حسين بافقيه: المجلات الثقافية تحولت إلى دكاكين ودور للمسنين

قال لـ «الشرق الأوسط»: وجود الناقد الأكاديمي بجانب الثقافي يمثل تنوعا مطلوبا

حسين بافقيه
TT

كان طموح مجلة «الحج والعمرة» أن تتحول إلى مجلة دعوية، أو خبرية تتناول مناسك الحج والعمرة كما هو واضح من عنوانها، لكن خلال ترؤسه لتحريرها تمكن الناقد والإعلامي السعودي حسين بافقيه أن يعقد مصالحة بين المثقف الحديث والمسائل الدينية، وجعل من المجلة بيئة لإبداع المفكرين والمثقفين والأدباء من مختلف الاتجاهات. الحوار التالي، مع حسين بافقيه في الرياض، يتناول تجربة المجلات الثقافية ويتناول المشهد النقدي العام في السعودية.

* تجربتك مع مجلة «الحج والعمرة» كانت محطة مهمة في عملية المصالحة بين مختلف أنواع الثقافة.. ماذا تقول؟

- كانت مجلة «الحج والعمرة» تجربة حبيبة إلى القلب لأنها أول تجربة صحافية حقيقية لي، سعدت حينها بالعمل إلى جوار الكاتب الصحافي الكبير الراحل محمد صلاح الدين، إذ كانت «وكالة مكة للإعلام» التي يملكها هي التي تصدر هذه المجلة. وكان الهم الذي طغى على تفكيري ووجداني هو كيف أستطيع أن أجعل من مجلة اسمها «الحج والعمرة» بيئة للمفكرين وللمثقفين وللأدباء الذين لا ينتمون إلى الحقول الدينية أو الشرعية.

وكان يحدوني إلى ذلك أمران، أولهما أن الحج، فكما أنه شعيرة دينية هو بيئة للعلم وللثقافة والتأملات الإنسانية والروحية. أما الأمر الآخر فهو عقد مصالحة بين المثقف الحديث ومجلة تعنى بمسائل دينية. وبفضل الله نجحت وزملائي في أن نستكتب كوكبة كبيرة من المثقفين العرب الذين يشتغلون بمسائل فكرية وأدبية جديدة، وأن نكشف من خلال كتاباتهم قدرا واسعا من تأملاتهم في الحج ورحلته في الزمان والمكان.

* هل كان ذلك نتاج نية مبيتة لأسلمة المفكرين والمثقفين؟

- إطلاقا لم يكن الأمر كذلك، إذ لم يكن هناك حرص على أسلمة المفكرين والمثقفين، وغاية ما كنت أعنى به هو جعل المسألة الدينية في شكلها الروحي والعاطفي جزءا من اشتغالاتهم، والطريف في الأمر أنه تكشف من خلال المجلة تلك العلاقة الروحية العجيبة التي تربط الكاتب العربي الحديث بالحج ورسالته.

ما حققته المجلة في المدة التي رأست تحريرها هو تعبير عن تحول في تاريخها، لأنها كانت بيئة لأقلام لامعة في الحركة الثقافية في العالم العربي. ولك أن تعرف أن من أبرز كتابها حسن حنفي وتركي الحمد ورضوان السيد ونقولا زيادة وجمال الغيطاني وتركي الربيعو والسيد ولد أباه وسعيد السريحي ويوسف القعيد وسعيد بنسعيد العلوي والمستشرق الروسي نتالي ناومكين والناقد الساحل العاجي آدم بمبا، وكوكبة كبيرة من المفكرين العرب الذين أعادوا التفكير مجددا في مركز الحج ومكانته في التحولات الفكرية والوجدانية التي أثرت في الأفراد والمجتمعات.

* كيف تنظر إلى الدور الذي تقوم به المجلات الثقافية الآن؟

- أنا شخصيا أنتمي إلى عصر القارئ التقليدي الذي يحرص مطلع كل شهر على أن يقرأ عددا من المجلات الثقافية التي عرفتها قديما وما زلت مرتبطا بها كمجلة «العربي» ومجلة «الهلال» و«المجلة العربية» ومجلة «الفيصل»، وحديثا كمجلتي «الدوحة» و«دبي الثقافية». ولكن ما يعاب على بعض المجلات الثقافية أنها تحولت إلى دكاكين ثقافية يستأجرها بعض من ألمع الكتاب العرب الذين أدمنا قراءتهم منذ ما يزيد على عشرين سنة، ففي مجلة «العربي» مثلا، جابر عصفور وفاروق شوشة وأحمد أبو زيد ما زالوا يكتبون في المجلة نفسها حتى وقتنا الحاضر، وهم لا شك كتاب كبار، ولكن آن لهم أن يستريحوا ويتركوا الفرصة لغيرهم في هذه المجلة.

* هل شاخت أفكارهم وثقافتهم.. بمعنى آخر، هل الثقافة تشيخ؟

- الكلام يظل في العموميات، فثمة كتاب يجري دم الشباب في كتاباتهم حتى آخر لحظة وأبرزهم عالميا برناردشو وعربيا سلامة موسى، ولكن في الغالب يجتر المثقف أفكاره ويعيش عليها والأمثلة كثيرة، فمثلا ما يكتبه جابر عصفور في غير صحيفة وفي غير مجلة ما هو إلا تكرار لمقالات سابقة، فإن لم تكن هذه شيخوخة فكرية فماذا نسميها؟

أعتقد أن في ذلك تجميدا لحركة الثقافة وافتئاتا وظلما يقع على الأجيال الثقافية الجديدة، فليس من المعقول أن لا تطالعنا تلك المجلات إلا بالأسماء التي شاخت عمرا وشاخت فكرا، وكأن تلك المجلات قد تحولت إلى دور للمسنين، مع أنه في عالمنا العربي نعيش زمن الأجيال الشابة التي تبحث لها عن مكان، غير أن أولئك النفر من الأشياخ قد حالوا بينهم وبين الظهور، إضافة إلى أن بعض المجلات الثقافية تعيش في عصر مختلف عن العصر الذي تغيرت فيه القيم والأفكار بشكل جذري.

* ولكن هناك رؤساء تحرير هرموا ولهم علاقات خاصة مع قدامى كبار المثقفين والمفكرين وهم لا يثقون إلا في كتاباتهم.. والسؤال: ألا تخشى أن يحدث عدم تواصل أجيال بين الرعيل الأول والشباب منهم الآن؟

- هناك سؤال رديف يبرز إلى الساحة: لماذا يعمل القائمون على تلك المجلات على تجميدها ويجعلونها حكرا على أسماء بعينها؟ تغير الزمان ولم تتغير تلك الأسماء. أعتقد أن العيب يكمن في سياسة التحرير، إذ لا بد أن تجدد هذه المجلات نفسها حينا بعد حين حتى لا تتحول إلى إقطاعات كما هو حالها الآن. هناك مدارس في الإدارة والتحرير ترى أن يظل التحرير أو المسؤول على كرسي تحرير الصحيفة أو المجلة إلى ما شاء الله، حيث يشيب الزمان وهو باقٍ في مكانه، ونحن نعرف حينما كنا صغارا رؤساء تحرير، وحين شببنا كانوا في مواقعهم، وها نحن قد اكتهلنا وهم ما زالوا في مواقعهم.

وإني لأتذكر صرخة التونسي في قناة «الجزيرة» حينما ردد: «هرمنا.. هرمنا»! ولكن هذه المدرسة في الإدارة وفي التحرير تقابلها مدرسة أخرى ترى أن لا يمكث مسؤول في موقعه أكثر من خمس سنوات بالكثير، أعتقد أن ذلك يعني شيخوخة للفكر وشيخوخة للصحافة، ولكن في المقابل نجد الصحافة شابة وفتية في الصحف الإلكترونية، حيث وجد الشبان المجال واسعا يعبرون كما يشاءون دون وصاية أو حكمة يدعيها مسنو الصحافة.

* دعنا نتحدث عن النقد.. كيف تنظر إلى واقع النقد ومدى تأثره بحركة الزمان والمكان والتحولات السريعة، التي تشهدها الساحة السعودية عموما؟

- باختصار هناك نقد كثير، فالكتب النقدية نجدها في المكتبات على نحو كبير وبغزارة، ولكننا مع هذه الكثرة الكاثرة لا نكاد نمسك إلا في النزر اليسير بنقد يكشف عن بصر عميق بالأدب وبالجمال، وعسى أن يكون أصل المشكلة هو في برامج الماجستير والدكتوراه التي تخرج سنويا عشرات من الدارسين الذين يقذفون برسائلهم العلمية إلى المطابع فنقرأ كلاما أكاديميا محسوبا على النقد وما هو بنقد ولكن شُبّه لهم.

* هل تعتقد أن هناك تواصلا بين قدامى النقاد والنقاد الجدد؟

- حداثة التجربة النقدية في السعودية وتحول النقاد إلى نجوم وأصحاب مشاريع ممتدة أوهم كثيرا من المشتغلين في النقد في السعودية أن بإمكان كل واحد منهم أن يكون صاحب مشروع نقدي مستقل، وأدى ذلك إلى انشغال الساحة الثقافية بالمشاريع على حساب البصيرة النقدية التي هي مهمة لأي حركة أدبية، وعلى حساب التواصل مع الأجيال.

* هناك الكثير من المبدعين الروائيين والشعراء يصفون النقد بالغائب كأنما فقد دوره تماما.. ما تعليقك؟

- أتفق مع هذا الاتهام، وأعتقد أن السبب في ذلك يعود لكثرة الأعمال الروائية التي تدفقت حديثا في السعودية، إذ إنه وبحسب الإحصاءات تصدر سنويا سبعون رواية ويصعب على أي ناقد حتى لو تجرد لها أن يواكبها، ثم إن معظم المشتغلين بالنقد في السعودية هم من الأكاديميين، والأكاديمي عادة ما يشتغل على بحوث ذات طبيعة خاصة يهمه فيها أن يكون وفيا لمنهجه النظري أكثر من وفائه للنص المدروس، وهو عادة يسوق النص الأدبي لكي يثبت أفكارا ونظرية يؤمن بها وأثر ذلك في ضعف التناول النقدي للآثار الأدبية الجديدة التي تصدر بشكل يومي.

* هل تعتقد أن حصر الناقد الأكاديمي العملية النقدية في الأبحاث يأتي على حساب الساحة الثقافية والأدب؟

- لا أعتقد أن ذلك يؤثر سلبا في الساحة الثقافية والأدبية، بل الأحرى أن وجود نقاد أكاديميين بجانب النقاد البارزين في الساحة الثقافية يصنع تنوعا مطلوبا في الثقافة. ونحن نعرف أكاديميين خرجوا إلى الساحة الثقافية وأن آخرين ظلوا في محيط الجامعة، وكما كان لدينا عربيا نموذج محمد مندور ولويس عوض من الأكاديميين الذين انتموا إلى الساحة الثقافية، فلدينا كذلك نموذج محمد غنيمي هلال الأكاديمي الذي لم يبرح أسوار الجامعة، وكلا النموذجين قدم أعمالا نقدية مهمة.

* هل من تحديات ما زالت عصية تواجه العمل النقدي والنقاد وبخاصة الجدد منهم؟

- هذا سؤال كبير جدا، ولكن ما يتبادر إلى ذهني الآن هو ذلك الجفاء بين النظرية النقدية التي أصبحت مشغلة للنقاد، والنصوص الأدبية. ولك أن تعرف وأن تتعجب أن جمهرة من النقاد لا تربطهم صلة وثيقة بالآثار الأدبية، وفي ذلك مشكلة كبيرة تتهدد النقد الأدبي الذي شغل نفسه بأعمال نظرية وابتعد كثيرا عن مائية الأدب وطراوته، وما هكذا كان نقاد الجيل الماضي كإحسان عباس ومحمد مندور وعبد القار القط وشكري عياد، إذ كان ذلك الجيل يمارس النقد التطبيقي ويضع العلامات الهادية لفلسفة النقد.