهولة بين أوساط العامة. تلك التي يمتهنها كُتاب موهوبون يكتبون باسم شخصيات مشهورة مقابل أجر مالي دون أن ينالوا حظّهم من الشهرة والتقدير. هؤلاء الذين يُلقبون بين أوساط الناشرين الفرنسيين بـ«النغر» والذي يعني حرفيا «الزنوج» ومجازا «العبيد»، وأحيانا يطلق عليهم اسم «هلب رايترز» أي أعوان الكتّاب، لكن التسمية الأكثر شيوعا تبقى حسب التعبير الأنجلوساكسوني «غوست رايترز» أي أشباح الكتاب.

* كورناي كاتب شبح لموليير

* بحوث في غاية الجدية كشفت بأن ظاهرة الكتاب الأشباح قديمة قدم الأدب الفرنسي، فموليير قد لا يكون المؤلف الحقيقي لـ18 من المسرحيات المنسوبة إليه، من بينها «مدرسة الأزواج»، «النساء العالمات» و«مبغض البشر» بل إن الكاتب هو بيير كورناي الذي كان آنذاك من المقرّبين لموليير. وهي النتيجة التي وصل إليها البروفسور «دومينيك لابي» وفريق عمله من معهد العلوم السياسية بمدينة غرونوبل بفضل استعمالهم لبرنامج إلكتروني ذكي قارن بين أسلوب الكاتبين في بناء الجمل ونسبة تكرار بعض المفردات. وهو ما أكّده فريق عمل آخر بجامعة سان بترسبورغ الروسية. الأحداث التاريخية تنقل أيضا قصّة أوغست ماركي الذي كان يكتب باسم الكاتب الفرنسي المعروف «ألكسندر دوما» مقابل أجر مالي وصل آنذاك لـ145 ألف فرنك فرنسي، على أن مشكلة الأديب الفرنسي لم تكن نقص الموهبة الأدبية بقدر ما كانت تتعلق بضيق المهلة التي كان يحدّدها له الناشرون مما كان يجبره على الاستعانة بمؤلفين آخرين. روايات كثيرة تقول إن «أوغست ماركي» ساهم بقدر كبير في كتابة روائع دوما: «الفرنسان الثلاثة»، «الكونت دومنتي كريستو» و«الملكة مارغو»، وروايات أخرى تقول إنه كتب بعضها بالكامل كرواية «الفيكونت دو براجيلون». على أن القصة لم تكن لتعرف لولا القضّية التي رفعها «أوغست ماركي» على ألكسندر دوما لتقاعسه عن دفع مستحقاته المالية في شهر يناير (كانون الثاني) من عام 1858.

* موهوبون لكن مجهولون

* الظاهرة أصبحت معروفة أكثر فأكثر، بعد سلسلة فضائح طالت شخصيات اعتقد طويلا أنها تكتب مؤلفاتها بنفسها إلى أن ثبت العكس. برنار بيفو، الناقد الأدبي المعروف كان أول من كسر جدار الصمت حين كشف في برنامجه الأدبي المعروف «أبوستروف» سنة 1987 بأن رجل الأعمال والكاتب «بول لو سوليتزغ» صاحب الإنتاج الغزير لا يكتب مؤلفاته بنفسه بل يستعين بمؤلف آخر يعمل معه في السر ويدعى «لو دوران»، ومنذ أشهر قليلة كشف ناقد أدبي من جريدة «لوفيغارو» يدعى جيروم دوبوي أن الإعلامي المعروف باتريك بوافر دارفور، المقدم السابق لنشرة أخبار القناة الأولى ليس المؤلف الحقيقي للسّيرة الذاتية التي خصّصها لإرنست هيمنغواي، بل إنه استعان بكاتب شبح قام بدوره بالنقل عن كاتب أميركي. لكن الخوض في هذا الموضوع يعتبر محظورا عند الناشرين، وقّلة قليلة منهم تقبل الاعتراف بشيوع هذه الظاهرة التي غالبا ما تبقى سرا بين الثلاثي: الناشر والشخصية العامة والكاتب الشبح. ولا عجب إذا علمنا أن أرباح دور النشر الفرنسية بلغت حسب إحصائيات النقابة الوطنية للنشر 2.8 مليار يورو سنة 2010 وهو ما يمثل 452 مليون كتاب. لكن الأهم من ذلك أن الحيل القديمة للناشرين لم تعد تنطلي على القّراء، حيث يبدو صعبًا اليوم التصديق بأن بطلة لتلفزيون الواقع لا تتعدى العشرين أو لاعبا لكرة القدم لم يكمل تعليمه الثانوي يملكان الموهبة الأدبية الكافية لتأليف سيرة ذاتية من 200 صفحة بأسلوب سلس يحوز إعجاب ملايين القراء. كما يبدو غريبا التسليم بأن المسؤول السياسي الذي يستعد لخوض حملة انتخابية ورجل الأعمال الذي يدير عشرات الشركات، يملكان الوقت والهدوء اللازمين للتفرغ للكتابة ومتاعب التصحيح والتنقيح. مثل هذه المّهمة تترك للكتّاب الأشباح الذين غالبا ما يبدأون كُكتاب ثم يتعثّرون في مشوارهم المهني، فيتحولّون لكتّاب أشباح يعيرون أقلامهم للمشاهير لكسب قوتهم. من هؤلاء ليونال دوروا الذي كان كاتبا شبحا لأكثر من 25 شخصية من بينها إمبراطورة إيران السابقة فرح ديبا، والمغنية سيلفي فارتان، ونانا موسكوري: «يس كل الكتاب الأشباح يتساوون، فمنهم الصّادق مع نفسه ومع القراء، يكتب السير الذاتية باسم آخرين وهو مقتنع بأن الكتابة هي الموهبة التي مُنحت له ليضعها في خدمة من يريد نقل تجربته للآخرين، ومنهم المُفتقد لآداب المهنة، ذلك الذي يكتب مؤلفات وقصصا من وحي خياله وينسبها لشخصيات عامة مقابل أجر مالي مع علمه أنها قادرة ومعتادة على الكتابة، الفرق بين الاثنين هي قضية ضمير مهني».

* السّاسة ونجوم التلفزيون أهم الزبائن

* اللجوء لمثل هؤلاء الكتاب ينتشر في بعض الأوساط أكثر من غيرها. ففي الوسط السياسي مثلا يعتقد أن نحو 80 في المائة من الكتب أُلفت بأقلام بديلة. وهي غالبا ما تكون مؤلفات مطلوبة تثير اهتمام الإعلام بشدة باعتبارها ذات قيمة تاريخية. فالجزء الأول من السيرة الذاتية للرئيس السابق جاك شيراك (كل خطوة يجب أن تصبح هدفا/ دار نشر لونيل) بيع منها أكثر من 300 ألف نسخة. إيريك دو مولان كاتب شبح لشخصيات سياسية معروفة كوزير الخارجية السابق هيرفي دو شاريت يقول إنه بحكم خبرته أصبح يميز بين نوعين من الكتاب الأشباح: «فمنهم من يكتفي بتحرير فقرات الكتاب انطلاقا من اقتراحات وأفكار الشخصية السياسية وبإشراف منها، ونوع ثان يقوم بالمهمة بالكامل بما فيها تقديم الأفكار السياسية». شيوع الظاهرة أصبح مدعاة سخرية حيث يروي السياسي والكاتب بول ماري كوتو لأحد الصحافيين أنه تفاجأ مرة وهو يهنئ الرئيس ساركوزي بكتابه، حين أجابه هذا الأخير: «وهل تمكنت من قراءته بالكامل؟ أنا شخصيا لم أصل إلى النهاية». مما يعني أن الرئيس ساركوزي لم يتمكن حتى من قراءة الكتاب الذي وقع باسمه. لكن الشخصيات السياسية عكس الشخصيات العامة الأخرى لا تترك لدور النشر مهّمة اختيار الكاتب، بل تتولى هذه المّهمة بنفسها وتتعامل دائما مع نفس الأشخاص خشية منافسة المعارضين. لكن يبقى المشاهير من نجوم الغناء وتلفزيون الواقع والرياضيين والممثلين هم أهم زبائن الكتّاب الأشباح الذين يكتبون تقريبا كل السّير الذاتية التي تصدر بأسمائهم (99 في المائة). وهي مؤلفات غالبا ما تحقق أعلى الإيرادات في الأسواق. يعترف جون فرانسوا كرفيان المعروف في هذا الوسط أنه تردد طويلا قبل الموافقة على التعاون مع لوانا بطلة برنامج تلفزيوني بعنوان «لوف ستوري»، لكنه اقتنع في النهاية بأن العمل سيلاقي إقبالا كبيرا حين لمس شعبية النجمة الشقراء في شوارع مدينة سان تروبي. وهو ما حدث فعلا حيث بيع من سيرتها الذاتية أكثر من 150 ألف نسخة.

* رد اعتبار وعائد مادي وحقوق مؤلف

* تسليط الضوء على هذه المهنة الخفية كانت له أثاره الإيجابية على وضعية الكتاب الأشباح. فبعضهم تمكن من الفوز بقدر من الاعتبار بعد أن وضعت أسماؤهم إلى جانب اسم الشخصية العامة بصفتهم «متعاونين». لكن الأمر يبقى متوقفا على المشاهير الذين يقبلون بذلك أم لا. وهو حال جاك شيراك الذي لم يجد حرجًا في الإعلان عن الاسم الحقيقي لكاتب مذكراته (جان لوك باري)، بل غالبا ما يشكره في لقاءاته الصحافية على صبره وعمله المتقن. أما نجم كرة القدم زين الدين زيدان فيقال إنه ألحّ على الناشر كي يضع اسم كاتبه (دان فرانك) على غلاف سيرته الذاتية «قصة الفوز»، لأنه حسب تعبيره «المؤلف الحقيقي». والأهم من هذا هو أن العقود التي تربط هؤلاء الكتّاب بدور النشر أصبحت أكثر وضوحا وإنصافا. فقد يتقاضى مؤلف مبتدئ ما بين 5 آلاف إلى 15 ألف يورو، بينما يحصل زميله المتمرس على مبلغ يصل إلى 30 ألف يورو بالإضافة إلى نسبة في الأرباح ونسبة على حقوق المؤلف تصّل إلى 15 في المائة على كل نسخة.

* السعادة على الرغم من صعوبة العمل

* عدة مواصفات تبقى مطلوبة في الكاتب الشبح، أهمها المهارة الأدبية والأسلوب السلس الجميل الذي يجذب القارئ، لكن كاترين سيغوري مؤلفة السيرة الذاتية لعارضة الأزياء كلوديا شيفر تضيف عليها مواصفات أخرى: «مطلوب منا أن نفهم الشخصية التي نكتب باسمها في ظرف أسابيع أحيانا في أقل من 15 ساعة. أن نوافق أسلوب كتابتنا مع طريقة كلامها وتعبيرها، أن نكون مرآة لها، أمر ليس بالهين بما أنه يجعل منا كتابا ومحللين نفسيين في آن واحد». أما الكاتب دان فرانك الذي ألّف 62 كتابا لصالح شخصيات عامة بينهم زين الدين زيدان، ونجوم الغناء فريدريك فرانسوا وليندا دو سوزا فهو يذهب إلى أبعد من ذلك حين يقول: «طالما تمارس هذه المهنة فعليك أن تضع كبرياءك جانبا وأن تتحلى بكثير من الحكمة وضبط النفس حتى وإن وقعت في أصعب الوضعيات. وهو ما حدث معي ذات مرة حين وجدت نفسي في أحد اللقاءات الصحافية أمام شخصية عامة كنت قد أنجزت كتابها بالكامل من الصفحة الأولى إلى الأخيرة. وكدتُ أفقد أعصابي حين سمعته يقول للصحّافيين بكل برود إنه سهر وتعب وبذل جهدًا كبيرا لإنجاز هذا العمل...». أما جون فرانسوا كرفيان الذي كتب أيضا السيرة الذاتية للمذيع المشهور ميشال دروكر والمغني هيرفي فيلار فيقول: «المهم أني مقتنع بمهارتي الأدبية، إنتاجي يلاقي إقبالا عند القرّاء ودور النشر راضية عن عملي والمشاهير يطلبونني شخصيا. لا أحتاج لاسمي على غلاف الكتاب فهذا يكفيني لأني متواضع».

ظاهرة «الكتاب الأشباح» تطرح مشكلة أخلاقية تخترق الوسط الأدبي، ليس فقط في فرنسا بل في كثير من الدول الغربية. فهذا الوسط الذي يظهر دائما بثوبه المشرف الزاخر بالعطاء قادر أيضا على الغّش والانتحال وتزييف الحقائق والضحك على ذقون القرّاء، الكّل بمباركة وتشجيع من دور النشر التي تجعل الربح المادي فوق كل اعتبار وهذه حقيقة قد يجهلها الكثيرون.