«فن التصميم».. العرب يعشقونه ويجهلونه

مشروع تموله إسبانيا ويجول به سامر يماني عواصم المنطقة

TT

* بات المصممون جزءا لا يتجزأ من أي صناعة كانت بدءا من صناعة الكتب وصولا إلى صناعة السيارات أو الطائرات والصواريخ.. المصممون هم اليوم من يقترحون علينا شكل ملابسنا وألوانها كما الإكسسوارات التي نتحلى بها وزخارف الصحون الموجودة على موائدنا أو القدور التي نطبخ فيها.. المصمم أيا كان مجاله هو فنان حاضر في كل تفاصيل حياتنا اليومية، ومع ذلك لا ننتبه لوجوده.. لماذا؟

لم يعد الإبداع مجرد لوحة على حائط أو منحوتة في حديقة، صار جزءا من الحياة اليومية ومندغما فيها. المبدعون هم من يصممون لنا كراسي بيوتنا، وأشكال هواتفنا، وتقليعات ملابسنا. هم اليوم من يجتهدون لجعل نظاراتنا مختلفة، وصالات معارضنا أنيقة، ومقاهينا ذات مناخات متباينة. ولأن التصميم في العالم العربي لا يزال إبداعا مجهولا، أو على الأصح غير معترف به، بالنسبة لجمهور الناس الذين يعيشون في نعيمه، فإن مشروع «درب التصميم» تيمنا بـ«طريق الحرير» الذي تموله وزارة الثقافة الإسبانية، أخذ على عاتقه التجوال في دول، لا يزال المصممون فيها يبحثون عن فرصة لتطوير معارفهم، وتسويق ما تتفتق عنه أخيلتهم. المشروع تقوم به «جمعية الحوار الخلاق» ومركزها لشبونة، أسسها السوري - اللاتيني سامر يماني، معطيا أولوية للدول العربية، معتبرا أنه بذلك يدعم اقتصاد المعرفة في الدول التي ينشط فيها.

يوم الأول من الشهر المقبل يحل سامر يماني في دبي، وتحديدا في غاليري «تشكيل» بالتعاون مع «هيئة دبي للثقافة والفنون» مع ستة من كبار أساتذة التصميم، حيث يقام معرض وتعقد ورشات وتلقى محاضرات، الهدف منها تبادل المعارف، وتطوير إمكانيات المصممين المحليين الذين سينتهون بتصاميم خاصة بهم يشاهدها الزوار في معرض خاص.

سامر يماني، مصمم ديكور، مولود في هندوراس، عاد إلى سوريا في التاسعة من العمر ليكمل تعليمه هناك، ويتخصص بعد ذلك في هندسة الديكور في مدرسة الفن بمدريد، ويبقى في إسبانيا. هو أحد الذين اختارهم «المجلس الثقافي البريطاني»، من خلال برنامج الريادة الثقافية الذي شمل دولا عربية كثيرة، وأظهر براعة في مجاله. متخصص في فن تصميم المعارض أيضا، له ثلاث مسرحيات، ويعمل حاليا على تصميم مجموعة جديدة من المفروشات يطلقها عام 2012، كما أنه أستاذ في عدد من الجامعات في برشلونة ومدريد ولندن.

كل المجالات التي ينشط من خلالها يماني يجمعها فن التصميم. وبالتعاون مع شريك محلي في كل بلد، جال مشروع «درب التصميم» قطر، عمان، مسقط، الدار البيضاء، وهناك خطة لزيارة المكسيك وفنزويلا. ويشرح يماني أن «غالبية الذين انضموا إلى ورشات العمل في البلاد التي زرناها كانوا من المحترفين، مما يدلل على رغبتهم في تحسين أدائهم». ويضيف: «لا، بل هناك جوع عند المصممين للحصول على فرص.. هم ينتظرون مشروعا مثل مشروعنا ليصقلوا مواهبهم، ويقدموا أعمالهم. فهناك من يقول لك أنا أصمم كرسي أو طاولة، لكنني لا أعرف كيف أسوق تصاميمي، كيف بمقدوركم مساعدتي؟».

ما يلفت له يماني أن الدولة الإسبانية على الرغم من كل ما تمر به من أزمات مالية، قبلت بتبني مشروعه وتمويله، على الرغم من أنه مكلف جدا، وذلك لأن الاستثمار بالتصميم سيعود بالفائدة المادية والربح، ولا بد أنها مؤمنة بذلك. وهو ما انتبهت إليه الدول التي استضافت المشروع، مثل البحرين مثلا، حيث إن وزيرة الثقافة، الشيخة مي بنت محمد آل خليفة، حضرت شخصيا الفعاليات، وشجعت المصممين.

يبقى المصمم في البلدان العربية مهمش الدور، من مصمم المجوهرات وصولا إلى مصمم الديكور أو حتى الأثاث، مرورا بمصممي الكتب، وماكيتات المجلات. وهو ما يحاول هذا المشروع التنبيه إليه. ففي سوريا مثلا انصب اهتمام إحدى الورش على تصميم الكتب، «لأن المنشورات بقيت لفترة طويلة حكرا على ما تصدره الدولة هناك، ولم تصبح حرة وفي متناول القطاع الخاص، إلا مؤخرا، مما جعل العمل الفني على الكتب يتأخر كثيرا». وبالتالي فإن كل دولة يحط بها المشروع، يحاول مع هيئات محلية اكتشاف حاجاتها وأولوياتها.

يتساءل يماني: «كيف لبعض العرب أن ينكروا أهمية الدور الجمالي، فيما الحضارة الإسلامية قامت على الإبداع في الهندسة المعمارية والزخارف والخطوط، لا بل وفي كل مناحي الحياة. العربي يعرف الإبداع في الموسيقى كما في الأكل والمساجد والكنائس. هل يتقبل المسلمون أن يقدم لهم القرآن كما تقدم الجريدة بالأبيض والسود مثلا؟!».

المشكلة في المجتمعات العربية تبدأ منذ الصغر، من المنظومة التعليمية التي لا تعنى بالموسيقى أو أي من الفنون، ويكبر الطفل وهو محاط بالبشاعة، وحين يخرج من بيئته يحتاج الإنسان لشهور ليغسل عينيه. الذاكرة البصرية عندنا مليئة بالتشوهات، هذا عدا القهر الفكري الذي هو أسوأ من القهر السياسي. وبعد المناخ العام غير المؤاتي (كما يشرح لنا يماني) هناك عدم الثقة بالنفس.

المصمم الغربي يرسم خطا أسود مثلا، ويدافع عنه حد الاستماتة، فيما يبدع العربي وكأنه يستحيي بإنتاجه. ويشرح لنا يماني أن «الهند باتت اليوم من الدول البارعة والصاعدة في مختلف مجالات التصميم، ويحسب لها حساب. أما الصين مثلا، فرغم كل إنتاجها وضخامته، تعتبر من الدول المتأخرة جدا في مجال التصاميم، ولتدارك الأمر أخذت ترسل طلابها إلى أفضل جامعات العالم، وتصرف المليارات للتخلص من ضعفها في هذا المجال».

العالم العربي أسوأ حالا من الصين، بطبيعة الحال لكنه لا يحرك ساكنا. التذرع بالحاجة إلى أموال ليس سببا مقنعا لإهمال الجانب التصميمي؛ «فالعمارة الجميلة كما البشعة تكلف أموالا، وبدل أن تدفع الأموال بسخاء للمتعهد، ليكن جزء منها للمصمم». يشرح لنا يماني: «الجميل والمبتكر عوائده أكبر والاستثمار فيه أنفع. هذا فضلا عن أن المفاهيم في العالم باتت تتغير بسرعة. لم تعد الفخامة مقياسا للجمال، وما عاد الذوق العام يميل للرخام الإيطالي وخشب السنديان، صار الالتزام البيئي في التصميم هو الذي يجذب المستهلكين».

في كل مدينة يمر بها مشروع «درب التصميم» يشارك ما يقارب 60 إلى 70 مصمما في ورشه ومحاضراته، ينخرطون يتعلمون، يعلمون ويبدعون. وفي دبي وتحت عنوان «روج لمدينتك» سيتم البحث عن مكامن الإبداع في المدينة، من خلال اكتشاف الميول الشخصية للمشاركين. والهدف دائما هو الإصرار على المحلية وتحسين الأداء، للانطلاق إلى العالمية. وبمرور الوقت من الممكن تحويل هؤلاء المبدعين إلى جيش يخلق مناخا جماليا عاما.

الأزمة يقول يماني متفرعة لكن من أهم جوانبها ربما «هو انعدام الثقة بين المصمم المحلي وبيئته أو الناس المنتظر منهم تشجيعه وتحفيزه». هناك جهل من الناس، بأن شكل السيارة التي يركبونها احتاج إلى خيال مبدع، والتلفزيون الذي يشاهدون من خلاله العالم تطلب إخراجه بهذا الشكل مصمما صاحب خيال أيضا. والحل بحسب يماني، لتحريض الناس على فهم هذه الحقائق، هو تنظيم معارض للمصممين، بحيث يتكبد الناس، عناء الانتقال من مكان إلى آخر، ليتفرجوا ويتأملوا ويكتشفوا أهمية التصاميم، وما هي وظيفتها؟ وكيف أن شكل المنتج يغير حتى في طريقة استعمالنا له، أو رؤيتنا للشيء الذي نمتلكه أو ربما نراه فقط».

سبعة أيام في دبي ستكون عيدا للمصممين ولعشاق رؤية التصاميم الخلاقة. هناك مثلا ورشة عمل للفن الغرافيكي، وأخرى متخصصة في تصميم المعارض. وهو ربما من مجالات التصميم الأكثر فقرا وجدبا في بلادنا، إذ لا تزال المعارض تقام على الطريقة التقليدية، حيث إنها لا تدهش الزائر، أو تشعره بجديد يذكر عند دخولها. وكأنما الاهتمام بالمعروضات لا يعني الاهتمام بتنظيم المعرض، وطريقة تقديم المنتجات لجمهور الناس.

ويقول يماني: «هناك علاقة تعاون مهمة تربطنا بجامعات كثيرة، مثل جامعة كينغستون في لندن وجامعة اليسافا في برشلونة وما فرصة تقديم أعمالي كمصمم من الشرق الأوسط في متحف التصميم في لندن إلا ثمرة لهذا البرنامج».

التصميم ليس فنا جديدا بطبيعة الحال، فالإنسان منذ وجد وهو يحاول أن يجعل أشياءه أجمل وأشهى في نظره، لكن التصميم اليوم بات له متخصصون أكاديميون وأساتذة وناشطون يدافعون عن حقه في الوجود. ولعل العرب من أكثر شعوب الأرض ولعا بالمظاهر، ومطاردة للتصاميم الحديثة، لكن للأسف يبدو أنهم لا يعلمون ما يعشقون!