رحلة نصف قرن مع الكلمات في «تجربة حياتي»

برنار بيفو.. فقد عائلته بسبب القراءة

TT

لا يمكن لأحد يملك جهاز تلفزيون ادعاء عدم معرفة برنار بيفو حتى وإن كان لا يحب الكتابة والقراءة لأنه يستحيل جهل أو تجاهل زيدان الأدب الذي برهن أن التلفزيون ليس ضد الثقافة والأدب بوجه خاص كما يعتقد الكثير. «صندوق العجب» كما لا يزال البعض يطلق عليه من عامة الناس كان وراء شهرة رجل عجيب بكل المعايير الممكنة، وكتابه البديع «كلمات حياتي» الذي عرف طريقه إلى حقائب الملايين من الفرنسيين هذا الصيف بحكم شهرة صاحبه عند كل الشرائح الاجتماعية كرس وعمق حجم أعجوبة مهنية وأدبية مرادفة للظاهرة. برنار بيفو البالغ من العمر 76 عاما دخل تاريخ الشهرة للمرة الثانية بكلمات حياته الصحافية والأدبية والشخصية التي رواها بأسلوب غير مسبوق سمح لدار نشر «ألبا ميشال» بتحقيق خبطة استثنائية مكنتها هذه المرة من منافسة دور غاليمار والساي وفلاماريون العريقة والشهيرة أيضا.

انطلق بيفو – الخرافة الحية والأيقونة الصحافية والأدبية غير العادية عالميا وأوروبيا - لتبرير مقاربته الفكرية المؤسسة لمنهجية ساحرة من القاموس كمرجعية أدبية أولى وأخيرة تركته يقع في أسر الكلمات قبل الغرق في بحر ومحيطات الرواية التي قرأها وفككها وأفنى حياته كاملة محاورا وناقدا أشهر صناعها في العالم على مدار نصف قرن توزع بين تجربته في الصحافة الأدبية المكتوبة والتلفزيونية وفي أكاديمية غونكور التي دخلها حديثا.

قاموس لاروس الفرنسي الشهير هو الذي غرس حب الكلمات في قلب وعقل أحد أقدر الصحافيين الأدبيين في أوروبا وربما في العالم هو نفسه الشكل الذي اختاره لتمجيد مرجعيته الأدبية الأولى التي رافقت طفولته وشبابه وما زالت ترافقه تحت وطأة شغفه الأسطوري بالكلمات التي أحبها لاحقا أكثر عندما قرأ قصص لافونتان. في افتتاحية «كلمة ترحاب» كتب بيفو يقول إن كتابه يتناول بتسلسل أبجدي في شكل قاموس «كل الكلمات التي عشت بها ومن أجلها على الصعيدين المهني والشخصي، ومن بينها كلمات أسماء برامجه الأدبية والثقافية «أبوستروف» – فواصل عليا – و«حساء وثقافة» و«بين قوسين» و«أنا مزدوج أو هوية مزدوجة» - وإملاء المسابقات الوطنية التي نشطها تلفزيونيا أيضا باعتباره المرجعية الأولى في مجال الإملاء والنحو والقواعد والصرف. كلمات قراءة ومكتبة وكاتب ونقاش وجسد وبريد وترحال وقاموس وجمارك وقلق وشباب وذاكرة وكلمات أخرى كثيرة رافقت حياته الصحافية والأدبية ومكنته من قراءة ونقد ومحاورة أشهر الروائيين الفرنسيين والأوروبيين والأجانب والعرب المقيمين في باريس ناهيك عن كلمات أخرى شكلت هواجسه ونوازعه وأحلامه وسعادته وأحزانه ومغامراته وذكرياته الحميمة، الأمر الذي شكل تجربة إنسانية استثنائية لا يمكن لأبجدية القاموس الفرنسي استيعابها كلها لكنها كفيلة بنشر عطرها وألوانها وإيقاعاتها وأصواتها على حد تعبيره.

بيفو الذي قضى حياته يصطاد الكلمات الجديدة ويتفحص القديمة ويبحث عن أصولها وتطورها وسحرها مبتهجا كطفل ظفر بقطعة حلوى صباح العيد، ما زال يستيقظ وينام على الكلمات لأنه ضرب موعدا جديدا معها من خلال عموده الأسبوعي الذي تنشره صحيفة «لورجونال دوديمانش» ويتناول فيه رواية جديدة فضلا عن استمراره في القراءة بوجه عام باعتباره عضوا جديدا في أكاديمية غونكور. واستثنى بيفو في كتابه تجربته الثانية في مجال التنشيط التلفزيوني والمتمثلة في برنامجي «أبوستروف» و«حساء ثقافة» بسبب تناولهما في كتابه «مهنة القراءة» الذي صدر في شكل حوار مع المفكر الكبير بيار نورا عام 2001، وصدر له أيضا كتاب «إملاء برنار بيفو» عام 2002 و«مائة كلمة يجب أن تنقذ» و«قاموس حب النبيذ» عام 2006 و«مائة عبارة يجب أن تنقذ» العام الماضي. وحتى تتضح العلاقة الموضوعية بين قصة بيفو الصحافية مع الثقافة والأدب والرواية والكتاب بوجه خاص وبين كتابته قاموس كلمات حياته، من الضروري التوقف عند أهم الكلمات التي تسمح للقارئ بالاطلاع على تجربة ثرية وغنية بمعلومات تمتزج من خلالها أصالة وخصوصية مضمونها الأدبي والإنساني وإبداع وقصص وطرائف الروائيين والكتاب الذين تشرف بيفو باستضافتهم في برنامج «أبوستروف» الذي دام 15 عاما - من 1975 إلى 1990 – وشاهده نحو 3 ملايين متفرج وتحول إلى موعد ثابت عند المؤمنين والملحدين والأغنياء والفقراء والنخب وكل فئات الشعب البسيط والرجال والنساء والشبان والعجائز. ففي كلمة نقاش مثلا تحدث بيفو عن الناشرين الإيطاليين الذين تناقشوا معه مبدين تأسفهم لعدم وجود برنامج تلفزيوني أدبي مثل برنامجه في بلاد يسيطر فيها برلسكوني على المشهد التلفزيوني، وعن دهشته لأمر الإيطاليين الذين يصرخون في برامجهم الثقافية وغير الثقافية خلافا للإنجليز الذين يناقشون السياسة والأدب بروح باردة ومتحفظة تفتقد للشعلة الإيطالية الحارقة والمثيرة للأعصاب والمرادفة للتهريج. عن الكتاب الأميركيين الذين حلوا ضيوفا عليه قال بيفو تحت كلمة «نقاش» إنهم أعجبوا بتمكينهم من التحدث عن كتبهم دون انقطاع بسبب الإشهار أو تدخل وزير أو عارضة أزياء أو لاعب غولف استضيفوا معهم في برامج أميركية، كما عبروا عن دهشتهم لتأثير برنامجه على مبيعات الكتب ومساهمته في شهرتهم الباريسية بعد ظهورهم في برنامجه، وتحولهم إلى نجوم في مقاهي ومطاعم العاصمة الفرنسية. فلاديمير نابوكوف كان الشخصية الروائية الشهيرة والمشاغبة التي تناولها بيفو تحت كلمة «جسد» من منطلق تجربته العلمية والنفسية التي أثبتت أن الإنسان يشفى مؤقتا من مرضه لحظة قيامه بممارسة يحبها، الأمر الذي دفعه بالسماح لنابوكوف بتناول الويسكي مباشرة على الشاشة حتى يتحمل جسده ألم مرض البروستات وفعل بيفو ذلك مجسدا احترامه للمشاهدين بتصويره صب الويسكي في كأس نابوكوف على أساس أنه شاي: «هل تريد المزيد من الشاي السيد نابوكوف؟»، بيفو نفسه عاش التجربة حينما استضاف الروائية الكبيرة الراحلة مارغريت دوراس صاحبة رائعة «العشيق»، وشفي بيفو من زكامه الحاد أثناء مناقشته الروائية التي أيقظته في الساعة الثانية صباحا لكي تقرأ عليه مقطعا من إحدى رواياتها، الأمر الذي قبله على مضض بحكم الاحترام الذي يكنه لها. تحت كلمة «قراءة» التي أفرد لها العدد الأكبر من الصفحات - باعتبارها الكلمة التي دارت حولها تجربته الصحافية والأدبية - لعب بيفو دور المنظر للقراءة في علاقتها بوضعيات معينة، وعن الأزواج الذين يفضلون قراءة روايات الحب في السرير ولا سيما النساء المغرمات، وبيفو الذي أهمل عائلته بسبب القراءة يفضل الجلوس على كرسي أو على أريكة مريحة لأنه يقرأ بجدية وعين نقدية فاحصة تفرض عليه تسجيل الملاحظات التي تساعده على طرح الأسئلة الوجيهة والمحرجة لضيوفه الكثر. صاحب أشهر برنامج تلفزيوني أدبي ليس صحافيا وكاتبا مبدعا فقط بل يملك أيضا موهبة أخرى تتمثل في روح الفكاهة والدعابة التي طبعت كتابه من البداية، ولم يقف عند كلمة شكلت محطة متميزة في حياته المهنية إلا وعلق على حكاية أو موقف بسخرية، الأمر الذي أعطى لكتابه نكهة متعة نادرة تعايشت بامتياز مع جدية المعلومات التي شكلت ثقافة أدبية وصحافية جديرة بالتعريف والتقديم على أوسع نطاق ممكن باعتبارها مرجعية يعود إليها كل شغوف أصيل بعالم الكلمة. ومن الأمثلة الكاشفة عن توظيفه للحقيقة السالفة الذكر استعانته بالروائي الهايتي الأصل داني لافيريار الذي قال لبيفو عند استضتافته: «مهنة الكتابة مثل الخياطة تحتاج إلى مؤخرة قوية وصلبة وخاصة إذا تعلق الأمر برواية» وعلق بيفو على كلام لافيريار مضيفا «الأمر نفسه ينطبق على القارئ المهني مثلي وشخصيا كان لي حظ التمتع بمؤخرة جيدة». في سياق التحدث عن علاقة كلمة قراءة بالثقافة الأدبية وروح الكاتب الساخرة، كتب بيفو أن بروست وتولستوي هما الروائيان اللذان خدما كثيرا السلك الطبي لأن حجم مؤلفهما «البحث في الزمن الضائع» و«الحرب والسلام» يخدم المرضى الذين يمكثون طويلا في المستشفى، فمفتش الضمان الاجتماعي ليس في حاجة إلى تدقيق في صحة تصريحاتهم لأن وجود الروايتين على طاولاتهم أو أسرتهم يثبت فعلا أنهم دخلوا المستشفى لفترة طويلة. القراءة في السجون كانت محطة شيقة أخرى تناولها الكاتب، وحكى أن جان جاك بروشييه الذي ترأس تحرير المجلة الأدبية مدة 35 عاما ودخل السجن بسبب تضامنه مع جبهة التحرير الوطني الجزائرية تمكن من قراءة كل الكتب التي أرسلها له الناشرون ومنها كتب سارتر التي تلقاها من دار «غاليمار»، كما أن السجن مكن أيضا المعارض السياسي البولوني لنظام الجنرال جاروزلسكي من قراءة كتاب ميشال فوكو عن عالم الحبس «راقب وعاقب» ورواية «اسم الوردة» لأوبرتو أيكو الشهير، الأمر الذي أجبره على تحسين مستواه في اللغة الإيطالية. والسجون والمعسكرات مكنت أيضا كتابا مثل ودوستوفسكي وفيرلين وأوسكار وايلد وجان جينيه وسولجنتسين وآخرين من قراءة روايات كثيرة انعكست على إبداعهم لاحقا. وأنهى بيفو رحلته الممتعة مع كلمتي القراءة والكتابة بشكل رائع بتذكيره بالسؤال الأول الذي طرحه أندري مالرو على ابنته فلورنس - 12 عاما - التي لم يرها طيلة الحرب ألا وهو: «أي كتاب أنت بصدد قراءته الآن»؟ دون تعليق.