صراع الجنوب والشمال في القرن الـ21

النظام الرأسمالي لا يستطيع التوقف عن إنتاج «عالم مدن الصفيح» كما يرى سمير أمين في كتابه الجديد

بلدان الجنوب البازغة في مواجهة العولمة المؤلف: سمير أمين الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت 2011
TT

خلال أربعة قرون ما قبل القرن العشرين كان «الغربيون» وحدهم هم الذين يصوغون أوضاع العالم الجديد للرأسمالية التاريخية، وكانت شعوب التخوم المقهورة تقاوم وتهزم وتضطر للتأقلم مع حالتها. وفتح القرن العشرون، بصحوة بلدان التخوم، فصلا جديدا من التاريخ، بدءا بثورة روسيا سنة 1905 التي قادت إلى ثورة 1917. ثم الثورة الإيرانية في عام 1907، ثم المكسيكية 1910 - 1920، ثم ثورة الصين في 1911 التي قادت إلى ثورة 1949، ثم جاءت النهضة العربية الإسلامية بحركة تركيا الفتاة، ثم الثورة المصرية عام 1919، وتأسيس حزب الكونغرس في الهند، وكانت هذه جميعها المظاهر الأولى للصحوة. وقد جرت تحت رايات الاشتراكية وشعارات التحرر الوطني بدرجات متفاوتة من الصلاحيات الاجتماعية في دول أخرى.

وفي عام 1955 أعلنت حكومات وشعوب آسيا وأفريقيا في باندونغ رغبتها في إعادة صياغة النظام العالمي على أساس الاعتراف بحقوق التنمية في دول التخوم، وهو الأساس الذي قامت عليه العولمة المتعددة الأقطاب المفروضة على الإمبريالية في تلك الحقبة التي اضطرت للتأقلم معها في ظل المنطق الخارج عن الإمبريالية، وكانت فرصة لانتصار الشعوب. هذه الصحوة للشعوب فقدت الزخم لأسباب متعددة ومركبة تعود في بعضها إلى تناقضاتها الداخلية. وكذلك إلى نجاح الإمبريالية في ابتداع أساليب جديدة لفرض سيطرتها عن طريق التحكم في التكنولوجيا، والسيطرة على الموارد الطبيعية للعالم، والنظام المالي المعولم، ونظم الاتصالات والمعلومات، واحتكار أسلحة الدمار الشامل.

يرى سمير أمين في مؤلفه الجديد «بلدان الجنوب البازغة في مواجهة العولمة» أن تاريخ التوسع المعولم للرأسمالية التاريخية يتلخص في عملية التراكم القائم على الاستلاب المنظم لشعوب التخوم لمصلحة شعوب المركز. فقد كان الصراع بين المركز والتخوم باستمرار أحد المعطيات الأساسية في تطور تاريخ الرأسمالية التاريخية، ولهذا السبب كان الاتجاه العام لانتصار شعوب التخوم في نضالها من أجل التحرر مرتبطا بالطعن بالرأسمالية ذاتها. ذلك أن الريع الإمبريالي المرتبط بتوسع الرأسمالية التاريخية ليس مصدرا للأرباح المتزايدة للاحتكارات الرأسمالية وحسب، بل هو الأساس لإعادة إنتاج المجتمع بمجمله. ولذلك ليس من قبيل الصدفة أن التغيير الجذري للمجتمع ليس على جدول الأعمال في بلدان الشمال، في حين أن بلدان التخوم هي «منطقة العواصف».

ويرى المؤلف أيضا أن تطور الرأسمالية التاريخية يقوم على أساس الملكية الخاصة للأرض الزراعية وإخضاعها لمتطلبات السوق الرأسمالية، وبالتالي للتخلص التدريجي المستمر من سكان الريف لمصلحة فئة ضئيلة من المزارعين الرأسماليين الذين يمثلون نسبة 5 - 10% من السكان، ولكنها قادرة على إنتاج الطعام الكافي للشعوب المعنية، بل وتصدير كميات كبيرة من الطعام الفائض. ولم ينجح هذا الحل في أوروبا إلا لأنه لديها صمام الأمان المتمثل في الهجرة الواسعة إلى الأميركتين. النظام الرأسمالي لا يستطيع التوقف عن الإنتاج، فهو ينتج، ويعيد إنتاج «عالم مدن الصفيح» الذي يقوم على التوسع الكامل في العمل الرخيص. أما في أوروبا وأميركا الشمالية واليابان فقد وفر النظام الرأسمالي مؤخرا، بمساعدة فرص الهجرة المتوفرة، بالإضافة إلى أرباح الإمبريالية، الحل الوسط بين رأس المال والعمل، الذي كان مثله الواضح «دولة الرفاهية». ولا تتوافر الشروط لمثل هذا الحل في بلدان التخوم اليوم. والنظام في هذه البلدان لا يجد قاعدته الاجتماعية إلا في الطبقات المتوسطة الجديدة التي تصير المستفيد الوحيد من التنمية على أساسه. لقد تراجعت الطبقات الحاكمة اليوم في بلدان الجنوب عن الطعن في شرعية النظام الرأسمالي المعولم، وقد قبلت بصفة عامة الانخراط في دورها التابع، أما الشعوب المشغولة بالسعي اليومي من أجل البقاء فتبدو وقد قبلت هذا المصير. وعلى الرغم من ذلك يبدو أن الطبقات الحاكمة في بلدان الجنوب البازغة قد اختارت بوضوح استراتيجية، لا هي بالخضوع السلبي للقوى المسيطرة على النظام، ولا هي بالمعارضة الصريحة لها، بل هي استراتيجية التنمية النشطة، التي تبني عليها آمالها في التقدم السريع لبلادها.

ومع ذلك فبلدان الجنوب أو بعضها على الأقل، تملك اليوم ما يسمح لها بالتنمية بجهودها الذاتية. فهي تمتلك الإمكانات لاستيعاب التكنولوجيا بحيث تستطيع استخدامها بمفردها، وهي تستطيع استخدام مواردها الطبيعية بمعرفتها والحد من الاستخدام المفرط والمبدد. وهي تستطيع تطوير التبادلات جنوب - جنوب للسلع والخدمات ورؤوس الأموال والتكنولوجيا بشكل لم يكن ممكنا تصوره في عام 1955.

من هي الدول المؤهلة لفك الارتباط بشكل عملي؟ وهل تقوم المجتمعات بذلك، أم السلطات الحاكمة، أم أنظمة انتقالية أم غيرها؟.

ينطلق المؤلف من الصين التي تحتل مكانا متميزا في صفوف البلدان البازغة، لا بسبب حجمها الكبير فحسب، وإنما أساسا بفضل نجاحها في بناء صناعتها بشكل متكامل، وطريقتها الخاصة والفعالة لمواجهة المشكلة الزراعية.

يدعي الخطاب السائد أن آسيا في طريقها إلى اللحاق بالنظام الرأسمالي، لا بفك الارتباط معه. وبهذا تفقد الرأسمالية طبيعتها الإمبريالية. وطبقا لهذا التطور يصير العالم منظما حول أربعة أقطاب هي الولايات المتحدة وأوروبا واليابان والصين، أو حول سبعة أقطاب إذا أضفنا إليها روسيا والهند والبرازيل. لكن المؤلف يرى أن هذا التحليل قصير النظر، أولا: لأنه لا يأخذ بالاعتبار السياسات التي تعمل واشنطن على اتخاذها لإفشال مشروع الصين. في الوقت الذي لا تستطيع فيه أوروبا الانسحاب من الحلف الأطلنطي، ولأسباب مشابهة تبقى اليابان متعلقة بذيل واشنطن.

ثانيا: لأن قياس النجاح بمجرد معدل نمو الاقتصاد أمر مضلل، ولا يمكن الاعتداد بتتابعه لأكثر من سنوات معدودة، فإن استمرار النمو في آسيا يتوقف على كثير من العوامل الداخلية والخارجية التي تتشابك بأشكال مختلفة طبقا للنماذج الاستراتيجية للتحديث التي تختارها الطبقات السائدة المحلية من جهة، وردود فعل الخارج من جهة أخرى. ومتابعة هذه البلدان للنمو سيؤدي إلى ازدياد حدة الصراع مع بلدان الثالوث الإمبريالي حول موارد الثروات الطبيعية التي تعمل هذه الأخيرة على احتكار حيازتها. فالصين وفق المزايا التي تعمقها بلدان المركز هي مجرد ورشة تشغيل من الباطن لمصلحة رأس المال، والمستهلكين في المراكز الإمبريالية. أما الهند فقد تجاوزت المليار نسمة، كما حققت معدلات للنمو تتجاوز المتوسطات العالمية، وبذلك اعتبرت من القوى الصاعدة في القرن الواحد والعشرين. ينبع شك المؤلف من قدرة الهند على الصعود على نظام الطوائف الذي خلفه الإرث الاستعماري والذي ما زال يعطل التقدم. فطوائف «المنبوذين» و«المستوعبون»، (وهم أبناء القبائل) يكونون ربع السكان وهم محرومون من جميع الحقوق خاصة الحصول على الأرض الزراعية، مما يجعلهم «أشباه العبيد».

والهند بعكس الصين، بلد متعدد الأعراق، إلا أنها نجحت في توحيد ما يقارب عشر أمم كبيرة في أمة واحدة، ولم تفشل حركة التحرر الوطني الهندية إلا في قضية واحدة وهي ضم مسلمي الهند في بناء الأمة الهندية الجديدة. ومع ذلك فمسلمو الهند يمثلون 15% من مجموع السكان، وقد اندمجوا بشكل كامل في جميع الجوانب الاجتماعية والسياسية للبلاد. ويرى المؤلف أن الهند تواجه تحديات أربعة عليها إعطاء إجابات عنها:

التحدي الأول: إيجاد حل جذري للقضية الريفية يقوم على حق الفلاحين في الحصول على الأرض.

التحدي الثاني: بناء وحدة جبهة العمل، بضم قطاعات الطبقات العاملة المستقرة والمهمشة.

التحدي الثالث: المحافظة على وحدة شبه القارة الهندية، وتجديد أشكال الارتباط بين الشعوب التي تكون الأمة الهندية على أسس ديمقراطية أقوى. التحدي الرابع: وهو إعادة بناء «جبهة تضامن شعوب آسيا وأفريقيا» في ظروف تختلف كثيرا عن ظروف تكوين حركة عدم الانحياز عام 1955.

أما البرازيل وبقية البلدان البازغة فهي تختلف تماما في بنيتها التاريخية عن الهند والصين. فهنا لا نجد مشكلات موروثة عن عهد الاستعمار، وخاصة المشكلة الزراعية الجوهرية، وسلطة الطبقات الحاكمة. فمحاولة إعادة توزيع الثروة بهدف التقليل من الفقر هي بالضبط ما تنادي به القوى الذكية من القوى السياسية التي تعمل على المحافظة على سيطرة الاحتكارات الإمبريالية.

وتأتي بعد ذلك مجموعة من البلدان البازغة، والتي تتميز بنقطتي ضعف، ويعني المؤلف بها بعض بلدان جنوب شرق آسيا كتايلاند وماليزيا وجنوب أفريقيا وإيران وتركيا فهي من جهة ليست ذات حجم قاري، وذلك يحرمها من القدرة على التفاوض مع الثالوث الإمبريالي، بل بعضها مستبعد جدا مثل إيران. فهي مثل الهند والبرازيل لم تمارس حلا ولو جزئيا لميراث المرحلة الاستعمارية السابقة، خاصة فيما يتعلق بالمسألة الزراعية.

أما بلدان الاتحاد السوفياتي السابق، بما فيها روسيا، فيعمل الثالوث على ضمها إلى بلدان التخوم مثلها مثل بلدان أوروبا الشرقية التي صارت كنوع من أميركا اللاتينية بالنسبة لأوروبا الغربية. لكن روسيا قي إمكانها أن تقاوم بنجاح الوقوع في هذا المصير.

العالم الآخر الجاري بناؤه غير واضح، فهو يحمل في طياته الأسوأ والأفضل، وكلاهما ممكن، إذ ليس هناك قانون يتحكم في التاريخ قبل حدوثه بالفعل. فهناك بلدان قد بزغت، وأخرى تقاوم شعوبها، وقد نجحت بعض الاحتجاجات في تقويض أنظمة كنا نخالها أبدية فلا يمكن الحكم على التاريخ إلا بعد حدوثه.

* «بلدان الجنوب البازغة في مواجهة العولمة»