مائة وردة لموريس نادو أحد رموز الثقافة الفرنسية المعاصرة

اكتشف الكثير من المواهب لكنه خسر الأموال

موريس نادو
TT

أي متعة أن يقرأ المرء نصوصا كتبها مؤلف ومبدع وهو في سن المائة أو يقترب منها أو يتجاوزها؟!.. في الشرق العربي كاد ميخائيل نعيمة يصل إلى المائة، وتوفيق الحكيم مات في سن التاسعة والثمانين، وكانت قراءتنا لنصوصهما الأخيرة فرصة للمقارنة مع سابقاتها أو الحديث عن ثبات أو نكوص. وفي فرنسا، تحتفل الأوساط الأدبية ببلوغ موريس نادو سن المائة، وتعتبر قراءة نصوصه الأخيرة أو تأملاته وخواطره وقراءاته (التي يواظب عليها في مجلة «لاكانزين ليترير») إذ للصحة إكراهاتها وشروطها، ممتعة لاكتشاف درجات التغيير أو التجاوز أو التراجع التي يمكن لكاتب ما أن يمارسها أو أن يستشفها القارئ والمتابع.

لقد غادرنا قبل سنوات، وقبيل أن يصل إلى سنة المائة، الأنثروبولوجي الفرنسي الكبير كلود ليفي ستروس، الذي استمر في العطاء وإبداء آرائه ونصائحه حتى الرمق الأخير. ولعل المخرج البرتغالي مانويل أوليفيرا الذي ولد في 11 ديسمبر (كانون الأول) 1908، والذي لا يزال، رغم مرور السنين، يعمل من دون تعب وينتج فيلما كل سنة، ويمنحنا مثالا فريدا عن الرجل الذي يرفض، رغم بلوغه سن الـ103، فكرة التقاعد والانصراف لكتابة اليوميات، كما فعل الكثيرون.

موريس نادو عملاق آخر اجتاز، بنجاح، عتبة المائة السنة، وهو واحد من أهم صانعي الثقافة في فرنسا. عمل صحافيا وناشرا وناقدا ومدير مجلات، آخرها هي «لاكانزين ليترير» (التي ظهرت في الأكشاك في شهر مارس/ آذار 1966، ويتواصل إلى اليوم وبانتظام صدورها نصف الشهري، ووصل رقم أعدادها إلى 1047)، والتي تصدر عن دار نشر تحمل الاسم نفسه، ويواصل العمل فيها مع كوكبة من المساعدين لا يلبثون أن ينطفئوا، مع مرور الزمن. ولعل من بينهم آن ساروت أخت الروائية الكبيرة ناتالي ساروت، التي رحلت عن سن 78.

ولد موريس نادو في 21 مايو (أيار) 1911، وابتدأ مدرسا قبل أن ينسحب من التعليم وينطلق في مغامرة النشر والكتابة واكتشاف المواهب. وفعلا اكتشف الكثير منها، نذكر من بينها جورج بيريك، أنجليو رينالدي، هيكتور بيانكيوتي وميشيل ويلبيك وغيرهم.

لكن الاكتشاف والنشر للكتاب المغمورين له ثمن، فهو عاش حياته، ولا يزال، مفلسا على الدوام، لأن الكثير من دور النشر، التي تريد الربح السريع، لم تتقبل فكرته عن الأدب الجيد ولا الخسارات المالية.. إذ منطقها هو نشر الأعمال التجارية أو الأدب الجماهيري أو الشعبي.

ونشر موريس نادو لكتاب مغمورين، وعانى الأمرين من أجل تسويقهم. وحين شبوا عن الطوق استهوتهم دور النشر الفرنسية الكبرى كـ«غاليمار» و«سوي» و«فلاماريون» وغيرها، وتخلوا عنه.

ويتحدث عن تعرفه على ميشيل ويلبيك وقراره بنشر أحد أعماله التي دفعته إلى الأضواء، وجعلت منه ما هو عليه من كونه الممثل الأقوى للموضة الكتابية الجديدة «كنت خائفا، من الناحية المالية، في ألا أتحمل العواقب. لم تكن لديّ، أبدا، أموال كثيرة، وما زلت حتى اليوم أخسر منها. فترددت، وترددت. جاءت زوجته وقالت لي: (ألا تخجل من عدم نشره، إنه من الروائع؟)، بعد ثلاثة أشهر قررت نشر كتابه. كان ويلبيك يقول لي: (أنا سأصبح إما بيريك (جورج) Georges Perec، أو ربما طوماس مان). قلت في نفسي: إنه شخص يمتلك طموحا. الأمر جيد، وسيساعده طموحه على الشهرة».

أسهم نادو في التعريف بكثير من الكتاب الأجانب في فرنسا ومن بينهم المفكر الألماني الكبير والتر بنيامين، لكنه يعترف بأن نشر أعمال هذا العملاق، وأيضا آخرين كآرنو شميدت وغومبروفيتش ولورنس داريل، الذي نشره بإيعاز شخصي من هنري ميلر، سبب له كوارث مالية لصعوبة تسويق هذا النوع من الكتب.

يطرح الناشر الكبير وبصراحة كبيرة مسار حياته العملي، فيعترف بأنه رفض نشر العديد من الكتاب ومن بينهم أوكتافيو باز، وكتاب من أميركا اللاتينية من بينهم خوليو كورتزار، ويعزو الأمر لعدم إتقانه اللغة الإسبانية، وفي الاعتراف شيء من مرارة، فهؤلاء عرفوا انتشارا وشعبية كبيرة في فرنسا.

كصحافي كان يكتب عن كتاب مكرسين، من قبيل هنري ميشو وجورج بتاي وموريس بلانشو، لكن من أجل غرض نبيل «الكتابة عنهم تمنحني رغبة في اكتشاف آخرين، والتحدث عن كتاب شباب ونشر أعمالهم»

لم تكن حياة نادو هادئة فقد تنقل كثيرا، من وقع لآخر، من دار «كوريا» إلى دار «جوليارد» إلى دار «دونوويل»، وفي سنة 1978 أطلق داره الخاصة «ليتر نوفيل - موريس نادو»، وهي التي تقوم بتوزيع المجلة نصف الشهرية «لاكانزين ليترير».

ورغم السنين يواصل موريس نادو، مهنته، القراءة والاكتشاف والنشر.. «أواصل عملي كناشر، لكني أواصل خسارة الأموال مع ما أنشره، وحين أنظر إلى حصيلة سنة 2009 المالية أتساءل من أين يمكنني أن أجد المال لمواصلة العمل».

هذا الكائن الذي لا يتعب يعترف بأنه لا يقرأ أربعا وعشرين ساعة في الأربع والعشرين ساعة، لكن القراءة تحتل أكبر قدر من وقته. هو سعيد لكونه استثناء، على الرغم من أن البعض يقول له «لست الوحيد في هذه السن، هناك فلان وعلان»، وعلى الرغم، أيضا، من أن أحدهم قال له «كيف عشت طول هذا الوقت؟.. ألا تخجل؟».