اللبنانيون يكتشفون فضائل «علم النفس»

بين الشعوذة والأكاديمية.. مواطنون يبحثون عن ذواتهم

TT

فورة غير مسبوقة في عدد المؤتمرات التي تناقش قضايا نفسية يشهدها لبنان.. هذا إلى جانب ورش العمل والمحاضرات والمشاريع التأهيلية.. أمر يثير التساؤل حول سبب هذه الظاهرة التي باتت تحاول تحسين حياة المواطن في كل ميدان.. هل اكتشف اللبنانيون أهمية علم النفس في تحسين شروط حياتهم، أم أن للظاهرة خفاياها؟ تحقيق يحاول إلقاء الضوء.

وكأنما اكتشف اللبنانيون فجأة أهمية «علم النفس»، وخطورة الانحرافات السلوكية، وضرورة معرفة الذات لتنمية قدراتها وطاقاتها الخفية. في الشهر الماضي وحده، شهد لبنان 3 مؤتمرات ذات مستوى دولي ناقشت قضايا نفسية بحضور أساتذة كبار من عرب وغربيين، هذا غير المحاضرات والنشاطات والدراسات.

ولا يخفى على المتابع أن البرامج التلفزيونية تزداد حماسة لاستقبال محللين نفسيين، ومتخصصين في علم نفس الأطفال، كما نشطت برامج عدة خلال السنتين الأخيرتين، لاستضافة خبراء في تحليل لغة الجسد، لقراءة نوايا السياسيين وما يضمرونه، وكشف مدى صدقهم أو كذبهم، من حركات أيديهم، وقسمات وجوههم. ثمة برامج بات لها مستشاروها الخاصون في قضايا التحليل النفسي، وهو ما بدأه تلفزيون «أو تي في» وتبعه تلفزيون «الجديد»، لا سيما برنامج «للنشر» الذي يستعين بمحلل نفسي، للكشف عن بعض الخبايا السيكولوجية لقضايا يطرحها البرنامج، قد تكون أسرية أو اجتماعية، لكنها قد تصل إلى معمر القذافي وطريقة تصفيته أيضا.

ولعل الظاهرة لا تزال في أولها وتبشر بمزيد من التطور، في مجتمعات كانت تنظر، حتى الأمس القريب، إلى خريج قسم علم النفس على أنه معقد ومجنون، ليصبح ضرورة اجتماعية في المدارس والجامعات لمساعدة الطلاب، كما على الشاشات لتنوير المشاهدين. في الشهر الأخير لوحظ أن المستشفيات هي التي تأخذ المبادرة. «مستشفى جبل لبنان» نظم مؤتمرا كبيرا تحت عنوان «الحرب تنتهي ولا تنتهي». وناقش المؤتمرون، طوال يومين، عنف النفس البشرية، وهل الحرب اللبنانية وضعت أوزارها أم أنها لا تزال حية ومشتعلة جذوتها في قلوب الناس؟ وإن كانت الإجابات قد أجمعت على أن الحرب لا تزال قائمة وإن بشكل مختلف، فقد تباينت الاقتراحات حول الحل. وقدمت الأمثلة حول ما حصل بعد الحرب العالمية الثانية لمواساة اليهود، أو كيف استطاعت جنوب أفريقيا إقامة مصالحة بين البيض والسود من خلال محاكم رمزية أدانت المجرمين. لكن الأسئلة بقيت مفتوحة، لصعوبة الوصول إلى إجابات شافية.

قبلها كان «المؤتمر العلمي الفرنكفوني الثالث للطب النفسي» قد عقد في مستشفى أوتيل ديو، بتنظيم من قسم الطب النفسي في كلية الطب في «جامعة القديس يوسف». كما أعلنت، منذ أيام، جمعية «إدراك» (مركز الأبحاث وتطوير العلاج التطبيقي) أن 1353 تلميذا استفادوا من برنامج نفذته، بالتعاون مع دائرة الطب النفسي في مستشفى القديس جاورجيوس الجامعي، وكلية الطب في جامعة البلمند، وبتمويل من الاتحاد الأوروبي، والهدف تعليم الطلاب أدوات تعينهم على مواجهة المواقف العصيبة والضاغطة في الحياة اليومية؛ حيث إن حصصا لتدريس هذا البرنامج أدرجت ضمن مناهج 17 مدرسة رسمية خاصة، بإشراف 44 معلما تم تدريبهم لهذه الغاية. وشددت المنسقة العامة للتوجيه التربوي، السيدة منى الطويل، على أن «هذا المشروع مهم بالنسبة إلى وزارة التربية؛ لأنه فريد من نوعه من جهة تركيزه على تنمية مهارات المرونة لدى التلاميذ والأساتذة». ولاحظت أن «أصداء هذا المشروع من المدارس الرسمية والخاصة كانت جيدة»، معتبرة أنه «أحد المشاريع التي من المهم أن تدعمها وزارة التربية». وكشفت عن أن «الوزارة بصدد دراسة إمكان تعميم هذا البرنامج في مراحل لاحقة».

هذا غيض من فيض المشاريع والمؤتمرات التي يشهدها لبنان، وهدفها دائما تحسين حياة المواطن، سواء أكان طفلا أم بالغا. وفي السنوات الأخيرة، باتت ورش العمل التي تنظَّم في المسارح معنية هي الأخرى بتحسين قدرة الإنسان التعبيرية، ومساعدته على إخراج مكبوتاته من خلال التمثيل، وتطويع الجسد، وحث المشاركين على الكلام. ولم يعد نادرا أن نقرأ إعلانا عن مكاتب تأهيلية، منها المتخصص في تأهيل العرسان الجدد لتقبل بعضهم البعض، وغيرها ينخرط في غمار الحياة الزوجية، حين تصبح أكثر سخونة ووعورة، وهناك ما يتخصص في إطلاق إمكانات الموظفين وتعزيز طاقاتهم.

العناوين بحد ذاتها مغرية، وتوحي بالإفادة، لكن إلى أي مدى يمكن اعتبار الفورة علمية صحية، تعزز ثقافة معرفة الذات والتعامل معها، أم أن علم النفس، كتخصص إنساني، أصبح موضع متاجرة من العاملين فيه قبل غيرهم؟

الدكتور إيلي كرم، الذي يعتبر أحد محركات هذه الأنشطة، وهو رئيس قسم الطب النفسي في مستشفى القديس جاورجيوس الجامعي، أو ما يعرف باسم أوتيل ديو، قال لـ«الشرق الأوسط» إن الظاهرة ليست مستجدة بالكامل «لكن الجديد الآن أن مؤسسة (إدراك)، بالتعاون مع جامعة البلمند ومستشفى الروم، قررت أن تتعاون لتنشيط هذا الموضوع؛ وذلك لأن لبنان يقوم بأبحاث ودراسات مهمة في مجال الطب النفسي، تتم الاستفادة من نتائجها في الخارج، بينما تبقى مهملة في لبنان». ويشرح كرم بأن «الدراسات اللبنانية ونتائجها احتلت مراكز عالمية، وتم الاحتفاء بها في دول أجنبية، وعُرف أطباء لبنانيون ذوو شهرة، لكن هذا لم ينعكس إيجابا بالشكل الكافي في بلد الدراسات، مما جعلنا نتحرك».

هذه الصورة المشرقة لا يوافق عليها بالكامل الدكتور محمد أحمد النابلسي، مدير «مركز الدراسات النفسية والنفسية - الجسدية»، مؤسس «المركز العربي للدراسات المستقبلية».

وفي رأي النابلسي أن «ثمة ميلا في السنوات الأخيرة لأخذ علم النفس صوب شعبوية أصابته في مقتل». ويضيف: «نحن أمام استعراضات اجتماعية ونفعية أكثر مما هي مؤتمرات علمية. كنا في السابق ندفع من جيوبنا لنقيم مؤتمرا، وصار المؤتمر الآن يدر مالا وكسبا، بسبب تمويلات جهات مختلفة، ومنها شركات الدواء على سبيل المثال لا الحصر». ويشرح النابلسي: «نحن أمام مؤتمرات تفتقد بالفعل إلى الطابع العلمي والأكاديمي، ولا تنعكس بالضرورة إيجابا على حياة الناس. ومراكز التدريب وورش العمل الكثيرة التي بات يفتتحها المحللون النفسيون وخريجو معاهد علم النفس، تدل على أنهم يعانون نقصا في المداخيل، والذي يستطيع أن يعمل بعيادته ويهتم بمرضاه فغالبا لا يذهب لتبسيط قضايا هي في غاية التعقيد، ويطرح حلولا شعبية وغير جادة على الناس».

وعن إدخال التحليل في مناقشة قضايا مختلفة على التلفزيون، يقول النابلسي: «لا أتصور أن محللا يقوم بمثل هذا العمل يستطيع الحفاظ على مصداقيته العلمية والأكاديمية». ويبدو أن انتشار المعلومات حول الأزمات النفسية، وكثرة الدراسات المنشورة على الإنترنت، التي تناقش في وسائل الإعلام، باتا يتسببان في الكثير من المشكلات، على الرغم من أن لها بعض الجوانب الإيجابية». ويعطي النابلسي مثلا حيا من بين الكثير من الحالات التي بات يستقبلها، ويروي أنه استقبل مهندسا جاء ليخبره بأنه يعاني 4 أمراض نفسية، كتب أسماءها مع بعض الملاحظات على ورقة. وحين سأله كيف عرف ذلك، فأجاب: «سمعت شروحات على التلفزيون وبحثت على الإنترنت، وتوصلت للنتيجة». ويحذر الدكتور النابلسي من اعتبار اختصاص علم النفس مجالا سهلا وبسيطا، في حين هو من أعقد المجالات وأكثرها حساسية، مضيفا: «في مهنتنا، لا يمكن لنا أن نقول لمن يطلب مساعدتنا كل ما نفكر به، وللمهنة أصول لا بد من اتباعها. لقد طلب مني أن أصبح شريكا في أحد البرامج التلفزيونية لتحليل شخصيات السياسيين مقابل عرض مادي مغرٍ، لكنني رفضت لأن قبولي يعني أنني أتخلى عن مصداقيتي ومهنتي مقابل حفنة من المال».

لكن الدكتور إيلي كرم يعتبر أن «المؤتمرات والمحاضرات والورش التي يقوم بتنظيمها هي جزء من واجب لتوعية اللبنانيين وتثقيفهم وتنويرهم، وهي أمر ضروري». وفي رأيه أنه «من اللازم أيضا عرض نتائج الدراسات أمام المواطنين وشرحها لهم، وهو ما يعود بنفع فردي وجماعي».

بين رفض تبسيط معطيات علم النفس، والمبالغة في الترويج لها والكسب التجاري من ورائها، يبدو أن ثمة ما هو مفقود بالفعل في لبنان، أي تنظيم هذا الحقل المعرفي بشكل قاطع يجعل المسافة واضحة بين المشعوذين والأكاديميين. ودخول السياسيين على خط تكريم الاختصاصيين في هذا المجال، كما فعل رئيس الجمهورية منذ أيام في افتتاح مؤتمر حول «الاضطراب ثنائي القطب» مكرما أحد أبرز اللبنانيين الذين نالوا شهرة عالمية في مجال الطب النفسي، وهو البروفسور هاغوب أكيسكال، قد يكون فاتحة للمطالبة بمزيد من التنظيم لواحدة من أدق المواضيع الأكاديمية وأكثرها خطورة.

أما لماذا يهتم لبنان هذه الأيام بتحليل النفسيات، والإضاءة على أسباب العنف والحروب، فيقول الدكتور النابلسي: «ربما لأنه من أهدأ الدول في المنطقة في الوقت الراهن، ويتأمل ما يجري حوله، ويحاول فهمه وتحليله، لكن هذا يجب أن يتم بأسلوب علمي».