دور نشر خاصة تصارع للبقاء.. ومكتبات تتحول إلى مطاعم

سياسة النشر وتوزيع الكتاب في الجزائر

أحمد ماضي
TT

يؤكد معظم المشاركين في هذا التحقيق أن واقع النشر في الجزائر في أزمة حقيقية نتيجة غياب سياسة ثقافية مدروسة، وغياب تقاليد النشر. وعلى الرغم من ظهور دور نشر خاصة، فإنها ما تزال تفتقر إلى التجربة اللازمة، بعدما سيطرت الدولة على كل قطاعات الثقافة، بالإضافة إلى الرقابة، وسياسة والمنع والقيود التي تحول دون استيراد الأجنبي وتصدير الكتاب الوطني.

بدأنا تحقيقنا مع محمد الطاهر القرفي مسؤول «دار تالا» باعتباره شاهدا على تجربتي النشر أيام أحادية حكم الحزب الواحد، ثم التعددية السياسية على السواء. يقول القرفي: «تاريخيا سيطرت الشركة الوطنية للنشر والتوزيع اعتبارا من عام 1962 - سناد - في سياق سياسي فرض توجيه الكتاب إيديولوجيا وصناعيا، وشهدت السبعينيات نشاط دار لافوميك الخاصة والمؤسسة الوطنية للكتاب التي خرجت من رحم الحكومة الأولى وانبثقت عنها المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية التي أدارها باقتدار مديرها العام الراحل محمد بلمنصور. وساهمت أنا كمدير نشر في هذه المؤسسة في إطلاق تجربة سلسلة الأنيس التي غطت رموز الأدب العربي والعالمي كما تميزت المرحلة بنشاطات ديوان المطبوعات الجامعية - والمؤسسة الوطنية لحزب جبهة التحرير الوطني والوكالة الوطنية للنشر والإشهار. والأخيرة لم تبدأ في النشر إلا في التسعينيات وكل الدور المذكورة رضعت من ثديي البقرة الحكومية الحلوب في عز الحكم الاشتراكي على الطريقة الجزائرية».

ثم جاءت تجربة الخصخصة، التي خرجت من رحم التجربة الحكومية عام 1987 وملأت عشرات الدور «الخاصة» السوق، ومن بينها «دار تالة» التي يديرها القرفي منذ عام 1996. عن هذه التجربة، يقول القرفي: «إنها ليست خصخصة حقيقية لأن السياق التاريخي والسياسي والمادي لم يكن يسمح بحرية نشر، ولم يكن باستطاعة الناشر الخاص طبع وتوزيع أكثر من ألف نسخة وربما 500 عند البعض الآخر باستثناء أولئك الذين راهنوا تجاريا على الكتاب الديني الواسع الانتشار». ومن الدور التي برزت يومها ذكر القرفي دور «الهدى» و« الشهاب و«القصبة» و«هومة» و«البرزخ» التي أشرف عليها شبان اهتموا بنوعية الكتب التي يصدرونها، ولم يكن يهمهم الربح المادي، بينما، كما راهن البعض الأخر على الكتاب المدرسي والشبه المدرسي وكتب الطبخ، أي « الكتب القاطرة»، على حد تعبير القرفي، الأمر الذي ضمن لهم أرباحا جيدة.

أحمد ماضي مدير «دار الحكمة» يعتقد العكس، إذ يرى أن الأعوام الأخيرة قد عرفت تحسنا نوعيا وكميا بفضل تزايد الدعم الحكومي لعدد كبير من الدور الخاصة علما أنه تحدث عن «خصخصة» وظفتها الدولة لإحياء احتفاليات «الجزائر عاصمة الثقافة العربية» عام 2007 الذي شهد طبع 1200 عنوان، لكنه استدرك بقوله: «إن دعم الدولة يتناقض مع عرف تقليد السوق لأن الناشر يجب أن يضمن للمؤلف شراء وزارة الثقافة لكتابه كما هو الحال مع الكتاب المدرسي والجامعي». القارئ موجود في الجزائر حسب ماضي ولكن الكتاب لا يصل إليه نتيجة غياب التوزيع وسيطرة موزعين أميين يفرضون على الناشر الكتاب الذي يريدون توزيعه. وحتى يحل معضلة التوزيع على طريقته، أطلق ماضي في التاسع عشر من مارس (أيار) الماضي، بمناسبة يوم الطالب، تجربة الحافلة الموزعة للكتاب عبر كافة أرجاء الجزائر.

* الخبز والحليب بدل الكتاب

أما مولود سلمان المسؤول السابق للثقافة والإعلام لحزب جبهة التحرير والطاهر بن عائشة، الباحث المعروف في التراث والمخطوطات، والطالب الجامعي رشيد بومدين، والكاتب الصحافي الطيب ولد عروسي، فقد أكدوا جميعا أن غياب تقاليد طبع وتوزيع الكتاب، التي يجب أن تأتي ضمن مقاربة ثقافية شاملة، واللهاث وراء الربح السريع، وغلاء أسعار الكتب، كلها عوامل لا تسمح بالتحدث عن واقع إيجابي «فالمواطن البسيط غير قادر على دفع مقابل كتب غالية ويفضل شراء الخبز والحليب لأولاده» على حد تعبير سلمان. القرفي لا يوافق على الطرح المذكور ويقول «الجزائريون والجزائريات يشترون آخر صيحات موضات الملبس ولا يشترون الكتاب لأنه غالي الثمن، في الوقت الذي تحولت فيه مكتبات قديمة إلى مطاعم في أشهر شارعين يحملان اسمي الشهيدين العربي بن مهيدي وديدوش مراد.

* الرقابة والمنع

وادي بوسعد صاحب مكتبة «الاجتهاد» المعروفة والواقعة في شارع شاراز سابقا ودار «إيناس» للنشر قال لـ«الشرق الأوسط» إن «واقع النشر والكتاب والمكتبات ليس إيجابيا على كافة المستويات بدءا بنوعية وكمية الكتب المتوفرة، مرورا بالطبع والتوزيع والتسويق وصولا إلى القيود الرهيبة على تصدير واستيراد الكتاب». والشيء الأخطر كما يضيف هو التضييق على حرية النشر، وهو نفس أحد ضحايا المنع. يقول: «لقد منعت من بيع كتاب محمد بن شيكو (سجون الجزائر) الذي تمت مصادرته في معرض الكتاب مثل كتب بوعلام صنصال وسليم باشي ومحمد عباسة - بوتاكين - وآخرين علاوة على منع بيع كتاب (إنجيل الحاسوب) من منطلق الظن أن الأمر يتعلق بالتبشير».