العرب على وشك أن يدخلوا التاريخ

المفكر الفرنسي فيري يكتب عن الفلسفة كعزاء في عالم لا عزاء فيه

غلاف الكتاب
TT

بالنسبة للعالم الإسلامي فإن الدين هو العزاء عن كل المصائب والمشكلات. وهو الذي يبث الثقة والطمأنينة في النفوس ويحميها من الخوف الأكبر: قصدت الخوف من الموت. فالموت ليس فناء مطلقا كما يعتقد الملاحدة، وإنما هو مجرد عبور نحو الدار الآخرة: دار الأبدية والخلود. وبالنسبة للعالم الأوروبي كانت المسيحية تلعب نفس الدور حتى انتصار الحداثة وتراجع هيبة الدين إلى حد كبير. وعندئذ أصبحت الفلسفة هي التي تقدم العزاء والرجاء للإنسان، وإن كانت بقيت أقلية من المسيحيين لا تزال متعلقة بالدين، وعلى رأسهم البابا. هذا ما نفهمه من أطروحات الكتاب الذي نستعرضه الآن. ومؤلفه هو الفيلسوف الفرنسي المعروف لوك فيري. وكان سابقا وزيرا للتربية والتعليم في عهد جاك شيراك. وقد اشتهرت مؤلفاته وترجمت إلى أكثر من عشرين لغة عالمية، نذكر من بينها كتابه عن الفلسفة السياسية، وعن فكر ثورة مايو (أيار) 1968، وعن هيدغر والمحدثين، وعن ظهور الجماليات الحديثة، وعن تجاوز نيتشه، إلخ. وفي هذا الكتاب الجديد يعترف لوك فيري بأن الفلسفة حلت محل الدين في الغرب في الآونة الأخيرة.

فلم يعد الناس، أو قل أغلبيتهم يبحثون عن الطمأنينة وتهدئة مخاوفهم وقلقهم في جهة المسيحية، وإنما في جهة الفلسفة القديمة أو الحديثة. وهذا تطور مذهل لم يحصل في أي منطقة أخرى من العالم حتى الآن. فالفلسفة العلمانية هي التي تسيطر على الغرب حاليا وليس الدين المسيحي. والفرنسي إذا ما أراد أن يبحث عن معنى الوجود، ومن أين جئنا وإلى أين المصير؟ لم يعد يبحث عنه في الإنجيل أو في كتابات آباء الكنيسة الكبار وإنما لدى أفلاطون وأرسطو وكانط، ونيتشه، إلخ. وفي هذا الكتاب يستعرض المؤلف تاريخ هذا التطور على مدار القرون، ويفتتحه بالتساؤل الأساسي التالي: ما هي الفلسفة؟ وما هي عقائدها التي تقود الإنسان إلى الخلاص خارج إطار الدين المسيحي؟ من المعلوم أن الإنسان في أوروبا كان يهدئ قلقه أمام الموت عن طريق اللجوء إلى الكاهن المسيحي الذي يقدم له المسحة المقدسة الأخيرة قبيل لحظة الموت مباشرة، فيباركه ويهدئ من روعه. وكان هذا الجواب يدخل الأمان إلى قلب المسيحي فلا يعود يخشى من الاندثار أو الفناء الكامل بعد الموت. ولكن بعد أن ظهرت العلوم الحديثة في الغرب وبعد أن تطور المجتمع كثيرا من الناحية العقلانية لم يعد هذا الجواب يكفي. وعندئذ تدخلت الفلسفة أو قل حلت محل الدين المسيحي لكي تقدم الجواب على قلق الإنسان وتساؤلاته الميتافيزيقية أمام لحظة الموت.

ولكن هذا لا يعني أن الجواب الديني انتهى مفعوله. فالواقع أن الكثيرين لا يزالون يؤمنون به وإن كان عددهم قد تناقص كثيرا بالقياس إلى المجتمعات الأخرى، كالمجتمعات الإسلامية مثلا. ثم يردف المؤلف قائلا: «في الواقع أن الدين المسيحي انتصر على الفلسفة قبل أن تنتصر الفلسفة أخيرا عليه. فعندما ظهرت المسيحية قبل ألفي سنة (2000) كانت الفلسفة اليونانية هي السائدة، أي فلسفة أرسطو وأفلاطون وأتباعهما. ولذلك قامت المسيحية برد فعل عنيف على هذه الفلسفة واتهمتها بالوثنية ودعت الناس إلى التخلي عنها وعدم قراءتها. بل وحرقت كتبها في أماكن كثيرة باعتبار أنها كتب ضالة مضلة تبعد عن الله».

وهكذا ماتت الفلسفة في الغرب لمدة عدة قرون، أي من القرن الرابع أو الخامس الميلادي إلى القرن الحادي عشر أو الثاني عشر. وهي ما يدعى عادة بالقرون الوسطى المظلمة. ولم يكتشف المسيحيون الأوروبيون الفلسفة إلا على يد العرب في إسبانيا. عندئذ راحوا يترجمون كتب الفارابي وابن سينا وابن رشد وسواهم لكي يطلعوا على أفكار أفلاطون وأرسطو من خلالهم. وابتدأت النهضة الأوروبية بعدئذ كما هو معلوم. وبالتالي فقد كان للعرب المسلمين شرف نقل الفكر الفلسفي والعلمي إلى أوروبا الجاهلة المتعصبة آنذاك. هذا شيء كثيرا ما ينساه الناس هنا أو يتناسونه لأن الأمور انقلبت رأسا على عقب في هذه الأيام ولأن عالم الإسلام هو الذي أصبح بحاجة إلى التنوير الفلسفي العقلاني وليس العالم الأوروبي. وبالتالي فسبحان مغير الأحوال! فمن كان حضاريا سابقا أصبح متخلفا الآن، ومن كان متخلفا أصبح حضاريا متفوقا بشكل ساحق. فهل يستيقظ العرب؟ هل يستيقظ المسلمون من غفوتهم؟ ومتى؟ هذا هو السؤال المطروح على المستوى العالمي كله. وقد زادت الانتفاضات العربية الراهنة هذا السؤال اشتعالا. وهي ترهص بأن العرب على وشك أن يدخلوا التاريخ بعد انهيار الأنظمة الشمولية للحزب الواحد والفكر المؤدلج الضيق. ثم يتحدث المؤلف بعدئذ عن كيفية انتصار الفلسفة العقلانية والإنسانية في أوروبا على الأصولية المسيحية. وقد ابتدأ هذا الانتصار في عصر ديكارت الذي دعا المسيحيين إلى استخدام العقل من أجل اكتشاف قوانين الطبيعة والسيطرة على الكون. كما دعاهم إلى التخلي عن عقلية الخرافات الأسطورية والمعجزات الخرافية التي تلغي العقل. ثم جاء بعده فلاسفة آخرون مشوا في هذا الاتجاه وكان أكبرهم كانط.

وهو مؤسس الفلسفة النقدية الحديثة في الغرب كله. بل وقد استطاع أن يتنبأ بمستقبل البشرية وبالأمم المتحدة تقريبا عندما دعا إلى تأسيس حكومة عالمية لحل المشكلات الناشبة عن طريق التفاوض العقلاني وليس عن طريق قعقعة السلاح. وراح يحلم بالسلام الأبدي بين الأمم والشعوب بعد أن تتحضر الشعوب كافة بالطبع وليس قبل ذلك. وهو هدف لا يزال بعيد المنال للأسف الشديد حتى بعد مائتي سنة من موت كانط!

ويعترف المؤلف بأن كانط شكل ثورة في الأخلاق الحديثة عن طريق كتابه «نقد العقل العملي». فقد بلور المبادئ الأخلاقية الكبرى التي ينبغي أن تتحكم بالسلوك البشري لكي تنتظم الحياة في المجتمع ولكي يصبح جميع الناس مهذبين، حضاريين، ملتزمين بالنزعة الإنسانية وخدمة المصلحة العامة وليس فقط المصلحة الفردية. والآن نلاحظ أن المبادئ الأخلاقية التي بلورها كانط لا تزال تسود بلدان الغرب المتحضرة من ألمانيا إلى هولندا إلى سويسرا إلى بلجيكا إلى فرنسا إلى إنجلترا، إلخ.

فالجميع يلتزمون بأداء الواجب، وعدم الاعتداء على حريات بعضهم البعض. وكل واحد ينجز عمله بإتقان داخل المجتمع أو من خلال الموقع الذي حدده له المجتمع. وهذا الأمر ينطبق على كل المهن والحرف كبيرها وصغيرها. فمن رئيس الوزراء إلى أستاذ الجامعة إلى الطبيب والمهندس إلى النجار والحداد والزبال والتاجر، إلخ، نجدهم كلهم يؤدون واجبهم على أفضل وجه من أجل خير المجتمع والمصلحة العامة ككل.وهذا هو سر تقدمهم وتأخرنا. يضاف إلى ذلك انتشار قيم الصدق، والدقة في المواعيد، والأمانة، والنزاهة الشخصية داخل المجتمعات الأوروبية المتطورة، وتراجع الغش والكذب والاحتيال.

ولذلك تقدمت بلدان أوروبا وتحضرت على عكس بلدان الشرق التي ظلت غارقة في التخلف والجهل والتواكل والكسل وإخلاف المواعيد واحتقار قيمة الزمن والجهد والعمل وسوى ذلك. وأخيرا يمكن القول إن هذا الكتاب يقدم صورة بانورامية عامة عن تطور الفكر في الغرب منذ أكثر من ألفين وخمسمائة سنة وحتى اليوم.

فهو يتحدث في الفصول الأولى عن الفلسفة اليونانية وكيف هيمنت على الغرب قبل ظهور المسيحية. ثم يتحدث بعدئذ عن انتصار المسيحية على الفلسفة اليونانية طيلة عشرة قرون. وبعدئذ يتحدث المؤلف عن عودة الفلسفة إلى الساحة الأوروبية من جديد في عصر النهضة، حيث حصل رد فعل عنيف ضد الأصولية المسيحية.

ثم استمرت الفلسفة في الصعود طيلة العصور التالية من القرن السابع عشر وحتى القرن العشرين وبدايات الواحد والعشرين. ويتوقف المؤلف مطولا عند بدايات الفلسفة العقلانية ذات الطابع الإنساني وكيف انتصرت على الأصولية المسيحية. ومن أهم الفصول هنا نذكر فصلا بعنوان: تأسيس الفلسفة الإنسانية في عصر التنوير على يد جان جاك روسو وكانط. وعلى هذا النحو انتصرت فلسفة الحداثة ذات النزعة الإنسانية.

ثم ينتقل المؤلف بعدئذ إلى فلسفة ما بعد الحداثة، والتي كانت نقدا للأولى. وقد انتصرت في رأيه على يد نيتشه وهيدغر قبل أن تنتصر على يد أتباعهما المعاصرين من أمثال فوكو، ودريدا، وديلوز، وجان فرانسوا ليوتار، وسواهم. وهي فلسفة طغت وزادت عن حدها حتى انقلبت إلى ضدها.

ثم يختتم المؤلف كلامه قائلا: «لقد آن الأوان لكي نتجاوز فلسفة ما بعد الحداثة لأنها أدت إلى العدمية ونسبية القيم، بل وتدمير القيم العقلانية. فقد راحت تساوي بين كل شيء وكل شيء ولم يعد هناك من شيء أفضل من شيء في نظرها».

وضد هذا التطرف العدمي الذي أصاب فلسفة ما بعد الحداثة ينهض لوك فيري ويدعو إلى تأسيس فلسفة عقلانية وإنسانية جديدة تأخذ البعد الروحي أو التساؤلات الميتافيزيقية للإنسان بعين الاعتبار. فالإنسان ليس فقط ماديات واستهلاكات، وإنما هو أيضا روحانيات وتساؤلات نبيلة تتجاوز الماديات.الإنسان ليس حيوانا فقط! فهل ستعيد الحضارة الغربية النظر في تطرفها الإلحادي ونزعاتها الأنانية التي لا تشبع من الماديات؟ هل ستعترف بقيم أخرى تتجاوز الماديات؟ هل ستصحح مسار الحداثة الذي انقلب إلى عكسه؟ هل ستتراجع عن خياناتها لمبادئ التنوير والنزعة الإنسانية العميقة التي أسسها جان جاك روسو وإيمانويل كانط وبقية الكبار؟ هل ستعترف بالحق والعدل في فلسطين أم ستستمر في مناصرة العدوان والاستيطان التوسعي الذي دمر كل آفاق السلام والتعايش المشترك بين العرب واليهود في المنطقة؟ إن دخول فلسطين إلى اليونيسكو كعضو كامل العضوية لدليل على أن الضمير الحضاري لم يمت كليا بعد في الغرب. فقد صوتت لصالحه دول هامة كفرنسا وإسبانيا والنمسا وبلجيكا، إلخ. كما أنه دليل على استحالة طمس قضية قائمة في جوهرها على الحق والعدل. فالحقيقة تنتقم لنفسها بشكل أو بآخر، طال الزمن أم قصر.